أخبار السودان

الصحافة السودانية.. الميزان المختل.. فتحي الضو: كثرت الأكاذيب وتضاءلت المعايير الأخلاقية، هكذا هو السودان

الحلقة الأولى
للصحافة السودانية تاريخ عريق، بالرغم من ارتباطها بعهد المستعمر، أو انتمائها العقدي في ذلك الزمان. الآن الصحافة السودانية تمر بمنعطفات هي الأخطر في تاريخها، وأصبح مستقبلها غامضاً كما ذكر الصحفي الشاب الزين عثمان. الصحافة كما يراها هيكل هي ورقة الأخبار، وبالتالي فإن المحرر الصحفي هو العمود الفقري لأية صحيفة. الأمر الآن اختلف، وأصبح كاتب العمود الذي يبني رأيه على ما يأتي به الصحفي الذي سخر نفسه للبحث عن المعلومة دون اكتراث لهجير الشمس، وزمهرير الشتاء، ومطارداً لها في ظلمات الليل الحالكة معرضاً نفسه لأحلك المخاطر، ثم يأتي كاتب العمود الذي لا يكلفه عموده سوى دقائق لتكون له الحظوة الكبرى في العائد المادي آخذاً عشرة أضعاف ما يأخذه هذا الصحفي الكادح الذي تقوم على أكتافه أية صحيفة، مجسداً بذلك ما جاء في المثل السوداني: “الخيل تجقلب، والشكر لي حماد”. فمن المسؤول عن تشويه الصحافة السودانية؟ وما هي مبررات الناشرين في هذه المفارقة الكبيرة؟
تحقيق: نصرالدين عبد القادر
الصحفي السوداني
الصحفي يجب إشباعه مثل القاضي..!
الصحافة هي سلسلة مترابطة، ومتدرجة يبدأها الإنسان بمخبر، فمحرر أخبار، ثم رئيس قسم، ثم سكرتير تحرير، فمدير تحرير إلى أن يصل إلى مرتبة رئيس التحرير. هذه التراتبية مسألة ضرورية في الدول التي تحترم الصحافة، وربما لن تجد في هذه الدول أن كاتب عمود أصبح رئيساً لتحرير صحيفة، لكنها أزمة في دول العالم الثالث خاصة السودان. ما يعنينا هنا المفارقة العظيمة في الأجور بين المحرر الصحفي الذي يحمل على أكتافه الصحيفة،
وكاتب العمود الذي يتقاضى ما قيمته تساوي أحياناً مرتب خمسة عشر محرراً صحفياً يتكبد المشاق في سبيل البحث عن المعلومة. الأمر الذي يعتبر محبطاً لكثير من الصحفيين، وطارداً لهم من هذه المهنة التي أصبحت مصدر تعاسة بالنسبة لهم. وأخطر ما في هذه المفارقات هو أن يتجه الصحفي إلى أساليب ملتوية تجبره عليها ظروف الحياة وشظف العيش، فيأخذ أموالاً من جهات غير الجهة المشغلة له، وربما الصحف على علم بذلك. وفي هذا الأمر يقول الأمين العام للمجلس القومي للصحافة والمطبوعات الدكتور عبد العظيم عوض إن الراتب الذي يتقاضاه الصحفي يعتبر ملاليم لا تسمن ولا تغني من جوع. والصحفي يجب أن يعامل كما يعامل القاضي، ونحن نقول في المثل “القاضي شبعوه”. والصحفي مهنة خطيرة، ولا بد أن يجد البيئة المهيأة للعمل حتى لا ينحرف. لذلك أصدر المجلس لائحة حدد فيها الحد الأدنى للأجور ليكون (1500ج).
هيكل: Newspaper is a newspaper
عميد الصحافة المصرية محمد حسنين هيكل الذي يعتبره كثيرون أيقونة الصحافة العربية، بل وصفوه بـ”صحفي القرن”، و”ذاكرة مصر والعرب في مائة عام”. بالرغم من هذا المجد العظيم الذي يحظى به الرجل تراه قد بدأ حياته المهنية بالتدرج الطبيعي للصحافة. يرى هيكل أن كاتب العمود، أو كتّاب الرأي من الخطإ أن تكون لهم الحظوة الكبرى في الصحف، والصحف الحقيقية هي صحف الأخبار، لأن أعمدة الرأي يغلب عليها التوجه السياسي أو توجه الرأي نفسه، فيقول: “شعار صحيفة نيويورك تايمز في ذلك الوقت كان واضحاً، وهو : Newspaper is a newspaper، يعنى ورقة أخبار، وإذا قدمت صحيفة لشيء آخر غير الأخبار، فهذا كلام فارغ، لأن كل الناس في حاجة لمعرفة الأخبار، الرأي “على عيني ورأسي”، لكن المشكلة عندكم في المقام الأول هي إما غلبة التوجيه السياسي وإما غلبة الرأي، وهذا غير صحيح في رأيي، فأول شيء يجب الاهتمام به هو الأخبار، وأي جُرنال قائم على الأخبار، يعني أولاً : الخبر، وثانياً : شرح هذا الخبر بما فيه من تفاصيل وتحليل، وثالثاً إمكانية التعليق عليه، ولا يوجد شيء رابع.
الصحفيون شكلهم بائس..
الصحفي القدير عمار محمد آدم وصف حالة الصحفيين اليوم بالبؤس واليأس، مطالباً في ذات الوقت بأن يوفر لهم الاتحاد سكناً وسط الخرطوم، لأن الإحتياج إليهم يكون تحت أية لحظة. يقول الأستاذ عمار إن الصحفيين أشكالهم يبدو عليها البؤس والشقاء. والصحافة التي كانت ممرحلة في وقت سابق، وحتى الآن في الدول المتقدمة، أصبحت معاييرها مختلفة عندنا اليوم. وأضاف بأن الصحافة أساسها الصحفي وليس كاتب العمود، مع ذلك التقييم الذي يجده كاتب العمود ربما يشعر الصحفيين بالغبن والاحتقان، وهذا الأمر أصبح سبباً رئيساً في هجرة الصحفيين الشباب. وبعض الصحفيين خاصة الكاتبات الصحفيات اللواتي يتناولن أجراً يساوي أضعاف أجر المحررين، وهن لا يكتبن ما ينشر، بل يكتب لهن بعض الناس، وهذه كارثة أخرى.
أما مدير التحرير بصحيفة الشرق القطرية الدكتور عبد المطلب صديق وصف في ندوة أقامها قبل أشهر بمقر صحيفة السوداني المفارقة بين أجر الصحفي وكاتب العمود في السودان مبالغ فيها إلى درجة بعيدة. وقال: إن الأمر في صحيفة الشرق القطرية يختلف تماماً، فهناك الكاتب الصحفي الكبير فهمي هويدي لا يعلو راتبه على أجر المحرر الصحفي، لأن المحرر هو الذي تقوم على عاتقه الجريدة.

واقع الصحفي أسوأ ما يكون..!
الصحفي الشاب بصحيفة اليوم التالي الزين عثمان يرجع المفارقات في الأجور بين الصحفي وكاتب العمود إلى فلسفسة الناشرين التي تقوم في مقامها الأول على مبدأ الربح والخسارة. يقول الزين: تقوم فلسفة (المستثمرين) في الصحافة على أن الكاتب الصحفي يساوي عشرة أضعاف الصحفي فيما يتعلق بالمرتب، ويتم التبرير لهذا النهج بأن “إكس” من الكتاب هو من يبيع الجريدة عبر عموده، والمفارقة تكمن في أن هذا المعني العمود تتم كتابته في الصفحة الأخيرة، ما يعني أن خمس عشرة صفحة يجب أن تسود بأحبار الآخرين، ممن يقومون على أمر الأخبار والحوارات والتقارير. ثم تأتي المفارقة في الأجور بين مرتبات الصحفيين مقارنة بالكتاب، وهي مفارقة لا يمكن فصلها بأي حال من الأحوال عن المفارقات في واقع الصحافة السودانية التي تعيش أسوا فتراتها وفقاً لما قال الاستاذ محجوب محمد صالح، وتمثل عملية ترجيح كفة الكاتب الصحفي على الصحفي تعبيراً عن حالة هذا التراجع الذي ضرب العملية الصحفية برمتها . ويضيف الزين: لا تبدو الأزمة في وجود المفارقة بين مرتب ومرتب داخل مؤسسة واحدة مقارنة بما يقوم به كل من الجانبين حين تتساوى (400) كلمة بـ(4) آلاف كلمة، بقدر ما تتمظهر بشكل كبير في عدم السعي لإيجاد حل للمعضلة سيظل (الناشرون) في يقينهم بأن الكاتب أولاً.

سيحتج الصحفيون على ذلك ويضيع صوتهم في (الفراغ) المسبب بغياب جسم يعبر عن حقيقة مطالبهم وينطلق لتحقيق غاياتهم وأهدافهم رغم وجود لافتة في شارع النيل تحتها تهنئة بعيد (الاستقلال) موقعة باسم اللجنة التنفيذية لاتحاد الصحفيين والتي تمثل قضايا الصحفيين آخر اهتماماتها . سؤال بسيط يمكنه أن يحدد ويرسم كل الصورة من الذي قام باستلام (الركشات والتكتك والتكاسي؟) التي جلبها الاتحاد لمنسوبيه وقبلها؟ لماذا وسائل بديلة لتوفير لوازم العيش ؟ والإجابة واحدة هي أن الواقع بالنسبة للصحفي اسوأ ما يكون والمستقبل غامض.

المحرر الصحفي أساس الجريدة، ولكن…
أما الصحفي بصحيفة آخر لحظة عمر دمباي المفارقة في هذا الأمر كبيرة جداً.. فالمحرر الصحفي هو الأساس الذي تقوم عليه الجريدة، وهو الذي يبحث عن الأعلام في كل الأوقات، معرضاً نفسه لهجير الشمس وزمهرير الشتاء، غير آبه بما يصيبه من أرق، حتى لو كلفه الأمر حياته. أما كاتب العمود فينتظر هذا المحرر الذي بذل كل هذا الجهد في سبيل البحث عن هذه المعلومة، ومن ثم في أقل من نصف ساعة يبني عموده على هذا الخبر، ويرسله عبر الواتساب أو غيره، و راتبه يساوي راتب هذا المحرر عشرات الأضعاف.. هذه المسألة تسببت في تراجع الصحافة الاستقصائية لشعور المحرر الصحفي بالتذمر، وتفقد الصحيفة مهنيتها؛ لأن كاتب الرأي يوجه هذا الخبر حسب هواه وتوجهه. وهذا ما قاله هيكل فيما أوردنا في الأعلى في مسألة أن كتاب الأعمدة يغلب عليهم إما الرأي، وإما التوجه وفي هذا اتفاق بين دمباي وهيكل.

كتاب الأعمدة داعم أساسي ولكن…
الصحفي الشاب بصحيفة الصيحة صابر حامد يرى بأن الكاتب يعتبر داعما أساسياً للصحيفة ولكن…! لكن هذه نراها معاً في إفادته التالية، فيقول: “بالطبع كتاب الأعمدة بالصحف الداعمون الأساسيون لنجاح كثير منها؛ لأن كل كاتب لديه قراء يتابعونه. لكن بالمقابل نجد أن المحررين، خاصة محرري الأخبار بالصحف يعتبرون العمود الفقري لكل الصحفية لأنه إذا غاب الخبر فلن نجد صحيفة ولا مقالاً. بالرغم من إمكانية إحتجاب الكاتب عن الكتابة أياماً، والمفارقة هنا للأسف نجد أن راتب كاتب العمود يكاد يفوق (500%) من راتب المحرر الصحفي، وهذا بالتأكيد إجحاف في حق المحررين لأنهم هم الذين يقومون بالبحث عن المعلومات لتحريرها طيلة ساعات النهار من مؤسسة لأخرى في هجير الشمس خاصةً وأن الغالبية من الصحف ليس لديها ترحيل. لذلك في تقديري إن هذا ظلم بيِّن للمحررين وعلى مجلس الصحافة والمطبوعات معالجة هذا الأمر بردم هذه الفجوة الكبيرة بين المحرر والكاتب؛ بإعطاء المحررين مقابلاً مالياً يوازي مايقومون به، ولا أجد مبرراً في أن يتقاضى كاتب العمود (25) ألف جنيه والمحرر الصحفي يتقاضى (800ـ 1500)، في حين أن الكاتب يكون مرتاح البال و”الجسد” في بيته يقوم فقط بقراءة ما كتبه المحرر “المظلوم” والتعليق عليه في حدود الـ(300) كلمة. يتفق الصحفي محمد أبوزيد مع زميله في الصيحة صابر فيما ذهب إليه بأن هنالك ظلماً بيِّناً يقع على المحررين الصحفيين، لكنه يضيف ما يسمى بكاتب الشباك يعتبر كارثة في الصحافة السودانية، وحتى هؤلاء صنعتهم ظروف محددة، وليس إمكانية عقلية أو فكرية، إنما خدمتهم الظروف وتنافست عليهم صحيفتان صنعت لهما هذه النجومية، وهذا الأمر لا نجده في الصحافة الخليجية، فهنالك نجد أن الجريدة أساسها الصحفي وليس كاتب العمود، وهذا ما ينبغي أن يكون.
الأمر بهذه الصورة يقود إلى “الزبالة”..!
الزبالة من المصطلحات التي دخلت مؤخراً في الصحافة السودانية، وتعني أن يتقاضى صحفي ما، من جهة ما مبلغاً من المال على أن يكتب هذا الصحفي عكس ما ينبغي أن تكون عليه الحقيقة، وأحياناً تقدم بعض المؤسسات هبات لبعض الصحفيين شفقة عليهم دون إملاء، لكنها بصورة أو بأخرى تؤثر على مهنية الصحفي. وبعض الصحفيين ربما يكون أكثر شراسة مع هذه الجهات التي تدفع له المال متخذاً مبدأ “أُكلو توركم وأدو زولكم” وهو مبدأ أنصاري قديم كما تقول مجالس القوم. تقول الصحفية بصحيفة الجريدة عازة أبوعوف: إن المفارقة بين كاتب العمود والصحفي في الأجر تفقد الصحفي مهنيته ومصداقيته، وربما تجبره على التعامل بالزبالات في ظل الظروف التي تعيشها البلاد.
الحق الأدبي للمحرر خارج قاموس كاتب العمود..!
الحق الأدبي للمحرر الصحفي خارج قاموس كاتب العمود في كثير من الأحيان إلا عند قلة من الكتاب. فعندما يأتي الصحفي بخبر خاص له صداه، يتناول كاتب العمود هذا الخبر دون ذكر ذكر اسم صاحب هذا الخبر الذي بذل فيه مجهوداً ذهنياً وبدنياً ومالياً، وربما يشير فقط إلى أن هذا الخبر ورد بالزميلة الغراء (……). وهنا يضيف الصحفي الزين عثمان إن الأمر يتنافي مع مباديء الأمانة العلمية، والحق الأدبي الذي يجب مراعاته، وهو أمر أخلاقي في المقام الأول.
نواصل…
مهما يكن من أمر فإن نقد الذات للصحافة السودانية هو أمر يحتاج إلى شغل كبير، نواصله في هذه السلسلة.
نلتقي..!

[COLOR=#FF000F] الحلقة الثانية[/COLOR]

للصحافة السودانية تاريخ عريق، بالرغم من ارتباطها بعهد المستعمر، أو انتمائها العقدي في ذلك الزمان. الآن الصحافة السودانية تمر بمنعطفات هي الأخطر في تاريخها، وأصبح مستقبلها غامضاً كما ذكر الصحفي الشاب الزين عثمان. الصحافة كما يراها هيكل هي ورقة الأخبار، وبالتالي فإن المحرر الصحفي هو العمود الفقري لأية صحيفة. الأمر الآن اختلف، وأصبح كاتب العمود الذي يبني رأيه على ما يأتي به الصحفي الذي سخر نفسه للبحث عن المعلومة دون اكتراث لهجير الشمس، وزمهرير الشتاء، ومطارداً لها في ظلمات الليل الحالكة معرضاً نفسه لأحلك المخاطر، ثم يأتي كاتب العمود الذي لا يكلفه عموده سوى دقائق لتكون له الحظوة الكبرى في العائد المادي آخذاً عشرة أضعاف ما يأخذه هذا الصحفي الكادح الذي تقوم على أكتافه أية صحيفة، مجسداً بذلك ما جاء في المثل السوداني: “الخيل تجقلب، والشكر لي حماد”. فمن المسؤول عن تشويه الصحافة السودانية؟! وما هي مبررات الناشرين في هذه المفارقة الكبيرة؟!
تحقيق: نصرالدين عبد القادر
هنالك خلل في بنية الصحافة السودانية
“ينقسم الصحفيون إلى نوعين، نوع يهتم بما يهتم به القراء. ونوع يدفع القراء للاهتمام باهتماماته هو، وهذا النوع هم الصحافيون الكبار”. هذه المقولة في حالة صحافتنا السودانية ترتبط بكتاب الرأي الذين يمثلون النوع الثاني، أما النوع الأول، فهم الصحفيون الذين يتكبدون المشاق بحثاً عن المعلومة، ومن ثم وصفها وتحليلها. هذا الكلام في مجمله يتطابق مع ما جاء في إفادة الأستاذ محمد عثمان دباويا الذي يعتبر خبيراً في الإعلام، خاصة الصحافة، حيث عمل بصحيفة “جولف نيوز” البرطانية (26) عاماً حتى تقلد منصب نائب رئيس التحرير، وهو السوداني الوحيد الذي درس بالمعهد الدولي للصحافة بالولايات المتحدة بحسب ما ذكر، والآن يعمل بعدد من مراكز التدريب المعتمدة دولياً في مجال الصحافة والإعلام، وعمل أيضا بجريدة الصحافة السودانية. بهذه السيرة المميزة كان لا بد أن يؤخذ رأيه في أمر الصحافة السودانية بحسب ما ورد في العنوان أعلاه. يقول في إفادته، وهو الذي بدأ حياته المهنية في مجال الصحافة بالتدرج الذي ذكرناه في الحلقة الأولى إلى أن تقلد منصب نائب رئيس تحرير في صحيفة من أكبر الصحف البريطانية؛ فيقول: الصحافة السودانية تعاني من خلل كبير خاصة في جدلية العلاقة بين الكاتب والصحفي؛ فالصحف الكبرى لها سياساتها الواضحة، وهي صحف أخبار في المقام الأول، وليست صحف رأي، كما في حال الصحافة السودانية. الصحيفة يجب أن يكون لها عمود افتتاحي ثابت حتى تتماشى مع الأسلوب العالمي، لأننا نرى في الصحف العالمية ونطالع أن “واشنطن بوست” أوردت في صحيفتها كذا، أو صحيفة “الوطن القطرية” أوردت في إفتتاحيتها كذا، أما في السودان فهذا العمود الإفتتاحي مفقود إلا في صحيفتي الأيام والجريدة
هذا العمود الإفتتاحي هو الذي يحدد توجه الصحيفة وسياستها التحريرية، وليس كتاب الأعمدة. ثم تتميز الجريدة بأخبارها المتفردة، وسبقها الصحفي وهذا يقودنا إلى مسألة مهمة وهي أن الصحفي يجب أن يكون صاحب الحظ الأوفر من الإهتمام، وليس الكاتب. ينبغي أو توفر للصحفي كل الوسائل المعينة على عمله، لكن يبدو أن الصورة معكوسة في الصحافة السودانية، وهذا أمر يحتاج إلى معالجات سريعة، حتى تستطيع صحافتنا أن تواكب. ويختتم دباويا حديثه بأن كتاب الرأي يعرضون مواضيع شخصية، القارئ ليس في حاجة إليها، وإلا لذهب لقراءة رواية أو كتاب قصصي، و بعض الأعمدة لا تتوفر فيها معايير العمود الصحفي، وأحيانا تشعر أنها جيء بها لملء المساحات. الصحف الكبرى تجد كتاب الأعمدة بها قلة، لكن لهم وزنهم وتاريخهم في العمل الصحفي. أما الأعمدة في الصحف السودانية (80%) منها تعنى بالقضايا الشخصية، وليس القضايا التي يحتاجها القاريء، وهذه من باب أولى ألا يدفع لصاحبها جنيهاً، ناهيك من يأخذ أكثر من أجر الصحفي. الصحافة الآن تحت ظل غياب الرؤى الواضحة للصحف أصبحت تفتح الباب على مصراعيه، لكل “من هب ودب”.
الصحفيون سيجبرون الناشرين على التنافس عليهم..!
يرجع بعض الصحفيين الشباب مسألة المفارقة بين أجر الصحفي والكاتب إلى إرتباط الصحافة السودانية منذ بداياتها الأولى بكتاب الأعمدة، ولكن يختلف مع رأي آخر ـكما جاء في الحلقة السابقة ـ وهو الرأي الذي يربط الصحافة في بداياتها بمصلحة المستعمر، والآن يجب أن يتغير الحال.
وهنا يقول الصحفي بجريدة الجريدة عبد الهادي الحاج: إن الصحافة السودانية منذ عهدها الأول بدأت كصحافة رأي، وذلك لارتباطها بقضايا السياسة أكثر من الاهتمام بالأخبار بشكل عام، أو حتى قضايا الخدمات، وهموم المعيشة اليومية التي تنتج عنها التقارير والتحقيقات الصحفية. ويضيف الحاج: وفي ظل هذا الواقع الذي شكل ميلادها الأول كان لابد أن تكون الحظوة لكتاب الرأي الذين يكتبون حسب رؤيتهم السياسية والتي تشبع رغبة القارئ “المسيَّس” هو الآخر، ثم ترعرعت الصحافة وأصبح كتّاب الرأي هم النجوم وهم من يحققون مبيعات عالية للصحف، وفي ظل غياب الصحف الحكومية الخالصة أو غير الربحية وصدور كل الصحف عن شركات خاصة ربحية من الطبيعي أن يهتم الناشر بالتوزيع العالي الذي يجلب الإعلان وبالتالي يحقق أرباحاً عالية. أضف إلى ذلك ضعف قدرات بعض المحررين ـ وهم يعلمون ذلك ـ لذا تجدهم يقبلون العمل بأجر زهيد، وهذا بالطبع لايعني أن يأخذ كتاب الأعمدة الأجر الأعلى على أي حال من الأحوال. ويردف: لكن حسب اعتقادي إن الواقع في الفترة الأخيرة قد اختلف إلى حد ما، وظهر نجوم من الصحافيين والمحررين الشباب الذين باتت تتنافس عليهم الصحف لقدراتهم الاحترافية العالية على صناعة مادة صحفية تجبر القارئ على شراء الصحيفة التي يعمل بها، كذلك تغيُّر مزاج القارئ وأصبح يريد أن يرى ويطالع القضايا التي تهمه في الصحف وليس الرأي السياسي. وأتوقع بمزيد من اهتمام الصحافيين بتطوير قدراتهم وتأهيل أنفسهم لصناعة مادة صحفية محترفة سوف يجبرون الناشرين الذين يهتمون بالأرباح على تقليل أجور كتاب الأعمدة لأنهم حينها لن يصبحوا نجوماً، بل سيصبح الصحافي المحرر هو النجم الحقيقي لتحقيق مبيعات عالية لصحيفته.
مفارقات الأجور أصبحت حديث الصحفيين
الحديث عن الأجر الزهيد الذي يتقاضاه المحرر الصحفي أصبح مادة رئيسة في كل جلسة تجمعهم، يقول الصحفي بصحيفة “الأيام ” حيدر عبد الكريم: هذه المسألة ظلت تؤرق كاهل الصحفيين خاصة الشباب بأحلامهم العريضة تحت ظلال هذه الظروف القاسية، وكثيراً ما تتصدر هذه القضية أجندة مناقشاتهم. ويضيف حيدر: كل هذا يرافقه غياب الجسم الحقيقي الذي يدافع عنهم، وهذا الأمر يساهم بشكل أو بآخر فى تكريس هذا الظلم
بالإضافة إلى سوء إدراكهم لقضيتهم.
حان زمن نبش المدفون..!
ويواصل حيدر سرده عن معاناة الصحفيين وضرورة إصلاح الحال مضيفاً: حان الآن وقت نبش المدفون لنهضة صاحبة الجلالة، وإخراجها من واقعها المأزوم عمداً. و الصحافة تختلف عن كل المهن فى كافة أرجاء العالم؛ لجهة أنها تلعب دوراً إرشادياً وتعليمياً، وتشكل نقطة التقاء للآراء حول القضايا العامة؛ لذلك تحتاج إلى اهتمام أكبر بالصحفي لكي لا يقع في ما يسمي مجازاً (بالزبالة) والتي تؤثر في مهنية الصحفي بشكل أو بآخر. ويردف قائلاً: وإذا نظرنا إلى ما يكتبه كتاب الأعمدة الصحفية ـ من ناحية التأثير الذي يتوهمه الناشرون ـ لايمثل إلا نسباً ضئيلة وكثير من القراء يدركون أن الجانب الأبرز في الصحافة هي مواد التحقيقات والتي تبرز القضايا المنسية والحوارات والأخبار. وكثيراً ما نلاحظ ذلك في موادنا الاستقصائية التي تترك صدى حتى وسط كتاب الرأي أنفسهم، وكذلك المهتمون بالصحف ويظهر ذلك في عدد المكالمات التي يتلقاها الصحفي بعد كل تحقيق يجريه. وهنا تظهر الفوارق الجوهرية بين أهمية الصحفي والكاتب وتظل المفارقة في الأجر كارثة بينهما، وشهدنا الكثير من الخلافات الشخصية فى أعمدة الكتاب في السنوات الأخيرة وأعتقد أن ذلك نابع من تزعم هؤلاء بالعظمة وشخصنة القضايا وتناولها بطرق لا تخدم القارئ بأي شكل من الأشكال ورغم ذلك لا جهة تحاسبهم بسبب تمسك الناشرين بهم. واستبعد تماماً اليوم وجود ذلك القارئ الذي يشتري الصحيفة من أجل عمود كاتب معين وإنما الأغلبية يشترون الصحف لموادها المتنوعة ويمثل جهود الصحفيين الجزء المهم فيه ومن هنا ينبغي أن تعيد هذه المؤسسات نظرتها في مسألة الأجور و منح كل موظف ما يستحق. أعتقد إن معالجة هذه الإشكالية تحتاج في المقام الأول إلى إغلاق مهنة الصحافة أمام خريجي التخصصات الأخرى خاصة في ما يتعلق بالأجور بحيث أن لايتم منح من لم يدرس الإعلام أولوية على خريجي التخصص، وأن يمنع هؤلاء من الجلوس لامتحانات المهنة حتى يتم حسم هذه الفوضى وإنقاذ صاحبة الجلالة من هذا الموت المقنن.

إذا غاب الصحفيون لا يستطيع الكتاب تسيير الصحيفة
في رؤية متوافقة مع رؤية محمد حسنين هيكل ـ التي أوردناها في الحلقة السابقة ـ في مسألة أن الجريدة هي ورقة أخبار، يقول الصحفي بصحيفة السوداني عثمان عوض السيد بأن الصحفي هو الدينمو المحركة لأية جريدة، ولا يستطيع كاتب عمود أن يقوم بتسيير جريدة إذا غاب المحررون؛ لأنهم هم من يرفد هذه الصحف بالأخبار، والمهمة الأساسية لأية صحيفة هي رفد المتلقي بالأخبار والمعلومات، وهذا ما يقوم به الصحفي، وليس كاتب العمود. عليه يجب أن يكون أجر الصحفي بالضرورة مواكباً لظروف الحياة المعيشية، والظروف التي يعمل فيها، وهنا لا نطالب بأن يتساوى أجر الصحفي والكاتب، لكن نطالب بتناسبية الأجر مع البيئة، وظروف الحياة نفسها، كيما يستطيع هذا الصحفي القيام بدوره على الوجه الذي ينبغي أن يكون.
قضيتنا العادلة من جانب آخر ضاعف منه وحان الآن وقت نبش المدفون لنهضة واقع صاحبة الجلالة المأزوم عمداً.
من يدفع الثمن؟
الزين عثمان الصحفي باليوم التالي يقول: نحن إذ نعيش هذه المسألة ونعايشها فإننا نستحضر ما قاله أيقونة الصحافة المصرية محمد حسنين هيكل حينما يقول: “الحقيقة غالية، ذلك لأنه لا شيء في معترك الحياة يتحول إلى حقيقة ثابتة إلا بعد التجربة، وعندما تقع التجربة فإن ثمنها يكون قد دفع بالكامل”. وفي واقع صحافتنا نجد أن الصحفي هو من يدفع ثمن هذه التجربة القاسية، ويعيش حياته في أعلى تجليات بؤسها. هذه المسألة برمتها لا تنقطع كما ذكرت سابقاً عن الواقع العام للبيئة الحاضنة للصحافة السودانية. وأكرر مجدداً أن مستقبل الصحافة في ظل هذه الظروف غامض.
كن الأدنى تكن الأعلى فينا
الخلاصة من أحاديث الصحفيين وخبراء الصحافة فيما سبق ذكره في هذه الحلقة، والحلقة السابقة يؤكد مسألة الصورة المقلوبة في الصحافة السودانية التي تضع الكاتب الأعلى مكانة من الصحفي. وحتى بعض كتاب الأعمدة يرون أن الصحفيين السودانيين، خاصة الشباب منهم بأنهم يقعون تحت طائلة الظلم.
هذه الصورة المعكوسة تجسد تماماً ما ذهب إليه محمد مفتاح الفيتوري في أواخر قصيدته ياقوت العرش؛ حينما يقول:
أدنى ما فينا قد يعلونا
يا ياقوتْ
فكن الأدنى
تكن الأعلى فينا..
نواصل..!

فتحي الضو: ولو سألني سائل وقال لي: هل ما تراه هي الصحافة السودانية التي تجاوز عمرها المئة عام؟، سأقول له- بكل طيب خاطر: (يفتح الله)؛ فقد كثرت الأكاذيب، والأباطيل، وتعددت ألوان الخداع، والفهلوة، وتضاءلت المعايير الأخلاقية، وأصبح القياس صعباً.. لكن هكذا هو السودان- الآن- الذي قال شاعره علي نور: (المال عند بخيله والسيف عند جبانه).

زهير السراج: هناك مفهوم خاطئ في التعميم أن كتاب الرأي يأخذون أجورا عالية، فالبعض يكتب دون مقابل.

نبيل غالي: يجب أن تصنع صحافتنا السودانية (نجوم شباكها) من الصحفيين- أنفسهم- مما يشكّل إضافة إلى العمل التحريري، ويقوي عودها.

يوسف الجلال: صحافتنا قائمة على خطإ منهجي.

الصحافة السودانية الميزان المختل
الحلقة الثالثة
للصحافة السودانية تأريخ عريق، بالرغم من ارتباطها بعهد المستعمر، أو انتمائها العقدي في ذلك الزمان، الآن الصحافة السودانية تمر بمنعطفات هي الأخطر في تأريخها، وأصبح مستقبلها غامضاً- كما ذكر الصحفي الشاب الزين عثمان. الصحافة كما يراها هيكل هي ورقة الأخبار، بالتالي فإن المحرر الصحفي هو العمود الفقري لأية صحيفة، الأمر- الآن- اختلف، وأصبح كاتب العمود الذي يبني رأيه على ما يأتي به الصحفي الذي سخر نفسه للبحث عن المعلومة دون اكتراث لهجير الشمس، وزمهرير الشتاء، ومطارداً لها في ظلمات الليل الحالكة معرضاً نفسه إلى أحلك المخاطر، ثم يأتي كاتب العمود الذي لا يكلفه عموده سوى دقائق لتكون له الحظوة الكبرى في العائد المادي آخذاً عشرة أضعاف ما يأخذه هذا الصحفي الكادح الذي تقوم على أكتافه أية صحيفة، مجسداً بذلك ما جاء في المثل السوداني “الخيل تجقلب، والشكر لي حماد”، فمن المسؤول عن تشويه الصحافة السودانية؟، وما هي مبررات الناشرين في هذه المفارقة الكبيرة؟.
تحقيق: نصر الدين عبد القادر

بعض كتاب الأعمدة لهم أجندات خاصة
الصحفي الشهير نبيل غالي رقم لا يمكن تجاوزه في الصحافة السودانية، قابلته في مكتبه بصحيفة اليوم التالي حيث يدير تحريرها، فاستقبلني باحترام الإنسان المتشبع بقيم الصحافة النبيلة، انفعل بالموضوع، وتفاعل معه، وحتى لا يكلفني رهق تسجيل إفادته، ومن ثم تفريغها على الورق، ثم كتابتها على الجهاز، كتب إفادته بنفسه، وكأنما الموضوع راسخ في مفردات ذاكرته التي تشع حيوية- هذا مع قولي ما شاء الله.
يرى الأستاذ نبيل غالي أن هناك خللا في صحافتنا اليوم، خاصة في مسألة الرضا عن كتاب الأعمدة من قبل الصحف على حساب الصحفيين، وفي المساحة التالية هذه إفادته كما كتبها؛ فيقول: “إن ظاهرة كتاب الرأي- أعمدة أو مقالات- الذين يستحوذون على الرضا المادي من صحيفة مهما كان ناشرها، أو مالكها، أو رئيس تحريرها لم تجد لها أرضا خصبة إلا أواخر التسعينيات من القرن الماضي، واتسعت بعد ذلك، ولم يكن صحيحا أن الصحافة بدأت بالرأي؛ لأن تلك كانت صحافة مستعمر تبرز رأيه، لكن بعد الاستقلال فالصحافة هي صحافة مواطن وأخبار، الآن صار أولئك الكتاب لهم اللحم الثريد من المال، أما الصحافيون فلهم العظم، وعيشة النكد المهني، صحافتنا السودانية قبل ذلك لم تعرف تلك الظاهرة؛ لأنها كانت صحافة خدمات، صحافة تهتم بقضية معاش الناس، وكتابات الرأي فيها ضئيلة، بل كانت صحافة كل الوطن، والآن أصبحت صحافة المركز.
إن ما يناله كاتب الرأي- عمود أو مقالة- من أجر يعدّ خرافيا بالنسبة لأجر الصحفي، وهو رزق ساقه الله إليه ولا حسد، وبعض الكتاب يستحقون هذا الرزق عن جدارة، وبعض آخر ضعيف الرأي، ولا يستحق هذا الرزق من عالي الأجر؛ لأنه قد يكون دخل هذا المجال لقرابة أو علاقة تربطه بقيادة الجريدة، أو مفروض عليها من جهة ما- وهنا- نجد أن بعض كتاب الأعمدة لهم أجندات خاصة ينافحون بها عن مآرب حزب أو مؤسسة أو فكر أيدولوجي… إلخ.
إن العمود الفقري لأية صحيفة هم المحررون، بيد أنهم أصبحوا “العمود الفقري”، من ثم يجب على مؤسساتنا الصحفية- إن صحت التسمية- أن تعدل الصورة المقلوبة بأن يكون الصحفي هو السنام فيها، وبعد ذلك لها أن تلتفت إلى كتابها في مسار أجرهم العالي، وجنابهم العالي.
بعض الكتاب ينالون أجرا يفوق أجر رئيس التحرير فتأملوا!
يجب أن تصنع صحافتنا السودانية (نجوم شباكها) من الصحفيين- أنفسهم- مما يشكل إضافة إلى العمل التحريري، ويقوي عودها.. إن معظم كتاب الرأي عندنا غارقين في محليتهم، بجانب بؤس ما يطرحونه، أو يجتهدون- فقط- في مغازلة القارئ سياسياً”. انتهت إفادة نبيل وهي تستحق التأمل.
الصحافة السودانية قائمة على خطإ منهجي
مدير التحرير في صحيفة الصيحة الأستاذ يوسف الجلال يرى أن هناك خطأ منهجيا في صحافتنا فيقول: للأسف- الصحافة السودانية قائمة على خطإ منهجي كبير، متمثل في أن النظرة إلى كاتب العمود، أو هيئة التحرير تختلف من حيث التقييم، مع أن الثابت والراجح والمؤكد هو أن كاتب العمود يستند استنادا رئيسا على ما يأتي به كاتب التقرير، وكاتب الخبر باعتباره عمود وركيزة العمل الصحفي، وهو اللاعب الحقيقي، والجندي الخفي في العملية الصحفية، كاتب العمود لا يسعى سوى أن يقرأ هذا التقرير، أو ذاك الخبر، ثم من بعد ذلك يعلق عليه، أو يقوم بتحليله، وعليه أعتقد اعتقادا جازما في وجوب أن يكون التقييم المادي منصب أولا للمخبرين، والصحفيين، والعاملين في مطبخ صناعة الأخبار، وصالات التحرير.
ويضيف الجلال قائلا: للأسف- المشكلة ليست في التشريعات، أو القوانين التي تسنها الجهات المنظمة للعمل الصحفي، إنما المشكلة في عقلية القارئ- نفسه؛ لأنه يعتقد أن المهم هو كاتب الرأي، وهذا خطأ كبير، وإذا نظرنا إلى الصحافة خارج السودان، أو في العالم الأول- تحديدا- نجد أن المحقق الصحفي هو المهم في أي صحيفة؛ لأنه هو الذي يكشف الحقائق، ويزيح النقاب عنها.
ومن ناحية أخرى يضيف الجلال في مسألة التضييق على الحرية الصحفية يقول: أما التضييق الذي يقوم به جهاز الأمن، والحكومة السودانية، والمؤتمر الوطني على الصحافة السودانية جعل دور المحقق الصحفي يتراجع كثيرا، بالرغم من كونه رأس الرمح، وحجر الزاوية في العملية الصحفية، وهو اللاعب الأساس في وضع الحقائق، وكشفها، وكشف التزوير، والفساد- سواء أكان ماليا أو إداريا- والتضييق على الصحافة جعل دور هذا المحقق ثانويا، ولو توفرت الحرية لكان المحقق والمخبر اللاعب رقم واحد، وفي ظل التضييق أصبحت المعادلة معكوسة، وأصبح كاتب العمود هو النجم الأوحد مستحوذا على الأضواء، والشهرة، وتقدير القراء، بالتالي العائد المادي الأكبر.
فتحي الضو يتحدث
الصحفي والكاتب الشهير فتحي الضو صاحب المؤلفات الباذخة والمثيرة للجدل يشرّح أزمة الصحافة السودانية من جميع النواحي والتقاطعات المتعلقة بها، وهذه إفادته- كما كتبها عبر البريد الإلكتروني من مقر إقامته في الولايات المتحدة الأمريكية مباشرة بعد حفل تنصيب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب؛ فيقول: كلنا يعلم أن الصحافة هي مرآة المجتمع، لكن تظل هذه العبارة الواقعية ناقصة ما لم نكمل تعريف هذا المجتمع، ومكوناته الثقافية، والسياسية، والاجتماعية.
وفي سياق آخر تكون العبارة أكثر واقعية وصدقاً في ظل المجتمع الذي يعيش في كنف نظام ديمقراطي يقدر دور الصحافة، ويعدّها أحد أركانه- عندئذ- تلعب الصحافة ذلك الدور على الوجه الأكمل، وتكون بوصلة الرأي العام في التعامل مع قضاياه المختلفة- بالطبع- نجد أن عكس ذلك- تماماً- الصحافة التي تعيش في ظل الأنظمة الشمولية، والديكتاتورية؛ حيث تتهشم المرآة- تماماً- وتصبح الصحافة مجرد أداة في يد السلطة، توجهها حيثما شاءت، وتدجنها وفق هواها، وتطوعها كيفما اتفق، بالتالي ليست ثمة دور يرجى منها في مثل تلك الظروف، التي تتضاءل فيها الحريات العامة- جميعها- بما في ذلك حرية الصحافة، ولعل الأنكأ وأمر أن تتجاوز تلك الأطر، ويصبح دورها تضليليا لا يمت إلى الواقع بصلة.
أقول كل ذلك؛ لكي أؤكد أن الموضوع محور الاستطلاع أبعد من المسائل، والفوارق المادية؛ فنحن لا يمكن أن ننظر إلى هذه القضية أو أي قضية ذات صلة بالصحافة السودانية بمعزل عن المناخ السياسي الذي ينتج السلطة الحاكمة سواء أكانت ديمقراطية منتخبة، أو ديكتاتورية شمولية، وصلت إلى الحكم بوسائل غير مشروعة، وأصبحت تمارس هوايات البلطجة في سبيل الاحتفاظ بالسلطة، وإقصاء الآخر، وممارسة الفساد والاستبداد بصورة مطلقة، من هذه الزاوية كلنا يعلم أن الصحافة السودانية غرقت في ذلك الوحل الأليم- أي واقع الأنظمة الديكتاتورية التي استهلكت أكثر من ثلثي سنوات ما بعد الاستقلال؛ حيث تحكمت ثلاثة أنظمة ديكتاتورية في مصائر البلاد، والعباد، وكانت الحريات العامة هي كبش الفداء، وفي طليعة هذه الحريات جاءت حرية الصحافة المسلوبة؛ ولهذا لم يكن غريباً أن تنال النصيب الأكبر من تلك الانتهاكات، الأمر الذي قاد إلى هذا التدهور المريع على كافة الأصعدة، وحوَّل القضية السودانية من قضية سياسية إلى قضية أخلاقية من الدرجة الأولى بامتياز.
طبقاً لكل هذا- أصبحت الصحافة السودانية تعاني من اختلالات بنيوية ابتداءً من رسالتها، وانتهاءً بالغاية المرتجاة من هذه الرسالة، وأعتقد أن العبارة المأثورة القائلة: (إنها أصبحت مهنة من لا مهنة له) تتسق- تماماً- وواقع بعض الصحافيين، وملاك الصحف- تحديداً- الذين اتخذوها وسيلة للثراء مقابل ضمان ولائهم للسلطة القائمة، والحقيقة أن القارئ والمتابع السوداني من الحصافة بمكان؛ لدرجة أنه يغنيك عن الأشارة مباشرة إلى نماذج من سدنة واقع له لسان وشفتين.
فالسلطة الحاكمة يهمها في المقام الأول أن تضمن ولاء القائمين على الصحف، بصور شتى، وتحت غطاءات مختلفة، الأمر الذي أوجد ظاهرة الصحافيين الذين تطاولوا في البنيان، ووجدوا أنفسهم يعيشون في ثراء أعمى بصرهم وبصيرتهم من التعامل مع قضايا المجتمع بصورة مسؤولة، هؤلاء بدورهم يفعلون ما فعلته السلطة معهم في شراء الولاءات، فيسعون إلى بناء ما أسميه (إمبراطورية الخوف)، تلك التي تركز اهتماماتها نحو حماية الشخص- أي الشخص الذي يكون غاية همه أن يغدق من نصيبه على أصحاب أقلام بعينها؛ حتى يحيط نفسه بهالة، وهي في ظنه تشكل له حماية من أن يفقد تلك المخصصات، والتي تأتي كما ذكرنا- بأشكال مختلفة، وبوسائل وطرق مختلفة- أيضاً- وذلك إلى حد بعيد ممكن أن يفسر لنا ظاهرة مخصصات بعض ما يسمون بكُتّاب الرأي العام.
لو كانت الصحافة تعيش وضعاً طبيعياً لن يجد هؤلاء موطئ قدم في ساحاتها، كذلك ضمن تلك الاختلالات البنيوية هي أن يصبح هؤلاء الكتاب أكثر أجراً من الصحافيين المحررين رغم أن الأخيرين هؤلاء هم الأكثر عطاءً، وهم وقود الصحيفة الذي تسير به، وهم عينها التي ترى، وأذنها التي تسمع، ولسان حالها الذي ينطق.
تبعاً للأسباب- التي ذكرناها أعلاه- تجردت الصحافة السودانية من أهم أعمدتها، وهي الأخبار، فعلاوة على أن السلطة الحاكمة تغذيها بالأخبار الزائفة، نجد أن هذه الأخبار- نفسها- أصبحت لا تهم القارئ كثيراً؛ لأنه يعيشها على أرض الواقع، ويعلم أنها لا تعبِّر عن ذاك الواقع، بالتالي هو لا يحتاج إلى قراءتها، ففقدت الصحف المصداقية وهي روح الصحافة، عليه فالضحية الأولى هو المحرر صانع الخبر، الذي يتضاءل دوره، ويصبح عند ملاك الصحف أو البرجوازية الصغيرة- بتعبير الماركسيين- مجرد رقم مادي لا يغني ولا يسمن من جوع.
إن أخطر ما في ظاهرة الاختلالات المادية بين المحرر والكاتب هي انبعاث المشاعر السالبة؛ فالمعروف- بصورة عامة- أن هذه المشاعر السالبة تزداد- دائماً- في ظروف الأنظمة الديكتاتورية، مثل الحقد، والحسد، والكراهية، والشحناء، والبغضاء، والنفاق، وهلمجرا؛ ذلك نتيجة التفاوت الطبقي، وانعدام العدالة الوظيفية، والاجتماعية، ومن يصب بهذا فلا يرجى منه إصلاحاً للمجتمع، أو توجيهاً له من خلال الصحافة- كما هو مفترض؛ باعتبار أن فاقد الشيء لا يعطيه، ويصبح المناخ الصحافي- برمته- غير صحي- على أقل تقدير- كما هو الآن.
في تقديري إن الاختلالات المذكورة حتما سوف تدفع ذوي الحقوق المهضومة إلى واحد من سبيلين- إما التحلحل من القيم الصحافية، والبحث عن وسائل أخرى لكسب العيش في ظل أزمة اقتصادية لا ترحم، وإما التمسك بجمرة تلك القيم المثالية بمنطوق (تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها) إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا.
أنا لا أتحدث بصفة عامة؛ فأرجو ألا يتبادر إلى ذهن القارئ أنني أتحدث بصورة مطلقة عن الثلاثي المذكور- المحرر والكاتب والناشر- لكنني لن أخفي تعاطفي مع المحررين من جيل الشباب الذين اكتووا بالنارين- الحريات، والحقوق المهضومة- وللأسف- فهو تعاطف لا يجعلهم ينعمون بالحرية، ولا ولن يغني أو يسمن من جوع.
الحقيقة السوء قد لازم كل شيء، ليست الصحافة- وحدها- ولو سألني سائل وقال لي: هل ما تراه هي الصحافة السودانية التي تجاوز عمرها المئة عام؟، سأقول له- بكل طيب خاطر: (يفتح الله)؛ فقد كثرت الأكاذيب، والأباطيل، وتعددت ألوان الخداع، والفهلوة، وتضاءلت المعايير الأخلاقية، وأصبح القياس صعباً.. لكن هكذا هو السودان- الآن- الذي قال شاعره علي نور (المال عند بخيله والسيف عند جبانه)، أما الآخرون فلا يملكون سوى مزيد من القلق في عصر الانحطاط”. انتهت إفادة فتحي الضو وأترك القارئ؛ ليراها بمنظوره، وربطها بالواقع.

المغريات في الحقل الصحفي تؤثر على المهنية
الكاتب الصحفي في جريدة الجريدة زهير السراج يرى أن هناك خطأ في مفهوم أن كل الكتاب يتقاضون أجورا عالية تفوق أجور الصحفيين، فيقول متناولا المشكلة إطار التحقيق: مهنة الصحافة حساسة إلى درجة بعيدة، والصحفي يجب أن يكون مستقرا- ماديا، ونفسيا؛ حتى يتجنب المغريات الكثيرة المتاحة للصحفيين، سواء أكانت من مؤسسات عامة أو خاصة، وبالرغم من كل هذه المغريات نجد أن الصحفيين السودانيين- خاصة الشباب- عفيفو النفس، ومهنيتهم عالية، ومستقلون ذاتيا مهما كانت ظروفهم المادية، لكن هذا الكلام بأي حال من الأحوال لا يمنع أن يطالبوا بحقوقهم، وأن ينالوا التقييم المادي المناسب، لكن المشكلة سببها الناشرون في التقييم، وهناك فهم خاطئ في التعميم أن كل الكتاب ينالون أجرا عاليا؛ فبعض الكتاب الذين لهم أسماء معروفة لا يأخذون مقابلا فيما يكتبون، ومسألة غلبة الرأي في الصحافة؛ نتيجة للتعتيم على الأخبار حتى الآن، بالرغم من أن هناك قانونا يلزم المؤسسات الحكومية بإتاحة الأخبار للصحافة؛ لهذا السبب نجد أن صحافة الأخبار والتحقيقات توارت إلى الوراء قليلا، ويرجع السراج مسألة غلبة الرأي إلى أن كتاب الرأي بحكم أعمالهم الأخرى غير الصحافة تتوفر عندهم مصادر تمدهم بالمعلومات، لكن عندما تعتمد الصحافة على الرأي ينشأ وضع مختل، خاصة فيما يتعلق بالأجور.
ويدافع السراج عن الرأي قائلا: الرأي موجود في الصحافة العالمية، ووضع السودان في الصحافة ليس نشازا، لكن في الصحف العالمية الفوارق المادية بين الكاتب والصحفي ليست كبيرة إلى درجة تجعلها واضحة- كما هو الحال في السودان- على الأقل- ينال الصحفي في تلك الصحف الأجر الذي يوفر له الحياة الكريمة.
وهناك خلل آخر في الصحافة، وهو يتعلق بمسألة استغلال الصحف لصغار الصحفيين، والمتدربين، فتمنحهم أجورا زهيدة جدا- وأحيانا- لا تعطيهم حتى حق المواصلات، لكن مع ذلك الصحفي المجتهد يصنع له وضعا مميزا، وإذا أخذت المؤسسة التي أعمل فيها أقول إن الوضع مريح بحكم أن الناشر- أصلا- خرج من الوسط الصحفي، وله ماجستير في الصحافة، فيعطي الصحفيين أجورا مجزية إلى حد ما، ويلتزم بهذه الأجور في مواعيدها المحددة، وأحيانا قبل موعدها، لكن مهما يكن من أمر فهناك خلل منهجي في الصحافة السودانية ينبغي معالجته من داخل المؤسسة الصحفية.

التيار

تعليق واحد

  1. الصحفي مفروض يشتغل ويجري ويعمل تحريات ويعمل شغل فيهو جري موش يكون قاعد بيشرب في كباية شاي وبيتونس مع واحد يقوم يعمل منه لقاء صحفي, زي ده خسارة فيهو صحن فتة موية فول

  2. الصحفي مفروض يشتغل ويجري ويعمل تحريات ويعمل شغل فيهو جري موش يكون قاعد بيشرب في كباية شاي وبيتونس مع واحد يقوم يعمل منه لقاء صحفي, زي ده خسارة فيهو صحن فتة موية فول

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..