إذهبوا فأنتم الطلقاء! ..

إذهبوا فأنتم الطلقاء! ..

أمين مكي مدني

بتلك العبارة الكريمة الشهيرة خاطب الرسول (ص)، عقب فتح مكة، جموع الكفار المهزومين، مقرراً مصيرهم بالعفو عنهم، ومعبِّراً عن سماحة رسالته وهو على قمة النصر والقوة، بعد أن كانوا قد قاوموا رسالته، ردحاً من الزمن، وحاربوه، وآذوه، واتهموه بكل الأباطيل والشائعات والسباب، وهو مبعوث الرسالة الإلهية لنشر دين العدل والمساواة، وتعزيز الحقوق والحريات والحكم الراشد، نصرة للمستضعفين، وحرباً على كل صور الكفر والفسق والظلم والفجور والفساد.
لكن قدر لنا، للغرابة، أن نسمع، في آخر الزمان، كلمات سيدنا المصطفى (ص) تلك تتكرر، هنا في السودان، قبيل عيد الفطر الأخير بيومين، عنواناً لقرار إطلاق سراح المعتقلين تعسفياً بواسطة سلطة القمع، ممثلة في جهاز الأمن والمخابرات الذي كان قد بطش، مؤخراً، بأعداد ضخمة من الشبان والشابات والسياسيين والناشطين والمدافعين عن حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، وذلك في أعقاب مسيرات الاحتجاج الشعبية على إجراءات الحكومة (الراشدة) برفع أسعار المحروقات ومختلف السلع، وخفض قيمة عملة البلاد الرسمية، لتصبح الحياة وكلفة المعيشة علقماً لا يطاق بالنسبة لمحدودي ومتوسطي الدخل، أو من كانوا يسمون، في الزمان الغابر، بالطبقة الوسطى!
لقد كان رد الفعل الشعبي على تلك الإجراءات طبيعياً تماماً. فكما يحدث في جميع بلدان العالم خرج المواطنون، خصوصاً الناشطون من الجنسين، شباباً وطلاباً وسياسيين، في كل أنحاء العاصمة القومية، مثلما في مدني، والأبيض، وبورتسودان، والقضارف، ونيالا، وغيرها، وتدفقوا في الشوارع والطرقات والمساجد والجامعات وأزقة الأحياء الشعبية يعبرون عن استنكارهم لتلك الإجراءات التعسفية التي فاقمت تكلفة حياتهم بمقدار أربعة أضعاف، وجعلت عيشهم ضنكاً على ضنك حتى أضحت منعدمة، بصورة نهائية، فرص حصولهم ولو على الأساسيات، كالطعام، أو الدواء، أو التعليم، أو المواصلات، أو السكن، أو الماء، أو الكهرباء. ومن طبائع الأشياء ألا يُتوقع استقبال المواطن المغلوب على أمره لكل هذا المعاناة بالتهليل والتكبير السياسيين، أو بأهازيج الفرح والزغاريد، أو بالإطناب في الأناشيد السخيفة ومدح “إنجازات الدولة” مما لا تمل أجهزة الإعلام عن الثرثرة به بصورة تثير الإحباط، وتستمطر اللعنات على كل من كان السبب في إذلال المواطن، وتمريغ كبريائه في الرغام.
بعض من لحقتهم تلك اللعنات، كبار وصغاراً، لم يكفوا عن التصريحات المنافقة بأنهم ليسوا ضد حق المواطنين في التظاهر والتعبير، كونه “حقاً دستورياً”، على حد إقرارهم، لكنهم، فقط، ضد ممارسة العنف، والتخريب، وتدمير الممتلكات العامة والخاصة! هكذا قالوا، مدركين، أو ربما غير مدركين، حيث المصيبة أعظم، أن “قوانينهم” نفسها تحظر التظاهرات والمسيرات، وأن لقاء خمسة أشخاص فأكثر قد يعتبر تجمهراً غير مشروع يبيح للشرطة، أو فى الحقيقة لجهاز الأمن، من خلال رجاله، أو “رباطيته”، أو “شبيحته” على الطريقة السورية، أن يفرقوا تلك التجمعات بكل أدوات القوة الباطشة، ابتداءً من الهراوات والعصي الخشبية، ومروراً بالغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطى الذى دخل المساجد لأول مرة، وانتهاءً حتى بالذخيرة الحية كما حدث في نيالا مثلاً.
لقد أشبعت أجهزة القمع الشابات والشبان ضرباً موجعاً مشوباً بالتشفي والإرهاب لفض تلك التجمعات السلمية “المشروعة دستورياً” باعتراف مسؤولي الحكومة أنفسهم! وعلى ذكر الضحايا سجلت الأرقام في تلك الأيام أكبر عدد من الفتيات اللاتي تم اعتقالهن وحبسهن في أماكن غير معلومة خارج السجون ومباني الأمن العادية، وهو أمر غير مسبوق حتى في أكثر لحظات تاريخنا السياسي جوراً وعسفاً وظلماً!
روَّع المواطنين أيضاً اعتقال آلاف الشبان صغار السن وإيداعهم أماكن احتجاز سرية، ربما حنيناً إلى بيوت الأشباح في بدايات عصر الإنقاذ، ليوسعوهم ضرباً وتعذيباً وإذلالاً وحرماناً من الاتصال بذويهم أو معارفهم، وتهديدهم حتى بالاغتصاب! فكانت أماكن الاحتجاز السرية تلك اكثر ما أقلق أهل وذوى الشبان والشابات صغار السن حول مصائر وسلامة وشرف بناتهم وأبنائهم المجهول!
أما السياسيون والمهنيون الذين اقتيدوا إلى جهاز الأمن السياسي المعرف بـ “موقف شندى”، والذى شيدت بجانبه مبان ضخمة تسمى “اللكونده”، فقد قيدت أيديهم، وعصبت أعينهم، وأودعوا الزنازين الانفرادية “الجديدة” محكمة الإغلاق، عديمة المنافذ، اللهم إلا من فتحات أسفل أبوابها الفولاذية لا يزيد ارتفاعها عن قدم واحد تتخلله قطع من الحديد الصلب، تدخل من خلالها أطباق القرع أو البامية سيئة الطبخ، مع حبات أرز يصعب التقاطها وسط النمل والذباب والحشرات، كما أن بعض تلك الغرف مزودة بأجهزة تكييف ثلجية التبريد مع الحرمان من الأغطية، مما يجمد الأجساد، ويجعل النوم مستحيلاً، بالإضافة إلى ما يسلط على هذه الزنازين الضيقة من لمبات كهربائية شديدة الضوء تعشي الأبصار، وتجبر المعتقلين على إغلاق عيونهم معظم الوقت!
هكذا، وبهذا الأسلوب النازي، تمر الأيام والأسابيع دون تحر أو تحقيق أو توجيه تهمة أو مواجهة أي قاضى أو وكيل نيابة، حتى ولو من إياهم!
بعض المعتقلين قيدت أيديهم، وعصبت أعينهم، ونقلوا إلى سجن دبك الشهير بسمعته السيئة، والذي عرفه السياسيون تاريخياً كمنفى بؤس وشقاء. البعض الآخر وضعوا، مكبلي الأيدى ومعصوبي الأعين أيضاً، فى سيارة رباعية الدفع، دون أن يخطروا إلى أين هم مساقون، ورحلوا بهذه الحالة، لمدة تفوق العشر ساعات، إلى سجن بورتسودان الشهير بجوه الساخن الرطب في مثل ذلك الصيف، وأيضاً دونما تحر أو تحقيق من مختصي إنفاذ القانون.
ومعلوم أن كل تلك الإجراءات تنطوي على مخالفة صريحة للدين، والقانون، والدستور، والشرعة الدولية لحقوق الإنسان. ويا لضيعة الضحايا، وضيعة الفقـــرة (3) من المادة (27) من الدستور الانتقالي لسنة 2005م، والتي تنص على أن ضمانات حقوق الإنسان المكفولة بالمواثيق الدولية المصادق عليها من جانب السودان تعتبر جزءاً من هذا الدستور الانتقالي.
إن تفريق المواكب والمسيرات في حد ذاته مخالف للدستور وللقانون لمخالفته لحق التجمع وحق التعبير. كما وأن المعاملة القاسية واللاإنسانية، والحبس الانفرادي، والتكبيل بالأصفاد، وعصب العيون، والضرب، والإساءة، والإذلال، والتهديد بالاغتصاب، أو بغيره من الأذى، جميعها من صنوف التعذيب المحرم ديناً وقانوناً. كذلك فإن الاحتجاز التعسفي دون تحقيق أو تهمة أو محاكمة يعتبر من الممارسات التي تنتهك أبسط قواعد العدالة الإلهية والإنسانية.
ولعل من المدهش، بعد كل هذا، أن يصرح مسؤول رفيع في جهاز الأمن والمخابرات بأن المعتقلين قد تم إطلاق سراحهم، بناء على توجيهات رئيس الجمهورية، رغم أن لدى سلطات الأمن، حسب المسؤول المذكور، بينات ودلائل تؤيد تورط هؤلاء المعتقلين في ارتكاب مخالفات جسيمة للقانون! أي أن السلطة قررت إطلاق سراحهم تكرماً منها ورحمة ومنّة بمناسبة حلول عيد الفطر المبارك، وذلك لإسعاد أسرهم وذويهم، دون أن تجرى معهم أي تحريات أو تحقيقات، سواء من الشرطة أو النيابة أوالقضاء، حتى يعرفوا هم، ويعرف أهلهم، ويعرف المواطن العادي أي ذنب جناه هؤلاء كي يتعرضوا لتلك المعاملة! وليت الأمر اقتصر على ذلك، لكنه تعداه إلى حد أن بلغت الجرأة بأحد المسؤولين لأن يصرح قائلاً لبعض المعتقلين عند إطلاق سراحهم: “إذهبوا فأنتم الطلقاء”، مساوياً بينهم وبين الكفار الذين ناصبوا رسول الله (ص) العداء وحاربوه وقاتلوه حتى فتح مكة، بل والأدهى أن ذلك المسئول ساوى نفسه ونظامه بالرسول ذاته (ص)! فأية مقارنة، وأية عدالة، وأى حكم قانون، وأية سنه إسلامية هذي؟!
شئ حسن أنْ سحب السودان ترشيحه لعضوية مجلس حقوق الإنسان في دورة انعقاده خلال الأيام القادمة، وإلا لكانت الفضيحة بجلاجل! إن الظلم والطغيان دوماً إلى زوال وإن طال الليل .. وقد طال! ولأن الأيام دول يداولها الخالق بين الناس، فحتماً سيحين عما قريب وقت يصير فيه المعتقل طليقاً أو حاكماً، والسجان الباطش اليوم معتقلاً غداً، وإن يكن المأمول، برغم تسببه في شحن النفوس بالإحن، أن يعامل، حينها، كمجرد مشتبه به، يجري حسابه وعقابه باحترام تام لكرامة الإنسان، على قاعدة “سيادة حكم القانون”.

سبتمبر 2012م

سودانايل

تعليق واحد

  1. مقالك رصين وممتاز ايها القانوني الفذ واننا نطالب كل الذين ظلمو واعتقلوا ان يكونوا كيان يحتويهم وينظموا الصفوف لكي تستمر الثورة في كل مكان في الوطن وان تنطلق بصورة راتبة ويومية صباح مساء من الساحات ومن الميادين ومن داخل الاحياء والقري والفرقان والازقة خصوصا وان الشباب الذي اعتقل اخير قد اكتسب تحمل ومنعة علي سجونهم وحراساتهم

  2. أحسنت أيها الإنسان المثقف النبيل ضمير أمته دكتور أمين مكي مدني ؛ مقالاتك دائماً ما تأتي كنبراس منير لجميع الأجيال ، ونأمل في المزيد منها، مع عدم الإنقطاع الطويل في ضوء التطورات الدراماتكية المتسارعة التي تشهدها الساحة السودانية. ورجاءٌ خاص بأن تزيل المقالات القادمة بعنوان بريدك الإلكتروني للتواصل الشخصي البيني.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..