تيارات الإصلاح و الدعوة لوحدة اليسار

تيارات الإصلاح و الدعوة لوحدة اليسار

تمر أحزاب اليسار في السودان بأزمة تنظيمية و فكرية كبيرة شلت قدراتها و جعلتها خارج دائرة صناعة الأحداث، و أزمة اليسار السوداني ليست أزمة ذات أسباب خاصة، أنما تأثرت بالأزمة التي تمر بها قوي اليسار في المنطقة، بدأت الأزمة منذ هزيمة العرب أمام إسرائيل عام 1967، حيث سقطت كل الشعارات التي كانت يرفعها اليسار القومي. و كشفت إن النظم التي كانت تسمي تقدمية ما هي إلا نمور من ورق، فغياب الديمقراطية و عدم الاعتراف بالرأي الأخر، كان سببا مباشرا في الهزيمة التي أدت إلي انحسار التيار القومي، و الذي كان قابضا علي زمام الأمر في عدد من الدول في “مصر و سوريا و العراق و الجزائر” ثم جاء غزو العراق للكويت حيث وضع هذا اليسار أمام تحدي جديد، حيث انقسمت القوي لمؤيدة للغزو و أخرى معارضة. كل تلك التطورات كانت تفتح لقادم جديد علي الساحة السياسية، هي المؤسسات العسكري، التي وصلت السلطة عبر انقلابات في السودان و ليبيا و اليمن، و سارت علي ذات المنوال القديم، ثم جاءت حركات الإسلام السياسي، و هي قوي أيضا رغم اختلاف مرجعيتها الفكرية عن قوي اليسار، لكنها ورثت منه ذات النظم الشمولية، بدلا أن تستفيد من تجربة اليسار القومي و فشله في الحكم، في أن يقيم نظم ديمقراطية تؤسس للاستقرار الاجتماعي، و تمهد طريق التنمية و النهضة، و تحاول أيضا أن تقدم جديدا يشق طريقا للديمقراطية و الحرية وسط ثقافة لوثتها الديكتاتوريات، فضلت أن تسلك ذات الطريق، في انتهاكات الحقوق، و تشييد سجون جديدة تمارس فيها أبشع أنواع الاضطهاد و التعذيب، هذا الطريق لا ينتج إلا عنفا، لذلك فتحت مسارات جديدة للنزاعات الداخلية، و بدلا أن تكون التنمية المحور الأساسي، أصبحت الأجندة الأمنية المتعلقة بالحفاظ علي النظام هي الغاية، ألمر الذي عمق الأزمات السياسية أكثرن و خاصة في السودان.
و في تطور أخر؛ كان سقوط الاتحاد السوفيتي يمثل كارثة كبيرة علي الأحزاب الماركسية، التي كانت تدور في فلكه، و قد عرضها لتحديات فكرية و تنظيمية كبيرة، بعض الأحزاب استطاعت أن تعيد قرأتها للماركسية بعقل مفتوح، حيث أخضعت التجربة كلها لدراسة نقدية، و لم تفكر في قضية الهزيمة و الانتصار، إنما البحث عن الأسباب التي أدت لانهيار التجربة التي استمرت قرابة الثمانية عقود، و البعض الأخر ظل دغمائيا، حيث اعتقد أن دراسة التجربة لمعرفة انهيار الاتحاد السوفيتي تعد خيانة للماركسية، أغلقوا عقولهم و أعينهم و ضربوا هائمين في ظلام عدم المعرفة و الدراية، لكن سقوط الاتحاد السوفيتي كان سببا في سقوط كل النظم السياسية التي تحكم من قبل الأحزاب الشيوعي في أوروبا الشرقية، و الأحزاب الماركسية التي أخضعت التجربة للتقييم و الدراسة النقدية قد أعادت النظر فكريا في مسألة ديكتاتورية البوليتاريا، لكي تنسجم أطروحاتها الفكرية مع التطورات السياسية الجديدة الديمقراطية. ثم جاءت حرب الخليج الثانية التي أدت لسقوط النظام البعثي في العراق من قبل الامبريالية، “كما يحب أن يقول الرفاق” و الثورات العربية أدت إلي اندلاع الحرب الأهلية في سوريا. كل تلك الأحداث قد رمت بظلالها علي قوي اليسار السوداني، إن كانت ماركسية أو قومية بأنواعها و مسمياتها المختلفة.
و بدلا إن تفتح هذه القوي السياسية حوارا حول تجربة اليسار العربي في الحكم، أغفلت ذلك، بل وصمت كل من ينادي بوجوب تقييم التجربة بأنه عميل امبريالي، هؤلاء النخب الذين كانوا علي قيادة تلك القوي السياسية ورثوا من النظم الديكتاتورية الثقافة الشمولية، ليس لديهم في الحوار و الرأي الأخر تجربة، غير إنه يمثل الخيانة بكل أنواعها، لذلك رفضوا دعوات التقييم و الدراسات النقدية، الأمر الذي جعل الحزب الواحد ” البعث العراقي” ينقسم إلي عدة أحزاب، و تظل الانقسامات مستمرة. فالناقد للتجربة لن يظل داخل المؤسسة الحزبية، و لا يستطيع أن يتعايش في الجو المشحون بحالة من العداء، بسبب ثقافة غير متصالحة مع حرية الرأي و الممارسة الديمقراطية، رغم إن النخب عندها استعداد أن تتعايش مع المتناقضات، أن ترفع شعارات ديمقراطية في مكان و تحجبها و تعاديها في مكان أخر، هي تمجد الديكتاتورية ممثلة في زعيم و تجربته حكمه، في منطقة غير المتواجدة فيها القيادة، و في ذات الوقت ترفع شعارات ديمقراطية في مكان أخر، هذه التناقضات في المواقف و الشعارات، كان سببا أساسيا في انغلاق الحزب، و عدم تطوره من الناحيتين الفكرية و التنظيمية، الأمر الذي أدي لهذه الانقسامات، فالبعث قد ثبت في ثقافته، إن الانقسامات شيء ضروري لتطور الحزب، لذلك جعل هناك دورية ” تسمي نضال البعث تحكي تجربة تجارب البعث في الانقسامات، فالذي يقرأ هذه السلسلة يعرف إن هذا الطريق لابد أن يكون سالكه يوما، باعتباره طريق كل الذين ينقدون الديكتاتورية و ممارساتها في الحكم أو في الحزب، فأي بعثي هو مشروع انقسام يوما، خاصة أولئك الذين يشتغلون بالفكر، أما الذين يعطلون عقولهم سيظلون وراء لافتات القيادات تتغير بتغير القيادات، و لكن تظل وقفتهم واحدة.
و في الجانب الماركسي، ظلت العقلية الآرثوذكسية الماركسية، التي لم تجد في تجربة الماركسية في الحكم ما تستند إليه غير التجربة الاستالينية، هؤلاء بحكم عدائهم للديمقراطية داخل المؤسسة الحزبية، كما كان عداء استالين للديمقراطية، و ممارسته في اغتيال خصومه السياسيين، أيضا مارست الاستالينيون السودانيون في الحزب الشيوعي السوداني، ضد الذين يخالفونهم الرأي في الحزب، عملية الاغتيال دون شفاعة، و لكن بصورة أخرى تتناسب مع ثقافة البلد و تكون مقبولة، فمارسوا الاغتيال المعنوي ” morale assassination” بكل صوره في عدد من الذين اختلفوا مع القيادة، و بعد انهيار الاتحاد السوفيتي فتحوا باب الحوار حول النظرية و اسم الحزب، و أصدروا مجلة ” قضايا سودانية” خارج البلاد للمشاركة في الحوار، و جاء ذلك بضغط من التيارات الإصلاحية، و لكن كانوا يحنون رأسهم للعاصفة، لأن القيادة التاريخية لا تملك الرغبة في عملية التغيير، لأنها كانت مقتنعة إن أية تغيير يحدث، سوف تكون هي أول ضحاياه، لذلك مارست كل عمليات التسويف، و المراوغة حتى لا تتم عملية الإصلاح الفكري و التنظيمي، و تتوسع دائرة الحرية في الحزب، هذا السلوك غير الديمقراطي أخرج الحزب الشيوعي من الأحداث فبعد ما كان يصنع الأحداث و يقدم المبادرات تلو المبادرات في الساحة السياسية، أصبح غير قادر علي مجارات الأحداث في الساحة و مشغول بصراعاته الداخلية، هذه القيادات الاستالينية أيضا لها أتباع من الذين لا عطلت عقولهم و دائما يفضلوا أن يكونوا خلف الصفوف الأمامية، و يحاولون أن يتواروا من شعاع النور بأصابعهم، و هؤلاء هم الذين ظلوا يدعمون تيار المحافظون .
فأحزاب البعث علي كثرتها، فهي أحزاب خارج دائرة الفعل، ألبعض تخندق وراء شعارات تاريخية، ليس لها أثر في الواقع، و لا يلتفت إليها أحد خاصة الأجيال الجديدة، و البعض الأخر دخل تحالفات لعل تغنيها من المطالبة بالفعل الثوري، و فضل أن تتوارى خلف شعارات تحالفية، و البعض الثالث بدأ يدخل دائرة الوعي الجديد، و يقف علي أول عتبات الديمقراطية، أما القوميون الآخرون خفض صوتهم مع حالة الانكسارات التي يمر بها الفكر القومي، و الحزب الشيوعي ظل مشغولا بصراعات الداخلية، و الأفضل للتيارات التي تنادي بالإصلاح داخل هذه الأحزاب، أن تتجه وجهة أخرى سوف تجد فيها استجابة كبيرة من قبل مجموعات من المثقفين يقفون علي الرصيف، باعتبار إن ما يجري في هذه الأحزاب لا يساعدهم علي الانخراط فيها، و إن تطرح تيارات الإصلاح شعار “وحدة اليسار السوداني” و تفتح باب الحوار الفكري في كيفية الاستفادة من تجربة اليسار السوداني الذي دخل حالة ” الموت السريري” خاصة إن البلاد تحتاج لمثل هذا التيار اليساري المفتوح علي الفكر العالمي، بعيدا عن سيطرة الأيديولوجية، التي ما استطاعت أن تشيد صرحا ثقافيا رغم تجربتها الطويلة، و كانت خصما للعمل الإيجاب لدخول تيارات جديدة داخل هذه المؤسسات.
إن وحدة اليسار السوداني ممثلة في التيارات القديمة، ماركسيين و قوميون علي نظرة جديدة تكون قاعدتها الأولي الاعتراف بأن النظام الديمقراطي هو أفضل النظم السياسي في العالم، و علي أرضية الديمقراطية يمكن أن يتم الحوار الفكري، خاصة أن الساحة السياسية السودانية تحتاج لمثله هذه الخطوة، و القضية ليست مرتبطة بالإرث السياسي التاريخي، و الذي علت قمته تجارب من الفشل و الانقسامات، فالحوار الفكري مطلوب في هذه الفترة التي تشهد حالة من الجمود الفكري علي كل المستويات يسارا و يمينا، فغياب الفكر في الساحة السودانية يساعد علي الخروج و الأزمة السياسية، و يجذب عقليات جديدة للساحة السياسية. فهي فكرة تحتاج لمزيد من الحوار بين المثقفين السودانيين أصحاب العقول المفتوحة، و لكل تيارات الفكر. نسأل الله حسن البصيرة.

زين العابدين صالح عبد الرحمن
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. لا جديد ….
    تكرار بليد
    من سقوط الإتحاد السوفييتي إلى الأستالينية المزعومة في الحزب الشيوعي السوداني، إلى جماهير المثقين ( ومنهم كاتب المقال النحرير )الواقفين في الرصيف لا حول لهم ولا قوة ينتظرون من يأخذ بيدهم لينطمهم ويقودهم إلى تأسيس الحزب البديل المتوهم ( في زول ماسكم من كرعينكم ).
    الأزمة بالضبط في تحليلات بعض ( المثقفين ) المكرورة والنحيب المستمر، بدلاً من اتخاذ خطوة عملية بتأسيس بديلهم المزعوم والتضحية بالغالي والنفيس من أجله، هنا من داخل الوطن، على أرض المعركة، حتى يصبح قوة اجتماعية كبرى، وبعد ذلك فليمدوا لنا ألسنتهم، غير ذلك، لن نشتري بضاعتهم البائرة هذه بفلس.
    بعدين هو السودان كله في طريقه للإنهيار التام، شنو البخلي الحزب الشيوعي في كامل لياقته البدنية، أعضاء الحزب الشيوعي ديل جايين من المريخ ؟، الإجابة طبعاً لا، إن الشيوعيين يتأثرون بما يحدث للوطن، وهنا يظهر الفرق بين منهج التحليل المادي الديالكتيكي وبين منهج كاتب المقال الميكانيكي الذي يتصور أنه لو لم يبقى في السودان حجر على حجر، سيظل الحزب الشيوعي قوياً كأنه جوهرة معلقة في السماء لا تتأثر بشيء.
    أما السؤال الكبير الذي لن يستطيع الكاتب وغيره ممن يوجهون مثل هذه الانتقادات المكررة إلى الحزب الشيوعي، فهو لماذا لم ينجح كل من خرج من الحزب الشيوعي منذ تأسسيسه، تحت نفس الدعاوى وغيرها في تحويلها إلى حزب حقيقي يتجاوز به الشيوعي.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..