فيلم ‘بجنون’: الأشياء حين تأتي متأخرة!

رفقي عساف

كثيرة جداً هي الأفلام التي تناولت الحب، ولكن قليلة جداً هي الأفلام التي تناولت الحب الذي يجري في الواقع.
لطالما كانت الأفلام الرومانسية متطرفة، أحياناً في كونها مثالية وحالمة، وأحياناً أخرى في كونها مغرقة في تناول الكذب، كأنما ينتقم صانعوها من أحد ما، ولكن ‘دريك دوريموس’ في فيلمه ‘بجنون’، الحائز على عدة جوائز، من بينها الجائزة الكبرى لمهرجان سندانس 2011، يقدم الحب الحقيقي، بدون رتوش، وبدون مساحيق تجميل، الحب الذي يعرفه كل من جربه حقاً، بخساراته، ولحظاته الأثيرة، حب الألفية الثالثة، بكل ما فيه من تناقضات.

الفيلم يحكي قصة ‘آنا’، الطالبة الإنجليزية التي تدرس في الولايات المتحدة، لتتعرف هناك على زميلها الأمريكي، جيكوب، ويقعان في الحب، قصة بسيطة ومباشرة وتقليدية للغاية، تسافر ‘آنا’ بعد تخرجها على وعد العودة، ولكن تعقيدات التأشيرات تمنعها، لمخالفتها تأشيرتها السابقة بالبقاء عدة أشهر إضافية، فتحدث المسافة، وهنا يعرض لنا دوريموس ما يحدث في أي قصة حب، ويغوص بنا في أعماق شخصيتي البطلين، ويسرب لنا بكل بساطة مشاعر سبق وعاشها كل من مر بتجربة الحب، مشاعر الشوق، واللوعة، والفراق، والرغبة في الانعتاق والبقاء في آن معاً، إلى أن يتكلل حب البطلين بالزواج من أجل الانتقال معاً إلى الولايات المتحدة، ولكن تعقيدات التأشيرات تمنع ذلك أيضاً، فكأنما يتواطأ العالم كله لتفريقهما، فيلم يحكي ببساطة أيضاً عن الأشياء حين تأتي، ولكن بعد فوات الأوان.
نموذج جيد للفيلم المستقل، صورة معبرة، وإخراج بسيط، ومعالجة جديدة لموضوع مطروق، بإحساس عالٍ، وبسيناريو مجدد رغم بساطته، كتبه المخرج نفسه بالتعاون مع بن يورك جونز، أما الصورة، بإدارة جون جاليسريان فجاءت جميلة ومعبرة، باعتماد الإضاءة الطبيعية، ولون الفيلم جاء أقرب إلى البرتقالي الفاتر، وأعطى إيحاء دائماً بالدفء المشوب بالقلق، وهو اختيار موفق للغاية.
الأداء التمثيلي لأنطون يلتشين وفيليستي جونز جاء مميزاً، بالذات من الأخيرة في دور ‘آنا’، بقية الأدوار في الفيلم جاءت على هامش القصة الأساسية، تماماً كما يأتي الآخرون الذين يمرون في حياتنا دائماً على هامش الحب الحقيقي.
المونتاج الذي تولاه ‘جوناثان ألبرتس’ لعب دوراً مهماً جداً في هذا الفيلم، ولهذا أفرد له فقرة على حدة، إذ تدور أحداث الفيلم على امتداد سنوات، وهناك قفزات زمنية عن مشاهد وأحداث يجعلك المونتاج تفهمها ضمناً، إلى أي مدى كان هذا موفقاً؟ لا أدري، ولكنه كان مجدداً جداً على مستوى المونتاج، ومحاولة فريدة وجديدة في أسلوبها برأيي.
‘بجنون’ فيلم يحكي عن الأشياء حين تأتي متأخرة، هل أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً حقاً؟ أم أن العكس هو الصحيح، ولماذا تفقد الأشياء الكثير من بهجتها حين تأتي متأخرة؟ ولماذا تأتي دوماً متأخرة؟ ألأننا نتردد في اتخاذ القرارات الصحيحة؟ أو القرارات عموماً؟ فيلم يحكي عن الحب بتجرد جديد على السينما، يرويه بدون بهرجة، وبدون رومانسية، وبدون قالب جاهز لكيف يجب أن يكون، يرويه بخياناته، وتردده، وغيابه، أكاذيبه وأشواقه، وكيف أنه يعيش، مهما ظننا بأنه يموت، وبأنه، حتى الحب، يمكن أن يموت، إن لم نعتن به جيداً.

* شاعر ومخرج أردني/فلسطيني

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..