مقالات وآراء سياسية

هَذِهِ هِيَ العَلْمَانِيَّةُ الَّتِي نُرِيدُ فَلِمَاذَا يَكْرَهُونَهَا؟

المعز عوض احمدانه

احْتَدَمَ نِقَاشٌ بَيْنِي وبَيْنَ أَحَدِ الأَصْدِقَاءِ حَوْلَ مَفْهُومِ العَلْمَانِيَّةِ، وكَانَ ظَنُّ هَذَا الصِّدِيقِ فِيهَا ظَنَّاً سَيِّئاً لِلْغَايَةِ، حَيْثُ يَرَاهاً شَرَّاً مُسْتَطِيرَاً، وكُفْرَاً بَوَاحَاً لا مَجَالَ لِلْشَكِّ فيه.. أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ عَلَى النَّقِيضِ مِنْ مَوْقِفِهِ تَمَامَاً، حَيْثُ أَرَاهَا فِكْرَةً رَائِعَةً، وحَلَّاً مِثالِيَّاً عَبْقَرِيَّاً، يَجْمَع شَتاتَ التَنَوُّع والتَعَدُّدِ الدِّينِي والثَّقَافِي والإثْنِي في السُّودَانِ.. بَلْ إِذَا تَمَّ تَطْبِيقُهَا كَمَا يَنْبَغِي، سَيَنْقَلِبُ هَذَا التَنَوُّعُ والتَعَدُّدُ مِنْ نِقْمَةٍ قَاسَيْنَا مَرَارَاتِهَا رَدْحَاً طَوِيلَاً مِنَ الزَّمَانِ، إِلَى نِعْمَةٍ ومَصْدَرِ قُوَّةٍ وثَرَاءٍ، ومَيْزَةٍ مِنْ أَجْمَلِ مَيْزَاتِ بِلادِنَا.
ولَمَّا طَالَ النِّقَاشُ واحْتَدَّ، أَرَادَ صَدِيقِي أَنْ يُفْحِمَنِي، فَأَتَانِي بِتَعْريفٍ لِلْعَلْمَانِيَّةِ إِسْتَلَّهُ مِنْ بَطْنِ أَحَدِ القَوامِيسِ الإِنْجِلِيزِيَّة، يُعَرِّفُهَا بِأنَّهَا هِيَ الدُّنْيَوِيَّة أَوْ اللَّادِينِيَّةِ، ويَذْكُرُ أَنَّهَا عَقِيْدَةٌ لا تَرَى أَبْعَدَ من الدُّنْيَا، حَيْثُ لا تُؤْمِنُ بالآخِرَةِ ولا تَضَعُ لِلْشَعَائِرِ والأَفْكَارِ والعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ أَيَّةَ إِعْتِبَار.. ولِلْأَمَانَةِ العِلْمِيَّةِ ولِلْصِّدْقِ أَقُولُ: قَدْ صَدَقَ صَدِيقِي تَمَامَاً، حَيْثُ لَمْ يَخْرِم مِنْ مَعْنَى العَلْمَانِيَّةِ اللُّغَوِيِّ حَرْفَاً.. وهَذَا هُوَ بالضَّبْطِ مَعْنَاهَا اللُّغَوِيّ في المَعَاجِمِ والقَوامِيسِ اللُّغَوِيَّةِ.. لَكِنْ هَلْ مَا جَاءَ بهِ صَدِيقِي مِنْ مَعَانٍ لُغَوِيَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ، هِيَ بِمَثَابَةِ القَشَّةِ التي قَصَمَتْ ظَهْرَ بَعِيرِي؟.. هَلْ هَذَا المَعْنَى كَافٍ لِيَجْعَلَنا نَرْفُسُ العَلْمَانِيَّةَ، ونَرْفُضُهَا، ونُلْقِي بِهَا فِي مَزَابِلِ الأَفْكَارِ والأُطْرُوحَاتِ والأَنْظِمَةِ السِّيَاسِيَّة؟.
كَلَّا وأَلْفُ كَلَّا.. ولَيْسَ فِي ذَلِكَ أَيَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ المُكَابَرَةِ والمُعَانَدَةِ ورُكُوبِ الرَّأْسِ.. نَعَم لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْفِي أَنَّ مِنْ مَعَانِي مُفْرَدَةِ العَلْمَانِيَّةِ لُغَوِيَّاً تِلْكَ العَقِيدَةِ، وتِلْكَ الفِكْرَةِ المُنَاقِضَةِ لِلْدِّينِ، والَّتِي لَا تُعِيرُهُ إِهْتِمَامَاً، بَلْ وتُخْرِجُهُ تَمَامَاً مِنْ حَيَاتِها فَلَا تَمْتَثِلُ لِتَعَالِيمِهِ ولَا لِأَوامِرِهِ ولَا لِنَواهِيه.. نَعَم بِلَا شَكٍّ وبِلَا رَيْبٍ هَذَا هُوَ المَعْنَى اللُّغَوِيُّ الرَّئِيسُ الَّذِي تَدُورُ حَوْلَهُ العَلْمَانِيَّةُ.. لَكِنْ إِذَا كَانَ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَصِفَ ونَصِمَ شَخْصَاً بِأَنَّه عَلْمَانِي، بمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ فِي دِينٍ ولَا يُؤْمِنُ بِاللهِ ولَا بِالْيَوْمِ الآخَرِ، فَهَلْ يَجُوزُ لَنَا عَقْلَاً ومَنْطِقَاً أَنْ نَصِفَ مُؤَسَّسَاتٍ بِأَنَّهَا عَلْمَانِيَّة، بِمَعْنَى أَنَّهَا لَا تَعْتَقِدُ فِي دِينٍ ولَا تُؤْمِنُ باللهِ ولَا بِاليَوْمِ الآخَرِ؟.. هَلْ لِلْمُؤَسَّسَاتِ عَقْلٌ ونَفْسٌ ورُوحٌ حَتَّى تُؤْمِنُ وتَعْتَقِدُ وتُحِبُّ وتَكْرَه؟.
لَا شَكَّ أَنَّ المُؤَسَّسَاتِ قَائِمةٌ عَلَى أَفْرَادٍ، والأَفْرَادُ هُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ويَعْتَقِدُونَ ويُحِبُّونَ ويَكْرَهُون.. لَكِنَّ المُؤَسَّسَاتِ نَفْسَهَا لَيْسَتْ كَذَلِك.. فَهِيَ لَيْسَتْ كَائِنٌ حَيٌّ عَاقِلٌ لِيُؤْمِنَ ويَعْتَقِدَ ويُحِبَّ ويَكْرَه.. هَذِهِ المُؤَسَّسَاتُ فِي العُمُومِ كَيَانَاتٌ إِعْتِبَارِيَّةٌ، قَدْ أُنْشِئَتْ وقَدْ تَمَّ تَأْسِيْسُهَا لِأَجْلِ أَنْ تَقُومَ بِأَدَاءِ وَظِيفَةٍ مُعَيَّنَةٍ.. والوَظَائِفُ فِي حَيَاتِنَا المُعَاصِرَةِ والمُشَاهَدَةِ وَظَائِفٌ كَثيِرَةٌ جِدَّاً ومُتَنَوِّعَةٌ ومُتَعَدِّدَةٌ، لَكِنَّنَا عُمُومَاً سَنَجِدُهَا إِمَّا وَظَائِفَ دُنْيَوِيَّةً مُهْتَمَّةً بالدُّنْيَا وشُؤُونِهَا، وإمَّا وَظَائِفَ دِينِيَّةً مُهْتَمَّةً بالدِّينِ وشُؤُونِهِ.
وإِذَا أَخَذْنَا مِهْنَةَ الهَنْدَسَةِ عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ، فَإِنَّنَا سَنَجِدُهَا فِي أَصْلِهَا وجَوْهَرِهَا مِهْنَةً دُنْيَوِيَّةً غَيْرَ دِينِيَّةٍ، وبِالتَّالِي فَإِنَّ دَائِرَةَ إهْتِمَامِهَا تَدُورُ حَوْلَ شُؤُونِ الدُّنْيَا فَقِطْ لَا الدِّين، وإِذَنْ وإسْتِنَادَاً إِلَى التَّعْرِيفِ اللُّغَوِيِّ لِلْعَلْمَانِيَّةِ فَإِنَّ الهَنْدَسَةَ مِهْنَةٌ عَلْمَانِيَّةٌ، لَكِنْ أَكِيد لَا يُمْكِن لَنَا أَنْ نَصِفَهَا بَأَنَّهَا مِهْنَةٌ كَافِرَة، وإلَّا تَمَّ وَصْفُنَا بِالخَبَلِ والعَتَهِ والجُنُون.. فَهَلْ المِهْنَةُ كَائِنٌ عَاقِلٌ يُؤْمِنُ ويَعْتَقِدُ ويُحِبُّ ويَكْرَه؟.. وإذِنْ مِهْنَةُ الهَنْدَسَةِ وإِنْ جَازَ لَنَا لُغَوِيَّاً أَنْ نَصِفَهَا بأَنَّهَا عَلْمَانَيَّة، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَصِمَهَا بِالكُفْرِ والزَنْدَقَةِ والمُرُوقِ مِنَ الدِّينِ.. مَعَ العِلْمِ أَنَّهُ إطْلَاقَاً لَيْسَ هُنَاكَ مَا يَمْنَع مِنْ إِضَافَةِ بُعْدٍ دِينيٍّ لِلْوَظَائِفِ الدُّنْيَوِيَّةِ (العَلْمَانِيَّة) بِأَنْ نَنْوِي وَجْهَ اللهِ حِينَ نُؤَدِّيهَا، لَكِنْ هَذَا البُعْدَ يَظَلُّ بُعْدَاً نَفْسِيَّاً دَاخِلِيَّاً، لَا وُجُودَ لَهُ خَارِجَ نَفْسِ الإِنْسَانِ، وبالتَّالِي لَنْ تُؤَثِّرَ إِضَافَةُ هَذَا البُعْدِ عَلَى صِحَّةِ تَقْسِيمِ الوَظَائِفَ إِلَى وَظَائِفَ دُنْيَوِيَّةٍ وأُخْرَى دِينِيَّةٍ.
وعَلَى هَذَا الأَسَاسِ أَيْضَاً يُمْكِنُنَا تَقْسِيمُ المُؤَسَّسَاتِ إلى مُؤَسَّسَاتٍ دُنْيَوِيَّةٍ (عَلْمَانِيَّة) ومُؤَسَّسَاتٍ دِينِيَّةٍ.. فَعَلَى سَبِيلِ المِثَالِ إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ مُسْتَشْفَى تَقُومُ بِدَوْرِهَا فِي المُجْتَمَعِ خَيْرَ قِيَامٍ، حَيْثُ تُؤَدِّي وَظِيفَتَهَا بِمِهَنِيَّةٍ عَالِيَةٍ، فَهَذِهِ المُسْتَشْفَى وإِنْ جَازَ لَنَا لُغَوِيَّاً أَنْ نَصِفَهَا بأَنَّهَا مُؤَسَّسَةٌ عَلْمَانِيَّةٌ، أَيْ لَا تَقُومُ بِأَدَاءِ وَظِيفَةٍ دِينِيَّةٍ، فَلَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَصِفَهَا بالكُفْرِ والزَنْدَقَةِ والمُرُوقِ مِنَ الدِّينِ، وإِلَّا تَمَّ وَصْفُنَا بالخَبَلِ والعَتَهِ والجُنُون كَذَلِكَ.
الشَّخْصُ الطَبِيعِيُّ، والإِنْسَانُ العَاقِلُ، إِذَا كَانَ لا يَعْتَقِدُ في دِينٍ، ولا يُؤْمِنُ بِاللهِ ولَا يَرَى أَبْعَدَ مِنْ الدُّنْيَا، جَازَ لَنَا أَنْ نَصِفَهُ بأَنَّهُ شَخْصٌ عَلْمَانِيٌّ كَافِرٌ زِنْدِيقٌ مَارِقٌ مِنَ الدِّينِ.. لَكِنْ كَيْفَ لَنَا أَنْ نَصِفَ مُؤَسَّسَةً بِهَذِهِ الأَوْصَافِ، فَقَطْ لَأَنَّها تُؤَدِّي وَظِيفَةً غَيْرَ دِينِيَّةٍ؟.. نَعَمْ هِيَ مُؤَسَّسَةٌ عَلْمَانِيَّةٌ بِالمَعْنَى اللُّغَوِيِّ لِلْكَلِمَةِ، وذَلِكَ لَأَنَّهَا تَقُومُ بِأَدَاءِ وَظِيفَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ بَحْتَةٍ.. كَوَظِيفَةِ الطِبِّ أَوْ التَعْلِيمِ أَوْ التِجَارَةِ أَوْ الخَدَمَاتِ العَامَّةِ ومَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وبِالتَالِي فإِنَّنَا عِنْدَمَا نُشِيرُ إِلَى مُؤَسَّسَةٍ مَا، ونَصِفُهَا بِأَنَّهَا مُؤَسَّسَةٌ عَلْمَانِيَّةٌ، فإِنَّنَا نَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنْ نَصِفَهَا بِأَنَّهَا مُؤَسَّسَةٌ تَقُومُ بأَدَاءِ مِثْلِ هَذِهِ الوَظَائِف، وأَنَّها لَيْسَتْ مُؤَسَّسةً تَبْشِيرِيَّةً تَقُومُ بالتَّبْشِير لِدِينٍ، أَوْ لِلْدَعْوَةِ إِلَيْهِ، أَوْ أَنَّهَا مُؤَسَّسَةٌ قَائِمَةٌ عَلَى أَدَاءِ شَعِيرةٍ مِنَ الشَّعَائِر، أَوْ لِتَعْلِيمِ ونَشْرِ العُلُومِ الدِينِيَّةِ، ولِتَرْغِيبِ النَّاسِ فِي الدَّارِ الآخِرَةِ، ولِلْزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا والإِنْقِطَاعِ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ.. ومِنَ المُؤَكَّدِ أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الوَظَائِفَ الدِّينِيَّةِ لَيْسَتْ وَظَائِفَ ولَا مَهَام فِي جَدْولِ أَعْمَالِ مُسْتَشْفَى مَثَلَاً.. وعَلَى هَذَا الأَسَاسِ يُمْكِنُنَا أَنْ نَقُولَ أَنَّ المُسْتَشْفَى مُؤَسَّسَةٌ عَلْمَانِيَّةٌ، وإِنْ كَانَ كُلُّ العَامِلِينَ فِيهَا مِنْ أَطِبَّاءَ ومُمَرِّضِينَ وعُمَّالٍ وإِدَارِيِّينَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ تَدَيُّنَاً واسْتِمْسَاكَاً بِالدِّينِ.
وإِنَّنَا اليَوْمَ نَرَى أَنَّ أَيَّ أَحَدٍ يُريدُ الذَّهَابِ إِلَى مُسْتَشْفَى لَنْ يَسْأَلَ عَنْ دِيَانَةِ الطَّبِيبِ، أَوْ عَنْ عَقِيدَةِ مُدِيرِ المُسْتَشْفَى، وإِنَّمَا سَيَسْأَلُ عَنْ مُسْتَوَى الخَدَمَاتِ الطِّبِيَّةِ فِيهَا، وعَنْ نَظَافَتِهَا، وعَنْ مَدَى حِذْقِ ومَهَارَةِ الأَطِّبَاءِ وجَمِيعِ الطَّاقِمِ العَامِلِ فِيهَا.. فإِذَا كَانَ الأَمْرُ كَذَلِك فَهَلْ هُنَاكَ أَحَدٌ سَوفَ يَسْأَلُ عَنْ دِيَانَةِ وعَقِيدَةِ وِزَارَةِ الصِّحَّة؟.. هَلْ يَنْبَغِي لِوِزَارَةِ الصِّحَّةِ أَنْ تَكُونَ لَهَا دِيَانَةً وعَقِيدَةً؟.. وكَيْفَ يَكُونُ ذَلِك؟.. يَا سَادَتِي نَحْنُ يَهُمُّنَا في وِزَارَةِ الصِّحَّةِ أَدَاؤُهَا، وعَمَلُهَا وإخْلَاصُهَا، وتَهُمُّنَا مُؤَهِّلَاتُ وكَفَاءَةُ ومِهَنِيَّةُ العَامِلِينَ بِهَا وكَفَى.. ومَا الَّذِي سَيُضِيرُنَا إِذَا تَوَلَّى هَذِهِ الوِزَارَةَ شَخْصٌ غَيْرُ مُسْلِمٍ، لَكِنَّهُ كُفْءٌ ومُؤَهَّلٌ بِتَأْهِيلٍ عَالٍ، وسَيُدِيرُ أَعْمَالَ الوِزَارَةِ بِمِهَنِيَّةٍ عَالِيَة؟.. مَا الضَيْرُ في ذَلِكَ؟.. وَوِزَارَةُ الصِّحَّةِ هِيَ وِزَارَةٌ خِدْمِيَّةٌ، يَنْبَغِي عَلَيْهَا أَنْ تَقُومَ بِوَاجِبِهَا بِمِهَنِيَّةٍ وكَفَاءَةٍ عَالِيَة.. وهَذَا هُوَ المَطْلُوبُ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الحَصْرِ والتَّحْدِيدِ ولَيْسَ شَيْءٌ آخَر.. وعَلَيْهِ يُمْكِنُنَا أَنْ نَصِفَ هَذِهِ الوِزَارَةَ مِنْ مُنْطَلَقٍ لُغَوِيٍّ بِأَنَّهَا مُؤَسَّسَةٌ عَلْمَانِيَّةٌ، بِمَعْنَى أَنَّهَا مُؤَسَّسَةٌ تَعْمَلُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ بَحْتٍ، وخَدَمَاتُهَا لِلْجُمْهُورِ ولِلْشَّعْبِ خَدَمَاتٌ دُنْيَوِيَّةٌ ولَيْسَتْ دِينِيَّةٌ.
وكَذَلِكَ نَرَى أَنَّهُ إِذَا لَا قَدَّرَ اللهُ اعْتَدَى عَلِيْكَ أَحَدٌ من النَّاسِ، سَتَذْهَبُ مُبَاشَرَةً إِلَى قِسْمِ الشُّرْطَةِ، وسَتَفْتَحُ بَلَاغَاً، وسَوْفَ لَنْ تَسْأَلَ عَنْ دِيانَةِ الضَّابِطِ، ولَا عَنْ عَقِيدَةِ مُدِيرِ القِسْمِ، وإِنَّمَا سَتَهُمُّكَ في المَقَامِ الأَوَّلِ مَدَى مِهَنِيَّةِ رِجَالِ الشُّرْطَةِ في تَنَاوُلِ ومُعَالَجَةِ مُشْكِلَتِك.. فَإِذَا كَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ فَهَلْ سَتَسْأَلُ عَنْ دِيَانَةِ وعَقِيدَةِ وِزَارَةِ الدَّاخِلِيَّة؟.. وهَلْ يَعْنِي ذَلِكَ أَنَّهُ يُمْكِنُ لِوِزَارَةِ الدَّاخِلِيَّةِ أَنْ تَكُونَ مُؤْمِنَةً مُتَدَيِّنَةً تُطِيْعُ رَبَّهَا وتُؤَدِّي فَرْضَهَا؟.. بِاللهِ عَلَيْكُم هَلْ يَقُولُ بِذَلِكَ عَاقِلٌ؟.. يَا سَادَتِي نَحْنُ يَهُمُّنَا فِي وِزَارَةِ الدَّاخِلِيَّةِ أَدَاؤُهَا وعَمَلُهَا وإخْلَاصُهَا وضَبْطُهَا لِلْأَمْنِ وحِفْظُهَا لِلْنُّفُوسِ ولِلْمُمْتَلَكَاتِ الخَاصَّةِ والعَامَّةِ، وتَهُمُّنَا كَذَلِكَ مُؤَهِّلَاتُ وكَفَاءَةُ ومِهَنِيَّةُ العَامِلِينَ بِهَا وكَفَى.. ومَا الَّذِي سَيُضِيرُنَا إِذَا تَوَلَّى مَثَلَاً هَذِهِ الوِزَارَةَ شَخْصٌ غَيْرُ مُسْلِمٍ، لَكِنَّهُ كُفْءٌ ومُؤَهَّلٌ بِتَأْهِيلٍ عَالٍ، وسَيُدِيرُ أَعْمَالَ الوِزَارَةِ بِمِهَنِيَّةٍ عَالِيَةٍ؟.. مَا الضَّيْرُ في ذَلِكَ؟.. ووِزَارَةُ الدَّاخِلِيَّةِ وِزَارَةٌ خِدْمِيَّةٌ يَنْبَغِي عَلَيْهَا أَنْ تَقُومَ بِوَاجِبِهَا بِمِهَنِيَّةٍ وكَفَاءَةٍ عَالِيَةٍ.. وهَذَا هُوَ المَطْلُوبُ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الحَصْرِ والتَّحْدِيدِ ولَيْسَ شَيْءٌ آخَر.. وعَلَيْهِ يُمْكِنُنَا أَنْ نَصِفَ هَذِهِ الوِزَارَةَ مِنْ مُنْطَلَقٍ لُغَوِيٍّ بِأَنَّهَا مُؤَسَّسَةٌ عَلْمَانِيَّةٌ، بِمَعْنَى أَنَّهَا مُؤَسَّسَةٌ تَعْمَلُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ بَحْتٍ، وخَدَمَاتُهَا لِلْجُمْهُورِ ولِلْشَّعْبِ خَدَمَاتٌ دُنْيَوِيَّةٌ ولَيْسَتْ دِينِيَّةٌ.
والآنَ طَالَمَا عَرَفْنَا وتَأَكَّدَ لَنَا أَنَّهُ لُغَوِيَّاً يُمْكِنُنَا إسْتِخْدَامَ كَلِمَةِ العَلْمَانِيَّةِ لِوَصْفِ مُؤَسَّسَاتٍ أَوْ مُنَظَّمَاتٍ، فَإِنَّنَا إِطْلَاقَاً لَا نَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الكَيَانَاتِ كَافِرَةٌ، لَا تُؤْمِنُ باللهِ ولا تَعْتَقِدُ في دِينٍ.. وطَالَمَا جَازَ لَنَا هَذَا فَمَالَّذِي يَمْنَعُ أَنْ نَسْتَخْدِمَ لُغَوِيَّاً نَفْسَ الوَصْفِ لِنَصِفَ نِظَامَاً حَاكِمَاً بِأَنَّهُ نِظَامٌ عَلْمَانِي، أَيْ بِمَعَنْى أَنَّهُ نِظَامٌ يُدِيرُ شُؤُونَ البَلَدِ بِمِهَنِيَّةٍ بِدُونِ تَمْيِيزٍ بَيْنَ المُوَاطِنِينَ بِسَبَبِ الدِّينِ أَوْ العَقِيدَةِ أَوْ التَّوَجُّهَاتِ الفِكْرِيَّةِ والرُّؤَى الفَلْسَفِيَّة؟.
ومِمَّا لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ قَدْ يَنْبَرِي ويَنْدَفِعُ لِلْإِجَابَةِ عَلَى هَذَا السُؤَالِ، بِحَمَاسَةٍ طَاغِيَةٍ، شَخْصٌ ضَحْلُ الفِكْرِ، ضَعِيفُ الفَهْمِ في كِتَابِ اللهِ، لِيَقْفَلَ أَمَامَنَا أَيَّ بَابٍ لِلْحَدِيثِ في هَذَا المَوْضُوع، فَيُوْرِدُ لَنَا قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَل: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ).. ثُمَّ يُتْبِعُ ذَلِكَ شَارِحَاً ومُفَصِّلاً بِأَنَّ العَلْمَانِيَّةَ هِيَ إِبْعَادُ الدِّيْنِ عَنْ الحُكْمِ، وهِيَ حُكْمٌ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ، وبِالتَّالِي وَوِفْقَاً لِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ فَإِنَّ النِّظَامَ العَلْمَانِي نِظَامٌ كَافِرٌ، لا يَجُوزُ تَطْبِيقُهُ عَلَى المُسْلِمِين، ولا يَجُوزُ تَبَنِّيهِ، ولَا الدِّفَاعُ عَنْهُ، أَوْ الدَّعْوَةُ إِلَيْهِ، فَكُلُّ هَذَا كُفْرٌ صَرِيحٌ بِنَصِّ كِتَابِ اللهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ولَا مِنْ خَلْفِهِ.
وَدَعُونَا قَبْلَ أَنْ نُنَاقِشَ هَذَا الكَلَامَ، لِنَرَى هَلْ هُوَ صَحِيحٌ أَمْ خَطَأ، أَنْ نَتَوَقَّفَ عِنْدَ المَعْنَى المُرَادِ بِالضَّبْطِ مِنْ مُصْطَلَحِ (النِّظَام السِّيَاسِي العَلْمَانِي).. وَدَعُونَا نَأْخُذُ تَعْرِيفَ وشَرْحَ الجَمْعِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ العَلْمَانِيَّةِ فِي بِرِيطَانِيَا، حَيْثُ أَوْرَدَتْ عَلَى مَوْقِعِهَا عَلَى الإِنْتَرْنَت وبِاللُّغَةِ الإِنْجِلِيزِيَّةِ النَّصَّ التَّالِي بَعْدَ نَقْلِي المُتَوَاضِعِ لَهُ إِلَى اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ: (إِنَّ مَبَادِيءَ العَلْمَانِيَّةِ التي تَصُونُ وتُعَزِّزُ الحُرِّيَّاتِ التي نَسْتَمْتِعُ بِهَا هِيَ:
1) فَصْلُ المُؤَسَّسَاتِ الدِّينِيَّةِ عَنْ مُؤَسَّسَاتِ الدَّوْلَةِ وعَنْ الحَيَاةِ العَامَّةِ التي تُسَاهِمُ فِيهَا ولا تُهَيْمِنُ وتُسَيْطِرُ عَلَيْهَا.
2) حُرِّيَّةُ مُمَارَسَةِ المَرْءِ لِعَقِيدَتِهِ أَوْ لِمُعْتَقَدِهِ دُونَ الإِضْرَارِ بِالآخَرِينَ ، وحُرِّيَّةُ تَغْيِيرِ المُعْتَقَدِ أَوْ حَتَّى عَدَمُ الإِعْتِقَادِ أَصْلَاً، وَكُلُّ ذَلِكَ وِفْقَاً لِلْوَعْيِ والإِدْرَاكِ الخَاصِّ بِالمَرْءِ.
3) المُسَاوَاةُ بِحَيْثُ لا تَضَعُنَا مُعْتَقَدَاتُنَا الدِّينِيَّةِ أَوْ عَدَمُهَا فِي مَوْضِعِ تَمْيِيزٍ وأَفْضَلِيَّةٍ أَوْ حَطٍّ ودُونِيَّة) أ.هـــ
ومَنْ أَرَادَ الإِطِّلَاعَ عَلَى النَّصِّ الأَصْلِيِّ في لُغَتِهِ الإِنْجِلِيزِيَّةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقُومَ بِزِيَارَةِ مَوْقَعِ الجَمْعِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ العَلْمَانِيَّةِ National Secular Society)) عَلَى الإنْتَرْنَت.
هَذِهِ هِيَ الأُسُسُ والمَبَادِئُ التي تَقُومُ عَلَيْهَا الأَنْظِمَةُ العَلْمَانِيَّةُ، أَوْ الَّتِي مِنَ المُفْتَرَضِ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهَا.. والآنَ لِنَأْخُذَ هَذِهِ المَبَادِئ ونُمَرِّرُهَا عَلَى مَسْطَرَةِ الإسْلَامِ، فَإِنْ ظَهَرَ فِي أَيِّ وَاحِدٍ مِنْهَا تَجَاوُزٌ ومُخَالَفَةٌ حَكَمْنَا عَلَى الفِكْرَةِ كُلِّهَا بِالبُطْلَانِ، وجَازَ لَنَا أَنْ نُطْلِقَ أَلْسِنَتَنَا فِيهَا بِمَا شِئْنَا مِنْ أَوْصَافٍ، ولا غَضَاضَة حَتَّى لَوْ وَصَفْنَاهَا بِالكُفْرِ وأَحَطِّ الصِّفَاتِ.. لَكِنْ فِي المُقَابِلِ، ومِنْ العَدْلِ والإِنْصَافِ، إِذَا ظَهَرَ لَنَا أَنَّ هَذِهِ المَبَادِئَ لا تُخَالِفُ الإِسْلَامَ، بَلْ هِيَ مُضَمَّنَةٌ فِيهِ أَصْلَاً، عَلَى الأَقَلِّ وَجَبَ أَلَّا نَعْتَرِض طَرِيقَ تَطْبِيقِهَا.
وإِذَا تَنَاوَلْنَا المَبْدَأَ الأَوَّل، فَإِنَّنَا سَنُلَاحِظُ أَنَّهُ يَتَحَدَّثُ عَنْ فَصْلِ المُؤَسَّسَاتِ الدِّينِيَّةِ وإِبْعَادِهَا عَنْ الهَيْمَنَةِ والسَّيْطَرَةِ عَلَى حَيَاةِ النَّاسِ، ولَا يَتَحَدَّثُ هَذَا المَبْدَأُ إِطْلَاقَاً عَنْ فَصْلِ الدِّينِ عَنْ الدَّوْلَةِ، وفَصْلِ الدِّينِ عَنْ الحَيَاةِ، حَيْثُ مِنَ المُسْتَحِيلِ حُدُوثُ ذَلِكَ.. لَأَنَّ الدِّينَ جُزءٌ أَسَاسِيٌّ مِنْ تَكْوِينِ الأَفْرَادِ الَّذِينَ يُدِيرُونَ الدَّوْلَةِ.. فَكَيْفَ يَتَأَتَّي لَنَا أَنْ نَنْزِعَ الدِّينَ مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ؟.. هَذِهِ مُهِمَّةٌ مُسْتَحِيلَةٌ وخُرَافِيَّةٌ، وبِالتَّالِي يَتَّضِحُ لَنَا أَنَّ الحَدِيثَ عَنْ فَصْلِ الدِّينِ عَنْ الدَّوْلَةِ حَدِيثُ خُرَافَةٍ لَا أَكْثَر.
لَكِنْ هَلْ فَصْلَ المُؤَسَّسَاتِ الدَّينِيَّةِ ولَيْسَ الدِّينُ، وإِبْعَادَهَا عَنْ الهَيْمَنَةِ والسَّيْطَرَةِ عَلَى الدَّوْلَةِ، وعَلَى حَيَاةِ النَّاسِ، يُعَدُّ مِنَ الأُمُورِ المُحَرَّمَةِ والمُجَرَّمَةِ فِي الإِسْلَامِ؟.. وهَلْ هُوَ حَقَّاً كُفْرٌ ورِدَّةٌ ومُرُوقٌ مِنَ الدَّينِ؟.. أَمْ هُوَ مِنَ الأُمُورِ المُحَبَّبَةِ والمَطْلُوبَةِ والمَرْغُوبِ فِيهَا؟.. أَمْ هَلْ الإِسْلَامُ نَصَّبَ هَيْئَاتٍ وأَفْرَادَاً ومُؤَسَّسَاتٍ وجَعَلَهُم أَوْصِياءَ عَلَى النَّاسِ وعَلَى حَيَاتِهِم؟.. وهَلْ هُنَاكَ إِكْلِيرُوس وكَهَنُوت في الإِسْلَام؟.. وهَلْ هُنَاكَ في هَذَا الدِّينِ فِئَةٌ مِنَ النَّاسِ إِرْتَقَتْ، فَحَازَتْ واحْتَكَرَتْ كَلِمَةَ اللهِ، وصَارَتْ تَتَحَدَّثُ وتَنْطِقُ عَنِ اللهِ، وبِالتَّالِي كُلُّ مَا يَصْدُرُ عَنْهَا هُوَ كَأنَّهُ صَدَرَ عَنِ اللهِ، وعَلَيْهِ وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِم أَنْ يَنْصَاعُوا لِتَوْجِيهَاتِهِم، ويَأْتَمِرُوا بِأَوَامِرِهِم، ويَسْلُكُوا فِي حَيَاتِهِم وِفْقَ تَعْلِيمَاتِهِم، ولَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَحِيدُوا عَنْهَا، بَلْ لَيْسَ لَهُمْ مُنَاقَشَتَهَا ومُرَاجَعَتَهَا والتَّعْقِيبَ عَلَيْهَا؟.
يَا سَادَتِي وبِكُلِّ صَرَاحَةٍ وَوُضُوحٍ، نِهَائِيَّاً لَا تُوجَدُ فِي الإِسْلَامِ هَذِهِ الفِكْرَةُ، وقَدْ أَنْزَلَ اللهُ هَذَا الدِّينَ لِيُحَرِّرَ البَشَرَ، والعَقْلَ البَشَرِي، مِنَ الخُضُوعِ والإِنْصِيَاعِ والإِنْقِيَادِ الأَعْمَى لِأَهْوَاءِ وأَمْزِجَةِ وتَأْوِيلَاتِ وتَفْسِيرَاتِ واسْتِحْسَانَاتِ بَشَرٍ آخَرِينَ، تَحْتَ أَيِّ مُسَمَّىً كَان، وأَيِّ لَافِتَةٍ وعُنْوَان.. الإِسْلَامُ يَا سَادَةُ سَمَّى هَذَا الفِعْلَ عُبُودِيَّةً، وجَعَلَ ذَلِكَ شِرْكَاً واتِّخَاذَاً لِلَأَرْبَابٍ مِنْ دُونِ اللهِ، حَيْثُ قَالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ في كِتَابِهِ: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون).
وفِي الإِسْلَامِ الإتِّبَاعُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلْحَقِّ، ولَيْسَ لِلْأَشْخَاصِ والهَيْئَاتِ والمُؤَسَّسَاتِ، حَيْثُ قَالَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ: (اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ).. وإِذَنْ وعَلَى هَذَا الأَسَاسِ فَإِنَّ الإِتِّبَاعَ فِي الإِسْلَامِ يَكُونُ فَقَطْ لِلْحَقِّ، ولَيْسَ لِلْأَشْخَاصِ ولَا لِلْهَيْئَاتِ ولَا لِلْمُؤَسَّسَاتِ.. ومَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا هُوَ كِتَابُ اللهِ المَسْطُورِ، الَّذِي هُوَ مَصْدَرُنَا لِلْمَعْرِفَةِ، بِالإِضَافَةِ إِلَى كِتَابِ اللهِ المُنْظُورِ (الطَّبِيعَةِ).. وبِالتَّالِي كُلُّ حَقِيقَةٍ، وكُلُّ مَعْلُومَةٍ صَحِيحَةٍ ثَابِتَةٍ، هِيَ مِمَّا أُنْزِلَ إِلَيْنَا مِنْ رَبِّنَا، سَوَاءَاً كَانَتْ مَسْطُورَةً أَوْ مَنْظُورَةً، حَيْثُ هُمَا سِيَّانِ، لَا فَرْقٌ بَيْنَهُمَا، لِصُدُورِهِمَا مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ.. وعَلَيْهِ فَإِنَّ الإِتِّبَاعَ يَكُونُ فَقَطْ لِلْحَقَائِقِ ولِلْمَعْلُومَاتِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ.. ومُهِمَّةُ العُلَمَاءِ هِيَ التَبْيِينُ والتَّوْضِيحُ لِهَذِهِ الحَقَائِقِ والمَعْلُومَاتِ بِالأَدِلَّةِ والإِثْبَاتَاتِ والبَرَاهِينِ، ولَيْسَتْ مُهِمَّتُهُم أَنْ يَكُونُوا أَوْصِيَاءَ وسَادَةً عَلَى الشَّعْبِ لِيَكُونَ رَهْنَ إِشَارَتِهِم وتَحْتَ إِمْرَتِهِم.
أَمَّا المَبْدَأ الثَّانَي الَّذِي يَتَحَدَّثُ عَنْ حُرِيَّةِ العَقِيدَةِ، فَقَدْ صَرَّحَتْ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ، بِوُضُوحٍ شَدِيدٍ لَا يُعْوِزُنَا إِلَى مَزِيدِ شَرْحٍ وتَفْصِيلٍ، حَيْثُ قَالَ اللهُ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ تَنْزِيلِهِ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)، وقَالَ عَزَّ وجَلَّ فِي آيَةٍ أُخْرَي: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، ثُمَّ فِي آيَةٍ أُخْرَي تَنْجَلِي الفِكْرَةُ بِأَوْضَحِ وأَنْصَعِ عِبَارَةٍ، حَيْثُ قَالَ رَبُّ العِزَّةِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).. فَعَجَبِي كَيْفَ نَزِيغُ بَعْدَ هَذَا الوُضُوحِ التَّامِ، وهَذَا الكَلَامِ العَرَبِيِّ المُبِينِ، والتَّوْجِيهَاتِ الإِلَاهِيَّةِ السَّامِيَةِ، والعِبَارَاتِ والجُمَلِ المُحْكَمَةِ، الَّتِي لَا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ؟.
أَمَّا المَبْدَأ الثَّالِثُ الَّذِي يَتَحَدَّثُ عَنِ المُسَاوَاةِ، فَإنَّ المَقْصُودَ مِنْهُ أَنْ تُعَامِلَ الدَّوْلَةُ مُوَاطِنِيهَا، بِمُخْتَلِفِ أَدْيَانِهِم وعَقَائِدِهِم ومِلَلِهِم ونِحَلِهِم، بِمُسَاوَاةٍ وبِلَا أَيِّ تَمْييِزٍ أَوْ تَفْضِيلٍ مِنْ أَيِّ نَوْعٍ.. وهَذَا مِنَ العَدْلِ الَّذِي يَطْلُبُهُ البَشَرُ اليَوْمَ فِي بُلْدَانِهِم ومُجْتَمَعَاتِهِم.. وفِي القُرْآنِ نَجِدُ أَنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ قَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ أَصْلَاً وأَسَاساً لَمْ يُرْسِلْ الرُّسُلَ ولَمْ يُنْزِلِ الكُتُبَ، إلَّا لِأَجْلِ العَدْلِ، حَيْثُ قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ).. ثُمَّ إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ ذَكَرَ أَنَّ مِنْ مُرَادَاتِهِ فِي خَلْقِهِ، وُجُودَ الإِخْتِلَافِ نَفْسِهِ بَيْنَ البَشَر، ولَوْ أَرَادَ لَجَعَلَهُم عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، لَكِنَّ مَشِيئَتَهُ لَمْ تُرِدْ ذَلِكَ، فَقَالَ جل جلاله وتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).. ويَقُولُ أَيْضَاً فِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ).
وإِذَنْ إِذَا كَانَ وُجُودُ الإِخْتِلَافِ أَمْرَاً حَتْمِيَّاً لَا مَفَرَّ مِنْهُ ولَا مَهْرَبَ، لَأَنَّ وُجُودَهُ قَدْ تَمَّ بِإِرَادَةِ اللهِ ومَشِيئَتِهِ، وإِذَا كَانَ اللهُ قَدْ أَمَرَ بِالعَدْلِ مَعَ النَّاسِ جَمِيعَاً وإِنْ كَانُوا مِنْ البُغَضَاءِ المَكْرُوهِينَ، حَيْثُ قَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).. بَلْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، حَيْثُ نَجِدُ أَنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ قَدْ وَضَعَ الحَدَّ الأَدْنَى، الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ التَّعَايُشُ فِي المُجْتَمَعِ المُتَنَوِّعِ والمُتَعَدِّدِ وذِي التَّوَجُّهَاتِ والأَفْكَارِ والعَقَائِدِ المُخْتَلِفَةِ، فَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: (عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).. فَإِذَا وَضَعَ اللهُ لَنَا هَذِهِ الخُطُوطَ العَرِيضَةَ بِصُورَةٍ وَاضِحَةٍ لَا لُبْسَ فِيهَا، لِيَتَأَسَّسَ عَلَيْهَا المُجْتَمَعُ المُتَنَوِّعُ والمُتَعَدِّدُ، فَمَا الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ إِقَامَةِ دَوْلَةٍ تَتَعَامَلُ بِحِيَادِيَّةٍ مَعَ الجَمِيعِ، وتَقِفُ مِنَ الجَمِيعِ عَلَى مَسَافَةٍ واحِدَةٍ، لَا تُحَابِي أَحَدَاً، ولَا تُفَضِّلُ ولَا تُمَيِّزُ أحداً عَلَى أَحَدٍ؟.
وهَذِهِ هِيَ عَلْمَانِيَّةُ الدَّوْلَةِ المَقْصُودَةِ.. وقَدْ قُمْنَا لِلْتَوِّ بِعَرْضِ جَمِيعِ مَبَادِئِهَا عَلَى الإِسْلَامِ، وعَلَى كِتَابِ اللهِ، ولَمْ نَجِدْ مَبْدَءَاً واحِدَاً مِنْ مَبَادِئِهَا إِلَّا ولَهُ أَصْلٌ وذِكْرٌ وشَرْحٌ وتَفْصِيلٌ فِي كِتَابِ اللهِ.. فَمِنْ أَيْنَ جَاءَ إِلْصَاقُ وَصْمِ الكُفْرِ بِالعَلْمَانِيَّةِ إِذَنْ؟.. هَذَا فِي نَظَرِي واعْتِقَادِي يَرْجِعُ لِسَبَبَيْن.. السَّبَبُ الأَوَّلُ هُوَ التَّشْوِيشُ الحَاصِلُ نَتِيجَةً لِلْأَصْلِ اللُّغَوِيِّ لِكَلِمَةِ العَلْمَانِيَّة، والَّذِي يَعْنِي الدُّنْيَوِيَّةَ واللَّادِينِيَّةَ، ويَعْنِي عَدَمَ وَضْعِ الفَرْدِ والشَّخْصِ أَيَّ اعْتِبَارٍ لِلْدِّينِ فِي حَيَاتِهِ.. وهَذَا لَا شَكَّ أَوْجَدَ حَاجِزَاً نَفْسِيَّاً وصُدُودَاً مِنْ تَقَبُّلِ أَيِّ فِكْرَةٍ مَهْمَا كَانَتْ، وهِيَ تَحْمِلُ مُصْطَلَحَ العَلْمَانِيَّةِ كَعُنْوَانٍ لَهَا.. وطَبْعَاً لَيْسَ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ، أَنَّهُ تُوجَدُ وبِكَثْرَةٍ عَلَى مَسْرَحِنَا السِّيَاسِي جَمَاعَاتٌ ذَاتُ اتِّجَاهَاتٍ مُحَدَّدَةٍ، تَتَزَيَّا بِزِيِّ الدِّينِ، مِنْ مَصْلَحَتِهَا الإِبْقَاءُ عَلَى هَذِهِ المَفَاهِيمِ المَغْلُوطَةِ، والعَمَلُ بِدَأَبٍ عَلَى إِذْكَاءِ مَزِيدٍ مِنَ التَّخْوِيفِ والتَّرْهِيب مِنْهَا.
فَيَا سَادَتِي دَعُونَا لَا نَنْسَى أَنَّ التَّعْرِيفَ اللُّغَوِيَّ لِلْعَلْمَانِيَّةِ، هُوَ تعْرِيفٌ لُغَوِيٌّ بَحْتٌ، يَشْرَحُ أَصْلَ مَعْنَى الكَلِمَةِ، وأَمَّا مَا يَخُصُّ ويَتَعَلَّقُ بِصِفَةِ الكُفْرِ الَّتِي تَحْمِلُهَا هَذِهِ الكَلِمَةُ، فَهُوَ يَنْطَبِقُ حَصْرَاً وقَصْرَاً وتَحْدِيدَاً عَلَى الفَرْدِ والشَّخْصِ المُعَيَّنِ الَّذِي تَحَقَّقَ فِيهِ مَعْنَاهَا.. وكَمَا سَبَقَ لِي أَنْ ذَكَرْتُ فِي هَذَا المَقَالِ، أَنَّهُ إِذَا جَازَ لَنَا أَنْ نُسَمِّيَ ونُطْلِقَ عَلَى مُؤَسَّسَةٍ بِأَنَّهَا مُؤَسَّسَةٌ عَلْمَانِيَّةٌ، فَهَذَا الوَصْفُ لَا يَتَعَدَّى كَوْنَ هَذِهِ المُؤَسَّسَةِ تَعْمَلُ فِي مَجَالٍ لَا يَقَعُ ضِمْنَ الأَعْمَالِ والنَّشَاطَاتِ الدِّينِيَّةِ، ولَا يُمْكِنُ بِحَالٍ لَا عَقْلَاً ولَا مَنْطِقَاً أَنْ نَصِمَ مُؤَسَّسَةً بِأَنَّهَا مُؤَسَّسَةٌ كَافِرَةٌ لَا تُؤْمِنُ بِاللهِ، ولَا تَعْتَقِدُ فِي دِين.
وعَلَى هَذَا وبِنَفْسِ الفَهْمِ نَجِدُ أَنَّ الفِكْرَةَ هِيَ هِيَ نَفْسَهَا مُنْطَبِقَةٌ عَلَى الأَنْظِمَةِ السِّيَاسِيَّة، فَإِنْ جَازَ لَنَا أَنْ نُطْلِقَ عَلَى نِظَامٍ سِيَاسِيٍّ بِأَنَّهُ نِظَامٌ عَلْمَانِي، فَهَذَا فَقَطْ لِلْدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ نِظَامٌ لا يُفَضِّل دِينَاً عَلَى دِينٍ، ولَا يَنْحَازُ لِدِينٍ ضِدَّ دِينٍ آخَر، وإِنَّمَا هُوَ نِظَامٌ يَعْمَلُ بِالضَّبْطِ كَالآلَةِ الَّتِي يَنْتَفِعُ بِهَا الجَمِيعُ، بِإِخْتِلَافِ أَدْيَانِهِم وعَقَائِدِهِم ومَذَاهِبِهِم واتِّجَاهَاتِهِم، وهَذَا النِّظَامُ يَضُمُّ أَفْرَادَاً، ويُحَرِّكُ آلَتَهُ الضَّخْمَةَ أَفْرَادٌ مِنْ مُخْتَلِفِ الأَدْيَانِ والمِلَلِ والنِّحَل.
أَمَّا السَّبَبُ الثَّانِي لِوَصْمِ العَلْمَانِيَّةِ بِالكُفْرِ، فَيَرْجِعُ إِلَى مَسْأَلَةِ القَوَانِين، ويُلاحَظُ أَنَّ هُنَاكَ خَلْطٌ كَبِيرٌ وتَشْوِيشٌ مَا بَعْدَهُ تَشْوِيشٌ فِي هَذِهِ المَسْأَلَةِ، حَيْثُ يَقُولُونَ أَنَّ العَلْمَانِيَّةَ مَعْنَاهَا ومُؤَدَّاهَا نَبْذُ أيِّ قَوَانِينَ وتَشْرِيعَاتٍ تَمُتُّ إِلَى الإِسْلَامِ بِصِلَةٍ، ثُمَّ إِحْلَالُ قَوَانِينَ وَضْعِيَّةٍ مُنَاقِضَةٍ لِلْإِسْلَامِ بَدَلَاً عَنْهَا، كَإِبَاحَةِ الدَّعَارَةِ والخُمُورِ والفِسْقِ والفُجُورِ، وكُلِّ مَا يُنَافِي الأَخْلَاقَ والتَّقَالِيدَ والقِيَمَ الإِسْلَامِيَّةِ الأَصِيلَةِ، في حِينِ أَنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يَأْمُرُنَا في كِتَابِهِ فَيَقُولُ: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).. ثُمَّ يُحَذِّرُنا رَبُّ العِزَّةِ تَبَارَكَ وتَعَالَى أَيَّمَا تَحْذِيرٍ مِنْ مَغَبَّةِ عَدَمِ الحُكْمِ بِمَا أَنْزَلَ، فَيَقُولُ جَلَّ شَأْنُهُ: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ).. فَمَا هُوَ الفَهْمُ إِذَنْ؟.. وكَيْفَ يَكُونُ التَّوْفِيقُ بَيْنَ هَذِهِ الأَوَامِرِ الرَّبَّانِيَّةِ وبَيْنَ العَلْمَانِيَّةِ؟.. وهَلْ هُنَاكَ أَصْلَاً مَجَالٌ لِلْتَوْفِيقِ والجَمْعِ بَيْنَهُمَا؟.
يَا سَادَتِي إِطْلَاقَاً لَيْسَ فِي الأَمْرِ أَيَّ مُعْضِلَةٍ، وحَلُّ هَذِهِ المَسْأَلَةِ فِي غَايَةِ البَسَاطَةِ فِي كِتَابِ اللهِ، لَكِنَّ مُشْكِلَتَنَا هِيَ أَنَّنَا هَجَرْنَا كِتَابَ اللهِ، وصِرْنَا فَقَطْ نَأْخُذُ دِينَنَا عَنْ القِيلِ والقَال، وعَنْ حَدَّثَنَا وأَخْبَرَنَا، واكْتَفَيْنَا بِذَلِكَ، وصَارَ القُرْآنُ لِلْأَسَفِ يَرْسُفُ فِي أْغْلَالٍ كَثِيفَةٍ مِنَ الأَحَادِيثِ والقَصَصِ والحِكَايَاتِ الَّتِي يَرْوِيهَا لَنَا الثِّقَاتُ كَمَا نَزْعُمُ، وبِالتَّالِي لَمْ يَعُدْ فِي مَقْدُورِنَا أَنْ نَأخُذَ المَعْلُومَةَ مُبَاشَرَةً مِنْ كِتَابِ اللهِ، إِلَّا إِذَا اسْتَوْثَقْنَا مِنْهَا فِي مُسْتَوْدَعَاتِ ومَظَانِّ الرِّوَايَاتِ، بَدَلَ أَنْ يَكُونَ كِتَابُ اللهِ هُوَ الحَاكِمُ، وهُوَ المَرْجِعُ الأَسَاسُ فِي كُلِّ شُؤُونِنَا، والَّذِي عَلَى مَسْطَرَتِهِ نَقِيسُ كُلَّ هَذَا الكَمِّ الهَائِلِ مِنَ الحَكَاوِي والقَصَصِ والرِّوَايَاتِ.
يَا سَادَتِي يَا كِرَامُ كِتَابُ اللهِ كَمَا أَسْلَفْنَا فِي هَذَا المَقَالِ، أَعْطَى النَّاسَ كَامِلَ الحُرِيَّةِ، وحَتَّى حُرِيَّةَ اخْتِيارِ الدِّينِ نَفْسِهِ، فَقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ).. وقَالَ عَزَّ وجَلَّ فِي آيَةٍ أُخْرَي: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).. ثُمَّ فِي آيَةٍ أُخْرَي تَنْجَلِي الفِكْرَةُ بِأَوْضَحِ وأَنْصَعِ عِبَارَةٍ، حَيْثُ يَقُولُ رَبُّ العِزَّةِ تَبَارَكَ وتَعَالَى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ).. إِذَنْ مِنَ الدِّينِ نَفْسِهِ الَّذِي أَرَادَهُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، تَرْكُ النَّاسِ لِكَيْ يَخْتَارُوا دِينَهُم بِكَامِلِ حُرِّيَّتِهِم.. هَذَا هُوَ دِينُ اللهِ الَّذِي أَرَادَهُ لِعِبَادِهِ، وهُوَ أَنْ تُتَاحَ لَهُم الحُرِيَّةَ كَامِلَةً غَيْرَ مَنْقُوصَةٍ، لإِخْتِيَارِ الدِّينِ أَوْ عَدَمِ اخْتِيَارِهِ، لِلْقَبُولِ بِهِ أَوْ رَفْضِهِ، لِلْإِيمَانِ بِهِ والتَّصْدِيق، أَوْ لِلْكُفْرِ بِهِ والجُحُود.. هَذِهِ كُلُّهَا لَا شَكَّ مِنَ المَسَائِلِ الشَّخْصِيَّةِ الَّتِي تَرْجِعُ إِلَى إِخْتِيَارَاتِ الشَّخْصِ وقَنَاعَاتِهِ.. ولَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ سَيَزِيدُ أَوْ يُنْقِصُ مِنْ مُلْكِ اللهِ، فَهُوَ جَلَّ شَأْنُهُ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِين، يُرِيدُ أَنْ يَعِيشَ جَمِيعُ النَّاسِ بِمُخْتَلِفِ أَدْيَانِهِم ومِلَلِهِم ونِحَلِهِم، فِي مُجْتَمَعٍ وَاحِدٍ بِسَلَام، لا يَعْتَدِي فِيهِ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ بِسَبَبِ دِينِهِ وإيمَانِهِ، أَوْ كُفْرِهِ وإِلْحَادِهِ، وأَنْ يَنْعَمَ الجَمِيعُ فِي هَذَا المُجْتَمَعِ بِالأَمْنِ والأَمَانِ، وكَامِلِ الحُقُوقِ غَيْرِ مُنْقُوصَةٍ.
لَكِنْ هُنَا قَدْ يَنْبَرِي لَكَ أَحَدٌ فَيَقُولُ لَكَ عَلَى سَبِيلِ المِثَالِ: كَيْفَ ذَلِكَ واللهُ عَزَّ وجَلَّ فِي كِتَابِهِ يَقُولُ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)؟.. ثُمَّ يَسْتَطْرِدُ ويَقُولُ: هَذِهِ الآيَةُ واضِحَةٌ فِي الأَمْرِ بِقِتَالِ جَمِيعِ النَّاسِ، حَتَّى يَخْضَعُوا لِحُكْمِ اللهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ ولَا مَنَاصَ مِنْ ذَلِكَ، ويَا أَيُّهَا الَّذِي تُرِيدُ أَنْ تَلْوِي أَعْنَاقَ الآيَاتِ لِتَتَوَافَقَ مَعَ فِكْرِكَ المُنْحَرِفِ الضَّالِ المُضِلِّ هَلْ تُرِيدُ وُضُوحَاً أَكْثَرَ مِنْ هَذَا الوُضُوح؟.
وكَإِجَابَةٍ عَلَى مِثْلِ هَذَا الشَّخْصِ المُتَشَنِّجِ أَقُولُ: أَوَّلَاً: كَلَامُ اللهِ لَا يَنْقُضُ بَعْضُهُ بَعْضَاً، ولا يُمْكِنُ بِأَيِّ حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ أَنْ يُعْطِيَ اللهُ جَلَّ شَأْنُهُ فِي بَعْضِ الآيَاتِ الحُرِيَّةَ كَامِلَةً لِجَمِيعِ النَّاسِ، فِي اخْتِيَارِ الدِّينِ أَوْ تَرْكِهِ، ثُمَّ يَأْتِي فِي آيَةٍ أُخْرَى لِيَنْقُضَ كَلَامَهُ الأَوَّلَ، ويَأْمُرُ المُؤْمِنِينَ بِقِتَالِ غَيْرِ المُؤْمِنينَ، حَتَّى يَنْصَاعُوا لِأحْكَامِ اللهِ الَّتِي أَنْزَلَهَا فِي كِتَابِهِ.. هَذَا أَمْرٌ مِنَ المُسْتَحِيلِ حُدُوثُهُ، بَلْ اللهُ عَزَّ وجَلَّ أَكَّدَ هَذَا المَعْنَى فَقَالَ: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ).. وقَالَ جَلَّ شَأْنُهُ فِي آيَةٍ أُخْرَى: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).
وثَانِيَاً: أَنَّ الآيَةَ الَّتِي ذَكَرَهَا المُتَشَنِّجُ لِيَسْتَدِلَّ بِهَا عَلَى إِكْرَاهِ النَّاسِ عَلَى الدِّينِ، قَدْ اقْتَطَعَهَا مِنْ سِيَاقِهَا، ولَوْ أَنَّهُ قَدْ قَرَأَهَا فِي سِياقِهَا كَامِلَاً لَعَرَفَ أَنَّ المَقْصُودَ هُوَ عَيْنُ المَعْنَى المَقْصُودَ فِي الآيَاتِ الَّتِي أَعْطَتْ النَّاسَ حُرِّيَتَهُم فِي الإخْتِيَار.. يَقُولُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ فِي سُورَةِ الأَنْفَالِ: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ۚ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ۚ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ ۚ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىٰ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ۚ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ۙ وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ۖ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ۗ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ۗ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)).
وقَدْ اضْطُرِرْتُ لِنَقْلِ كُلِّ هَذِهِ الآيَاتِ، لِيَتَّضِحَ أَنَّ السِّياقَ الَّذِي ذُكِرَتْ فِيهِ آيَةُ (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) هُوَ أَنَّ هُنَاكَ مَنْ جَمَعَ الجُيُوشَ، وحَشَدَ النَّاسَ وأَلَّبَهُم، وشَحَذَ هِمَمَهُم، وأَلْهَبَ حَمَاسَتَهُم، لِيُقَاتِلُوا المُسْلِمِينَ، كَيْ يَرُدُّوهُم عَنْ دِينِهِم.. يَعْنِي أَنَّ هُنَاكَ مَنْ جَاءَ بِجَيْشِهِ وجُنُودِهِ وعَتَادِهِ لِيُكْرِه المُسْلِمِينَ عَلَى تَرْكِ دِيْنِهِم، والرُّجُوعِ إِلَى دِينِ الآبَاءِ والأَجْدَادِ.. وهَذَا الإِكْرَاهُ يَا سَادَتِي، وعَدَمُ إِتَاحَةِ الحُرِيَّةِ لِلْنَّاسِ فِي اخْتِيَارِهِم لِدِينِهِم، يُنَاقِضُ دِينَ اللهِ الَّذِي أَمَرَ بِالحُرِيَّةِ كَامِلَةً غَيْرَ مَنْقُوصَةٍ، ولِذَلِكَ وَجَبَ قِتَالُ كُلِّ مَنْ يُريدُ أَنْ يَفْرِضَ الإِسْتِبْدَادَ وأَنْ يُصادِرَ حُرِيَّةَ النَّاسِ.
وعَلَى هَذَا الفَهْمِ، وعَلَى هَذَا المَعْنَى، نَفْهَمُ جَمِيعَ الآيَاتِ الَّتِي تَحُضَّنَا عَلَى قِتَالِ الآخَرِ المُخْتَلِفِ مَعَنَا فِي الدِّينِ والعَقِيدَةِ والفِكْرِ.. فَهِيَ بِأَيِّ حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ لَا تَحُضُّنَا عَلَى إِبْتِدَاءِ العُدْوَانِ، وعَلَى مُبَادَرَةِ النَّاسِ بِالقَتْلِ والقِتَالِ، بِقَدْرِ مَا أَنَّهَا تَحُضُّنَا، وتَحُثُّنَا لِلْنُّهُوضِ لِقِتَالِ المُعْتَدِينَ، الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَقْهَرُونَا ويُصَادِرُوا حُرِّيَّتَنَا، لِكَيْ نَعْبُدُ مَا يَعْبُدُون، ونُؤْمِنُ بِمَا يُؤْمِنُون، ونَبْصُمُ بِالعَشَرَةِ عَلَى كُلَّ مَفَاهِيمِهِم وأَفْكَارِهِم، وإِنْ كَانَتْ لَا تَقُومُ عَلَى مَنْطِقٍ وعَقْلٍ، وعَلَى عِلْمٍ وفَهْمٍ.. ولَا رَيْبَ أَنَّ الإِسْلَامَ كَمَا أَنْزَلَهُ اللهُ صَافِيَاً نَقِيَّاً كَانَ ولَا يَزَالُ أَعْظَمُ حَرَكَةٍ تَحَرُّرِيَّةٍ شَهِدَهَا العَالَمُ مُنْذُ خَلْقِهِ الأَوَّلِ ضِدَّ الأُحَادِيَّةِ والإِسْتِبْدَادِ والقَهْرِ وكَبْتِ الشُّعُوبِ.
والآنَ بَعْدَ أَنْ خَرَجْنَا مِنْ هَذَا النِّقَاشِ الطَّوِيلِ نِسْبِيَّاً بِنَتِيجَةٍ مُؤَدَّاهَا أَنَّ فِكْرَةَ النِّظَامِ السِّيَاسِيِّ العَلْمَانِيِّ لَا تُخَالِفُ الإِسْلَامَ، دَعُونَا نُحَاوِلُ الإجَابَةَ عَلَى السُّؤالِ عُنْوَانَ المَقَالِ: لِمَاذَا يَكْرَهُونَ العَلْمَانِيَّةَ؟.. لِمَاذَا كُلُّ هَذَا العَدَاء، وكُلُّ هَذَا البُغْضِ، وكُلُّ هَذَا الغَضَبِ الَّذِي تَنْهَالُ حِمَمُهُ النَارِيَّةُ، وتَنْصَبُّ عَلَى رَأسِ فِكْرَةِ إِقَامَةِ نِظَامٍ سِيَاسِيٍّ عَلْمَانِيٍّ فِي السُّودَانِ؟.. هَلْ بَعْدَ كُلِّ مَا أَسْلَفْنَا مِنْ حَدِيثٍ مُسْهَبٍ، ومُنَاقَشَةٍ صَرِيحَةٍ لَا يَزَالُ هُنَاكَ مُبَرِّرٌ لِوُجُودِ هَذَا المَوْقِفِ العَدَائي تِجَاهَ العَلْمَانِيَّةِ؟.
يَا سَادَتِي إِنَّ أَعْدَاءَ ومُبْغِضِي النِّظَامِ السِّيَاسِيِّ العَلْمَانِيِّ نَوْعَانِ مِنَ النَّاسِ.. نَوْعٌ مَخْدُوعٌ قَدْ تَمَّ إِفْهَامُهُ أَنَّ العَلْمَانِيَّةَ كُفْرٌ ومُروقٌ مِنَ الدِّينِ، وأَنَّ القَبُولَ بِهَا يَعْنِي القَبُولَ بِكُلِّ المُوبِقَاتِ الَّتِي حَرَّمَها الإِسْلَامُ، مِنْ إِبَاحةِ الخُمُورِ والدَّعَارَةِ والشُّذُوذِ الجِنْسِي، وإِبَاحَةِ زَوَاجِ الرَّجُلِ بالرَّجُلِ، والمَرْأَةِ بِالمَرْأَةِ، وهَذَا النَّوْعُ يُذَكِّرُنِي بِقِصَّةٍ، كَانَ قَدْ حَكَاهَا الدِكْتُور طَهَ حُسَيْن، فِي أَحَدِ كُتُبِهِ، عَنِ الأُسْتَاذِ والمُثَقَّفِ الكَبِيرِ أَحْمَد لُطْفِي السَّيِّد، وكَيْفَ أَنَّهُ فِي الإِنْتِخَابَاتِ العَامَّةِ، قَدْ نَزَلَ أَمَامَهُ مُنَافِسَاً لَهُ فِي دَائِرَتِهِ، رَجُلٌ أُمِيٌّ لا يُحْسِنُ يَفِكُّ الخَطَّ، لَكِنْ رُغْمَ ذَلِكَ، اسْتَطَاعَ هَذَا الأُمِيُّ ولِشِدَّة

‫2 تعليقات

  1. هل الهندسه علمانيه هههههه السوال غير حقيقي بمعني أن الشخص عندما يتحدث عن الدين أو العلمانيه فهو يتحدث عن التشريع وليس الهندسه … فمن غير المنطقي أن اسالك عن الهندسه لتجاوب علي ذلك من علوم الطب والبيطره لم اكمل المقال ولكن مررت علي هذه الجزئيه

  2. مقال ممتاز…هنالك بعض الأسئلة تحتاج لاجابه من صاحب المقال نتركها لوقتها لكن اتمنى ان يكون هناك رد من المعارضين من اجل التوضيح باسلوب ديمقراطي من اجل الوصول لكلمة سواء.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..