ثقافة وفنون

رحيل إسماعيل

منذ أيام قليلة، رحل فجأة وبلا أي مقدمات، إسماعيل فهد إسماعيل، رائد الرواية الحديثة في الكويت، وأحد رواد الرواية الخليجية بلا شك، بعد عطاء كبير امتد منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، وحتى رحيله، حيث كان يقدم دائما جديدا يستحق الاحتفاء، وأظنه من القلائل الذين تفرغوا للكتابة كليا في الوطن العربي، على الرغم من عطائها القليل، مؤكدا شغفا بتلك الكتابة، وربما كانوا يحملون أملا ما في أن تصبح هذه الحرفة التي تأخذ من العمر الكثير ولا تعطي سوى القليل، حرفة سخية ذات يوم.

وبذلك يمكن اعتبار الراحل، من كتاب الزمن الجميل، إن صح التعبير، أي من الكتاب الذين ظهروا في زمن غير زمن الجوائز، حيث أصبحت المشاريع الكتابية، سباقات ضارية للحصول على الجوائز، ولا شيء آخر. كتاب يغلقون على أنفسهم في الغرف، ليخترعوا إبداعا أو غير إبداع، والعين على جائزة. آخرون يحترقون بنار اللاموهبة، والعين أيضا على جائزة. وآلاف المسودات والمخطوطات والأعمال المنشورة سنويا، تتزاحم أمام أبواب الجوائز.

حقيقة عرفت إسماعيل منذ زمن طويل، ربما كان نهاية التسعينيات من القرن الماضي، أو بداية الألفية الجديدة، لا أذكر جيدا، كنت ما أزال في دوامة البدايات، حين استضافه نادي الجسرة الاجتماعي في قطر، أحد الأندية الرائدة في الثقافة واحتضان الأنشطة الثقافية، أيام نشاطه المكثف في تلك الفترة، الذي خف كثيرا بعد ذلك، لكنه ما يزال مستمرا بشكل أو بآخر.

تمت استضافة إسماعيل ليتحدث عن تجربته في الكتابة الروائية والنقد، وذهبنا لحضور تلك الأمسية التي كانت مميزة بالفعل، تحدث فيها الرائد الكويتي عن تجربته كاملة، في رصد قضايا مجتمعه الكويتي والخليجي، وكيف يرتبط ذلك بالقضايا العربية الملحة وغير الملحة، مثل التجارب السياسية الفاشلة، والتجارب الاقتصادية التي لم تؤد لتنمية في كثير من بلادنا.

أيضا تحدث بكل نزاهة عن تجارب عربية أخرى في الكتابة، ومجّدها كثيرا، مثل تجربة نجيب محفوظ، ويحيى حقي، وتجربة زميلته ليلى العثمان في الكويت، وأذكر أنه تحدث كثيرا عن رواية «باب الشمس» للكاتب اللبناني إلياس خوري، واعتبرها من التجارب العربية الساحرة، وقال كما أذكر: إنها رواية يجب أن يقرأها الجميع.

لم أكن قد قرأت «باب الشمس» آنذاك، وأظنها كانت جديدة في تلك الأيام، وكان من نتيجة رأي إسماعيل، أنني بحثت عنها بعد ذلك في زيارة لي لبيروت، وقرأتها بمتعة، وكانت مشروعا طموحا من إلياس خوري لكتابة شمس قد تشرق ذات يوم في سماء الكتابة العربية، نعم هي رواية مهمة حصل بها إلياس على طريق معبدة ليقرأه الآخر البعيد، الآخر القابع في لغات أخرى.

تعرفت إلى إسماعيل إذن في تلك الأمسية، ولم يكن تعرف الكبير إلى صغير يحبو في سكة الكتابة، وكنت كذلك، ببضع روايات صغيرة مشحونة بالشعر، ولكن تعرف الإنسان إلى إنسان آخـــــر، حتــــى لو كان بلا عطاء، أعطاني عنوانه، وطلب مني أن أراسله، وأرسل له إنتاجي ليكتب عنه، وكان يكتب في إحدى الصحف مقالا ثابتا كما أخبرني. لكني لم أرسل شيئا، ولتمضي السنوات، ويصبح لقائي بإسماعيل متكررا، وتصبح المودة رفيقة لكل لقاء.

الذي يعمل بالثقافة، سواء كان كاتبا أو شاعرا أو ناقدا، وأتيح له أن يزور الكويت لممارسة أي نشاط، في معرض للكتاب أو مهرجان ثقافي آخر، لا بد يحس برغبة كبيرة في لقاء رموز الثقافة هناك ومنهم، إسماعيل فهد إسماعيل، وليلى العثمان، اثنان من عظماء الكتابة سيخيل إليك بأنك لن تعثر عليهما أبدا. ما يحدث أنك ستعثر على ليلى العثمان داخل نشاطك، وربما تقدمك لجمهور بلادها بكل تواضع، وتمدحك بكثير من المعاني الطيبة وتمدح كتابتك، ولن تضطر للبحث عن إسماعيل لأنك ستنظر أمامك، وتجده جالسا في المقاعد الأمامية، يستمع إليك باهتمام كبير، وينتظر حتى نهاية محاضرتك ليصافحك بود كبير.

هذا هو المعنى الإنساني الذي يملكه بعض الكبار في عالم الثقافة، ويفتقده كثيرون، أن لا تكون داخل برج عاجي، على الرغم من أنك تستحق أبراجا من العاج، أن لا تكون في عزلة عن الشوارع الشعبية، والمقاهي الشعبية، وأقوال الناس وانطباعاتهم، وهناك من يعتزل كل هذا، ويأتي ليكتب رواية عن أولئك الذين لم يصغ إليهم يوما. وقد زرت الكويت مرارا للمشاركة في فعاليات شتى، وفي كل مرة كان اللقاء بإسماعيل يتجدد، حيث تكونت ذكريات، يمكن استعادتها.
لقد حمل إسماعيل هذه المعاني الطيبة طوال حياته، وكان كما أعرف مرجعا للكتابة، لا يغلق باب نصحه في وجه من أراد النصح، وبالتالي كان وقته كله للكتابة، كاتبا، وناقدا، وناصحا لرفاق الدرب الجدد.

آخر مرة شاهدت إسماعيل، منذ عامين، حين كانت روايته «السبيليات»، في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية، هي رواية استعادة لقريته الأولى بالقرب من البصرة، استعادة تمت بسخاء، وعبر نشيد أم جاسم، كتب إسماعيل نصا مبدعا.

جلسنا في صالة الفندق، وتحدثنا وقلت له، إن جائزة البوكر كان يمكن أن تزين تاريخها به، لكن دائما الجوائز لها أسرارها الخاصة، وما دام النص وصل للقائمة القصيرة، فهو قد حصل على جائزة. لم يكن مكترثا بموضوع الجائزة كثيرا، كان سعيدا بنصه، وهذا ما يجب أن يحدث.

لا مانع أن تتقدم بنصك لإحدى الجوائز، ولكن لا تهتم إن فاز أو لم يفز.
مؤكد ستبدو الرحلة إلى الكويت للمشاركة في أي نشاط، ناقصة كثيرا، سنذهب ونتحدث، لكن لن يكن الرائد بقبعته المميزة، ونظراته الثابتة، واهتمامه الكبير، جالسا في المقدمة، ليشجع، ويحفز على متابعة العطاء. إنها خسارتنا كلنا، وفي موت أي مبدع خسارة، حتى لو كانت تجربته بسيطة وغير ممتدة، فكيف إن كانت تجربة ظليلة مثل تجربة إسماعيل فهد؟

 

القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..