الاسلاميون…إنثلام الحُجة وإعوجاج المنطق!ا

مقال الاحد

الاسلاميون…إنثلام الحُجة وإعوجاج المنطق!. (*)

صديق عبد الهادي
[email protected]

إن الذي جرى ويجري تطبيقه في السودان الآن هو النسخة الاصلية من برنامج الحركة الاسلامية السودانية، والذي جهدت، في سعيٍ لا يكل، لاجل عتقه وإطلاقه من محابسه النظرية إلى واقع الحياة العملية سنينا عددا. وقامت في سبيل فرضه باعمالٍ لا يمكن استرخاصها من قِبَلَ أيٍ، باي حال من الاحوال، لا بدعاوى الاختلاف ولا بنكاية “التبخيس” الذميمة التي ارست تقاليدها الحركة الاسلامية نفسها تجاه الآخرين. وهذا امرٌ في غاية الاهمية إن رمنا الموضوعية.
والآن أزفَّ الوقت لحصاد الثمار المُرة لذلك البرنامج، بل وبالفعل اصبح الوطن بكامله يعيش نتائجه الكارثية، دونما إستثناءٍ لاي وجه من وجوه الحياة، الاقتصادية منها والاجتماعية والسياسية.
ولكن ما هو موقف الحركة الاسلامية السودانية، الآن، من حصاد غرسها؟.
يحاول الاسلاميون التملص من مسئوليتهم والنأي بانفسهم ما وجدوا لذلك سبيلا، بل واحياناً يتوسلون صيغاً مختلفات، يقومون بتسويقها متوهمون قبول الناس لها، بعد تمريرها وسط مواكب من الضجيج والاعلام ومظاهر “الحِرص الوطني” المفتعل. ومن بين “امهات” الكوارث التي تمخض عنها برنامج الحركة الاسلامية كارثة تقسيم الوطن. إنها الكارثة التي ستظلّ تنيخ وبكل ثقلها على اعتاق الحركة الاسلامية. إنهم وفي محاولة فكاكهم منها لا يكتفي الاسلاميون بالقول والإدعاء بانهم كانوا الاكثر جدية، وإنما لا يتورعون عن القول بانهم كانوا “الاكثر شجاعةً” في القيام بما نادت به، ومنذ تاريخٍ طويل، القوى السياسية السودانية الاخرى، أي العمل على إنجاز تقرير المصير والذي ترتب على إثره تقسيم الوطن وتفتيته. هكذا تقوم حجة الاسلاميين، وعلى هذا الشكل المضلِّل تنتصب.
ولكن هنا، لابد من تقويم المنطق وتسليس إنسيابه. إن مبدأ “تقرير المصير”، والكل يعلم، هو مبدأ ديمقراطي صميم لا خلاف عليه، وقد نصت عليه ايضاًً اتفاقية السلام ، ولكنه مبدأٌ تنطوي ممارسته على الإفضاء إلى احدى نتيجتين، إما الوحدة أو الانفصال. إذاً فالسؤال في أصله لا يتعلق بالمبدأ نفسه، بقدر ما إنه يتعلق بالنتيجة التي انتهى إليها، وبكيفية حدوثها. وفي هذا المقام ينبرى السؤال الذي يتحاشاه الاسلاميون ويمقتون مواجهته، وهو، لتحقيق أيٍ من النتيجتين كانت تعمل او بالفعل عملت الحركة الاسلامية؟، ومن ثمَّ أيٍ من النتيجتين كان يعتبر تحقيقها ضرورةً لتأمين وتأكيد تطبيق برنامج الحركة الاسلامية؟!.
إنه، وفي الوقت الذي كان يعمل فيه اهل السودان ومنذ وقتٍ طويل، وليس فقط القوى السياسة الاخرى، لان يفضي تقرير المصير إلى وحدة طوعية، كانت الحركة الاسلامية تعمل، وراس رمحها المؤتمر الوطني، على ان يكون تقسيم البلاد هو نهاية مطاف تقرير المصير، لان تلك النتيجة، اي تقسيم البلاد، يرتبط بها ارتباطاً عضوياً ضمان نجاح برنامج الحركة الاسلامية والوصول به إلى نهاياته لأجل تكريس السلطة والهيمنة، وقد حدث، بالرغم من فشلهم في التمكن من التحضير والترتيب وفق ما يشتهون، إذ ان التخبط ما زال يمسك بتلابيبهم منذ ان آن اوان الإنفصال، والذي كان بحجم النازلة.
والآن، يحاول الاسلاميون ان يلوذوا بالهروب، مما فعلوا بالوطن، تحت غطاءٍ مهترئٍ نسجوه من مقولتهم التي يروجون لها الآن وبإتفاقٍ مسبقٍ “مسموم” فيما بينهم، وهي، “أن الآخرين قالوا بتقرير المصير هذا من قبل”. ولكأن لسان حالهم يقول “اننا فعلنا ذلك اصالة عن نفسنا ونيابة عنهم”!!!. وفي هذا المقام كان ليغني المرء ويكفيه سؤالٌ بديهي معلوم، وهو، ومنذ متى كان الاسلاميون، وطيلة تاريخهم السياسي، يعملون أو حتي يأبهون بما كان يراه او يتواضع عليه الآخرون؟!، ولكنه قد يكون ما من ضرورة ولا من فائدة تُجنى للذهاب في وجهة ذلك السؤال. وإنما قد يكون الافيد فيما عداه، أي الذهاب في وجهة سبر غور، ومن ثمَّ تأكيد حقيقة ان كارثة تقسيم الوطن وتفتيته، وكذلك غيرها من كوارث، لم تكن منبتةً وإنما ذات صلة وشيجة بتاريخٍ طويل يخص الحركة الاسلامية وحدها، لا غيرها.
لا شك في ان يكون ما قد فعله الآخرون ليس بقليل، ولكنه لا يطول باع ذاك الذي كرَّس له الاسلاميون من الموارد ما تعدى مقدرات حركتهم فجيروا واغتصبوا له موارد بلدٍ بأكمله. إن الحُلم بإقامة إمارة عربية اسلامية خالصة هو حلم للحركة الاسلامية، قديم، بالرغم من حقيقة ان السودان بلدٌ يحظى بتنوع بائن. تنوعٌ غنيٍّ وضارب لن يلغيه ذهاب عرقٍ واحد او حتى عدة اعراق. تنوعٌ له ماعونٌ واحدٌ يسعه، واحدٌ لا سواه، اي الديمقراطية، لان التنوع والديمقراطية قيمتان صنوان، يحققان بعضهما البعض ويسيران كتفاً لكتف. بيد إن الحركة الاسلامية السودانية لا علاقة لها بايٍ من القيمتين، وما من سبب سوى ان الطبيعة النازية والعنصرية التي تتمتع بها تجافي كليهما.
إن التاريخ الطويل والسجل المعروف للحركة الاسلامية السودانية، والموسوم بسعيها الدؤوب من فتنة إلى فتنة ليؤكد حقيقة ذلك التجافي. إن الامر لا يقتصر على زرعها المبكر لبذرة العنف والفوضى في مؤسسات التعليم، التي تتنافى طبيعة رسالتها وذلك، ولا يقتصر على إزكائها لنار الشقاق بالباطل كما حدث ابان الديمقراطية الثانية، والذي تُوِجَ بطردٍ متجاوز لاعضاء منتخبين ديمقراطياً من داخل الهيئة التشريعية مما ترتب على تداعياته اللاحقة تحولٌ كامل لتاريخ السودان المعاصر ليسير في طريق الآلام والازمات إلى يومنا هذا، وإنما تُدَبِجُ ذلك السجل مواكب التأييد الكاذبة وحملات الدعم المضللة باسم القوات المسلحة خلال الديمقراطية الثالثة والتي إنتهت بقطع الطريق على السلام الحقيقي، وذلك بالخروج على الشرعية التي اسس لها واختارها الشعب. وهو الخروج الذي اكمل التحول المأساوي لتاريخنا الوطني على النحو الذي نعيشه وتسير عليه البلاد الآن.
إن السجل المبسوط اعلاه يحمل في طياته ويفصح في تجلياته، بكل فظاظتها وعنفها، عن البرنامج السياسي الذي تبنته الحركة الاسلامية كأداة للتغيير الإجتماعي في السودان، وسعت طيلة الست عقود الماضية لاجل تحقيقه. وبالفعل إنفردت له بالسلطة نيف وعشرين عاماً، مستبعدةً الآخر، بل وكل آخر مستأثرة بإدارة البلاد لوحدها لاجل ضمان نجاحه، فكان من هشيم حصاده المر ما تمخض عنه تقرير المصير الأخير. وهو مخاضٌ ما كان من الممكن توقع ان يحدث او ينتهي بغير تلك النتيجة، لأن الحركة الاسلامية وبرنامجها لم يضعا امام اهل الجنوب خياراً سوى “خيار هوبسن” سائس الخيل!!!.
فالآخرون الذين تزعم الحركة الاسلامية شراكتهم لها، إفكاً، لا علاقة لهم لا ببرنامجها ولا بتطبيقه ولا بنتائجه. فعلى الحركة الاسلامية ان تتحمل مسئوليتها بشجاعة وان تكون على إستعداد لدفع إستحقاقاتها بدل اللجوء إلى إلتواءاتها المكرورة المعهودة، التي لم تفدها بغير أن اسنمتها السلطة واورثت الوطن الخراب.
إن الكل ليعلم حقاً، أن الحركة الاسلامية السودانية ما ذهبت في زعمها ذلك إلا لوقوفها على حقيقة ان التركة قد بان ثقلها، وان محاكم التاريخ قد شرعت ابوابها، وإن لم يكن في السودان بعد، إلا ان صفير رياحها المزلزل قد أضحى مسموعاً.
__________________________________.
(*)نشر بالتزامن بين جريدتي “الأيام” و”الميدان” في 7 أغسطس 2011م.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..