في شأن القنديل والبركاوي

1
عدت من الوطن الغالي بكيس ضخم من التمر القنديل الذي اشتريته من سوق الله أكبر . لا أدري لماذا يسمى السوق في بلادنا بسوق الله أكبر فالدنيا كلها من صنعه تعالى واليه المصير . كان لا بد من الكيس الكبير فزملائي وزميلاتي هنا دوما يتربصون بتمري عند عودتي فلا يبقى لي في قاع الكيس غير الذكرى والانتظار لإجازة أخرى أغني فيها لنخلتين في العلالي وبلحهم دوا كما يقول الأبنودي وقبل كل شيء شكر الصانع القدير الذي أكرم النخل وجعله في مجموعة خاصة به ففي آيتين من الذكر الحكيم يلاحظ المتأمل هذه الاشادة الربانية المضيئة”لْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ{24} أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً{25} ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً{26} فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً{27} وَعِنَباً وَقَضْباً{28} وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً{29} وَحَدَائِقَ غُلْباً{30} وَفَاكِهَةً وَأَبّاً{31} مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ{32} )(عبس/ 24- 32).
يا لها من آية كريمة آسرة تضيف الى ولهي بالنخل واعجاز القرآن الكريم في بيان قيمة التمر الغذائية حيث يؤكل بلحا وبسرا ورطبا وتمرا ونيئا ومطبوخا ويعتصر منه رب وخل وله حدائق غلبا أى بساتين ويمضي الهدي الرباني قدما فيجعل للنخل مجموعة خاصة به في جنتين ذواتي أفنان كما في سورة الرحمن”فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ..(68)
2
الفنان الراحل أحمد عمر الرباطي كان قد أشاد بالتمر البركاوي وجعله شعارا للشمال في افتتاحية برنامج من ربوع السودان سابقا. البركاوي طبعا من أنواع التمر التجاري عالي الجودة :
فى نعيم الجنوب جود لينا ومن صيد كـــــــردفان أغنينا
فى شــــــــــــرقك رصيد وآدينا شــــــمالك فيه بركاوينا
لن “أجيب سيرة الجنوب الآن” فقد مضى بنعيمه ونحس نفطه الذي لم يعد له بريق فمقالي هذا أشتات خواطر لا أريد أن أزيده تشتيتا كما لا أريد صرف أنظاركم عن موضوع التمر الذي اشتريته من سوق الله أكبر…فخليكم الآن مع التمر.
إن الساسة في بلادي لا يتفقون ولا يعلمون أن صراع الفيلة ضحيته الحشائش كما ذكر الرئيس الراحل جومو كنياتا ذات يوم. الألحان الموسيقية في بلادنا لا تتشاكس فأى أوركترا ناجحة تحرص على الا يكون اللحن نشازا والطيور في وطني تقع على أشكالها والانهار تتحد فما اختلفا ولا اشتجرا كما في أغنية سيد خليفة عن النيلين، كما أن أنواع التمر في بلادي همها كلها إعطاء منتج حلو ومنظر بديع يسر العين فمن بركاوي وقنديل وتمود وكلم بضم الكاف واللام وكرشة ، ومدين ومشرق وجاو ، يفوق التمر في بلادنا الساسة الذين لهم أعمار الحوت من حيث التغني بوطن مسالم موحد ومنتج. إنني أتحدى أى سياسي يوريني مراحل نضوج ثمرة النخيل؟؟ لا أعرف لماذا يتبهدل المتقدم لأى وظيفة في بلادنا في مليون مقابلة ومليون سؤال سخيف والساسة والوزراء يعينون بجرة قلم وهم لا يعرفون مراحل انضاج تمرة في الوطن على وزن معزة أو نعجة أو بغلة تعثرت في أحد أمصار الدولة الاسلامية القديمة يحاسب عليها الله كل راع مسئول عن رعيته.
3
لا بأس إنني رافة بأؤلئك الساسة ومساعدة لهم على مخافة الله قولا وفعلا…أو فعلا وقول لسان كما ورد في أغنية ” أعطف على يا ريم” أقدم مرافعتي هذه عن النخلة وبناتها من “أساسق”
أ النخلة كالمرآة في معاناتها عبر مراحل حملها المختلفة وفي الأثر أيضا فإن ماء الرجل له رائحة ، كرائحة جراب النخل المنفلق أو الطلع النضيد والنخلة كالشعب السوداني في صبره على المعاناة التي أنضجت أجساد بنيه السمراء . إن التمرة في بداية الحمل تخرج ما يسمى الجراب وهذه المعلومات اوردتها مستفيدا من موقع اسمه”أنا سوداني”، والجراب هو الذي يخرج من طلع النخلة بين الجريد في مرحلة يسميها أهلنا”الجبيد”. تخرج السبيطة من الجراب وتتكون من العرجون والشخاليب الحاملة للثمار ثم تأتي مرحلة العرجون وجمعها عراجين وهذه اوردها اسماعين حسن ووردي في أغنية الريلة ” يا عجو المحس التقيل ..التقول فدع العراجين”.تتمدد العراجين على النخلة في انحناءة غادة ترقص وتتدلى منها الشخاليب وهذه معروفة في افقنا الغنائي والفني، وقد شبه المولى سبحانه وتعالى مرحلة من مراحل القمر بالعرجون القديم فقال جل من قال” والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم”. من العراجين تأتي مرحلة الشخاليب وهي عناقيد جميلة رفيعة تتدلى من العراجين التي ينمو عليها التمر. ويعتبر”الفقيش” مرحلة أولى من مراحل انتاج التمرة فهي مرحلة انفلاق الجراب للتلقيح أو “القفوزة” لأن شجر النخل ثنائي الجنس لذا يؤخذ من جراب الذكر أو “الضكر” شخاليب مذكرة تربط في شكل حزم صغيرة يدفع بها في قلب جراب النخلة المنفلق. ويتولى القفاز كشخص مختص تلقيح النخلة مقابل سبيطة عند الحصاد للنخلة القصيرة وسبيطتين للطويلة . وللتمر عدة مسميات في مراحله المختلفة فيسمى بالصرف عندما يتعدى مرحلة التلقيح والعدار عند بداية تشكل التمر، ثم الدفيق اى التمر الأخضروالهرود وهو المتساقط من الدفيق ثم الرطب الأحمر أو الأصفر ذات الراس الأمامي العسلي في مرحلة النضوج الكامل …هنا حيث شبه حسن الدابي المحبوبة بالتمرة في مستهل شباب نضجها:” التمودة الوسط الشتل ….يا اخي لا راسا بتتوكل”. الصيص هو التمر الغير ملقح والكرموش هو التمر الملقح الغير مكتمل النضوج وهذا هو الحشف الذي دخل من بوابة المثل العربي حيث يقول العرب”أحشفا وسوء كيل”؟؟
هذا مع أن ما بين القنديل والبركاوي هو ما بين المريخ والهلال ، فقد ظلا على الدوام رمزا موحيا لأصالة الوطن شمالا لكنه رمز صار يعاني حسرات الإهمال الذي ضرب قرانا بشدة فهجرها الناس للعيش في الحواضر البعيدة ومحن أخرى تقطع قلب الجماد كالعطش والحرائق. إن على البركاوي والقنديل إذن أن “يختوا الكورة في الواطة” ويتفقا على إنبات سلالة هجينية hybrid جديدة نطلق عليها اسم “بركيل” فتحل محل نخلنا العجوز وتسجل لنا وجودا ينافس أسواقا عربية صحراوية دخلت منتجاتها من التمر موسوعات الأسواق الحرة والسياحية العالمية وأعتقد أن تلك التسمية التي تزاوج بين إسمى البركاوي والقنديل قد يكون لها بعدا انتاجيأ موحيا في “كيل” وأيضا تبركا بالآية الكريمة “والذين إذا أكتالوا على الناس يستوفون”.
وبينما يظل الجيل القادم من “بركيل” منتجا ومربحا ومغذيا ، يتراجع “الجاو” الذي هو أصلا في ذيل قائمة التمر من حيث الجاذبية فهو خشن المأكل قليل الحلاوة ودميم الهيئة لدرجة أن أهلنا كانوا يطعمون به الحمير فتنهال عليه “قرشا” بقواطعها القوية.ويبدو أن أصل هذا التمر الدميم جزيرة جاوا وقد لاحظت في زيارتي الخاطفة إلى البلد أن لا أثر للجاو وكأن شهبا من السماء ضربته وأزالته من مركز مروي سابقا مرددة قول أستاذنا الراحل محمد الواثق:
يا ريح عاد تحري أين موقعها
وفجري فوقها غيظ البراكين
ويبقى أملنا وطيدا في أن يدخل تمر”بركيل” بأناقته الجديدة إلى نادي الطنبور فيغني النصري مثلا:
تمرنا الساقيا موية النيل
حلاوتن فيكا يا بركيل
منو نضوق ومنو نكيل.
جنن لى قليبي عديل
جريدك ديمة ظلو ظليل
قراصتك تعدل الميل
سامح الله البائع الذي ابتاعني في نهاية عطلتي وأنا على عجل قنديلا مخلوطا بالجاو فباع لي الموية في حارة السقايين ، ولا يعلم أنني اخاطب التمر بكل لغات العالم وختاما أذكر احبتي بالحديث النبوي”رفقل بعمتكم النخلة فإنها خلقت من بقية طينة آدم” مناشدا أبنائي الشباب بأن يطبقوا فعلا لا قولا أغنيتنا التراثية:
عريسنا نزل البحر يا عديلة
وقطع جرايد النخل يا عديلة!!!

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. Thank you Dr.Abdelrahim for this very interesting religous, scientific, social and economical article. I think these series of fires which destroyed thousands of date palms were done to evacuate the Nile from both sides from this economical tree and to displace the owners who depend on it. May be after selling the governmental buildings in Khartoum they will go north. May be already sold to Awlad Bambah!Thsnk you sgain brother

    Khalid A. Ragab
    One of the agriculturalists tribe and whose ansestors along ago left their date palms and settled at ElGadarif area

  2. مقال متفرد و متميز و فيه حقائق و تقييم
    يا سلام يا دكتور و الله فيه موضوعية و لمحات دينية و جانب اجتماعي و حنين صادق للبلاد

  3. شكرا علي هذا المقال الرائع فابكاني وذكرني بما لم يعد الا في الخاطر (الماغاب) وصدقني لو التمر الذي نعيش به حتي الان لمتنا او قل اصابتنا الامراض فاساسنا وساسنا من القدم للراس بلح فقط انوه (للكرموش )اسم اخر هو (االنغروس) وللمؤانسة هناك كسرة في مقالك المنثور شرا (قلت مريخ هلال ) وتصليح كسرة ابو علي (هلال مريخ ) وعلي رايك في النخيل يمكن دمج هلال مريخ لتصبح (هلاريخ ) ونرتاح من مشاكسه اوثتنا عنتا كبير ……علي كبري مروي سؤل شيخ كبير عبر التلفاز عن النخيل فكان رده معبرا وبليغا (التمر رحل مع اسيادو ) يعني البركة راحت فهل من عودة,,,لاحظ معني الرحيل هنا بعيدا الموت وقريبا الغربه وانا جني تمر حتي الان ولا يخلو منزلي منه واوصي اولادي باكله يوميا لكنهم لايسمعون الا قليلا شكرا لك !!!وكما قلت الجاو كان علفا للحمير تصوردليل رفاهيا اليس كذلك انها محن السودان التي لاتنقضي

  4. أحسنت و أمتعت يا دكتور.
    و نضيف نقلا عن بعض فوائد التمر :

    1- خفض نسبة الكلسترول بالدم والوقاية من تصلب الشرايين لاحتوائه على البكتين.

    2- منع الإصابة بسرطان الأمعاء الغليظة والوقاية من مرض البواسير وتقليل تشكل الحصيات بالمرارة

    ولتسهيل مراحل الحمل والولادة والنفاس لاحتوائه على الألياف الجيدة والسكريات السريعة الهضم.

    3- منع تسوس الأسنان لاحتوائه على الفلور.

    4- الوقاية من السموم لاحتوائه على الصوديوم والبوتاسيوم وفيتامين ج.

    5- علاج لفقر الدم (الأنيميا) لاحتوائه على الحديد والنحاس وفيتامين ب2.

    6- علاج للكساح ولين العظام لاحتوائه على الكالسيوم والفسفور وفيتامين أ.

    7- علاج لفقدان الشهية وضعف التركيز لاحتوائه على البوتاسيوم.

    8- علاج للضعف العام وخفقان القلب لاحتوائه على المغنيسيوم والنحاس.

    9- علاج للروماتزم ولسرطان المخ لاحتوائه على البورون.

    10- مضاد للسرطان لاحتوائه على السلينيوم وقد لوحظ أن سكان الواحات لا يعرفون مرض السرطان.

    11- علاج للضعف الجنسي لاحتوائه على البورون وفيتامين أ.

    12- علاج لجفاف الجلد وجفاف قرنية العين ومرض العشى الليلي لاحتوائه على فيتامين أ.

    13- علاج لأمراض الجهاز الهضمي العصبي لاحتوائه على فيتامين ب1.

    14- علاج لسقوط الشعر وإجهاد العينين والتهاب الأغشية المخاطية لتجويف الفم والتهاب الشفتين

    لاحتوائه على فيتامين ب2.
    15- علاج للإلتهابات الجلدية لاحتوائه على فيتامين النياسين.

    16- علاج لمرض الإسقربوط وهو الضعف العام للجسم وخفقان القلب وضيق التنفس

    وتقلص الأوعية الدموية وظهور بقع حمراء على الجلد وضعف في العظام والأسنان

    وذلك لاحتوائه على فيتامين ج(2) أو حامض الاسكوربيك.

    ( من التمر، يمكن استخلاص عدد كبير من الأدوية والمضادات الحيوية والفيتامينات

    لاستخدامها كعقاقير للوصفات الطبية لعلاج الأمراض المشار إليها قبل ذلك ).

    17- علاج الحموضة في المعدة لاحتوائه على الكلور والصوديوم والبوتاسيوم.

    18- علاج أمراض اللثة وضعف الأوعية الدموية الشعرية وضعف العضلات والغضاريف لإحتوائه على فيتامين ج.

  5. كليات الزراعة وخاصة جامعة الخرطوم وشمبات كليات قديمة ولا نقلل من كفاءةالزراعيين بالسودان لكن للاسف الشديد نحن متخلفون جدا في الزراعة عموما -خاصة زراعة النخيل نوعياتها تسويقها من ناحية التغليف وتحسين المنتج -عندما نجد انواع التمور وطريقة تغليفها نقول اين نحن في السودان لماذا لا نطور منتجاتنا ارجو ان يهتم الزراعيون بالامر..

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..