مقالات سياسية

الحاضنة السياسية .. مصطلح مبتدع وفخ ملغوم

د. لؤي عبدالنور

ربما تكون (الحاضنة السياسية) من أكثر المصطلحات تداولًا في الساحة السياسية السودانية خلال العامين الماضيين بعد توقيع الوثيقة الدستورية .. وتحديدًا في الأسبوعين الماضيين عقب الأحداث المتتالية التي بدأت بالمحاولة الانقلابية الفاشلة المزعومة ومرورًا بالتراشق بين المكونين المدني والعسكري للحكومة الانتقالية وانتهاء باجتماع بعض المكونات المعارضة أو المشاركة في الحكومة من الحركات المسلحة وفلول النظام السابق لتكوين ما أطلقوا عليه (الحاضنة السياسية الجديدة) ..

ولكن هل هذا مصطلح معروف في علم السياسة؟ وهل له معنى متفق عليه .. أم أنه بدعة سودانية بحتة؟ ومن الذي أطلق هذا المصطلح أساسًا؟ .
لو أجريت قليلًا من البحث عن هذا المصطلح لعانيت الأمرين في أن تجد له مصادر غير سودانية .. ولكن قبل ذكر أمثلة لها ينبغي تعريف المصطلح أولًا.. أو ما يعرف في اللغة الانجليزية باسم term وهو عبارة عن اتفاق لغوي بين مجموعة من المختصين بعلم معين لوصف شيء ما .. ليصبح مألوفًا بين مجموعة من الأشخاص في مجال ما ..

أو كما عرفه (فيلبر) بأنه الرمز اللغوي لمفهوم واحد .. فهل هذا المصطلح كذلك؟ .

ولنأخذ مصطلح (الحاضنة السياسية) من المنظور اللفظي .. فهو كلمتان : الحاضنة والتي بحسب معجم المعاني تعني الأم أو التي تقوم مقامها في تربية الولد .. كما أن الدجاجة الحاضنة تعني التي ترقد على البيض لكي يفقس .. كما أن حاضنة المشروعات كمصطلح جديد تعني شركة أو مؤسّسة تستهدف احتضان المشروعات والشركات الجديدة ومساعدتها على النهوض ومزاولة أنشطتها. (والسياسية) هي ما ينسب إلى السياسة .. وسياسة البلاد هي تولي أمورها وتسيير أعمالها الداخلية والخارجية وتدبير شؤونها ..

أما من ناحية المعنى فالحاضنة تتطلب وجود المحضون .. فماذا يعني مصطلح الحاضنة السياسية في السودان؟ وماذا تحتضن؟ .
لو خرجنا خارج الإطار السوداني سنجد أن هذا المصطلح يكاد ينعدم من القاموس السياسي العربي .. أو استخدم أو يستخدم في أطر ضيقة تختلف كليًا عن المعنى المراد من استخدامه في السياسة السودانية ..

في لبنان مثلًا المصطلح الأقرب هو البيئة الحاضنة لحزب الله .. باعتبار أنه لا يشارك في الحكم بصورة مباشرة باسمه .. لكن مكوناته الاجتماعية والعسكرية والسياسية مجتمعة يطلق عليها مصطلح (البيئة الحاضنة) ..

وفي فلسطين يستخدم مصطلح الحاضنة السياسية لتبني الأحزاب والحركات السياسية للثورة الشعبية (ثورة الحجارة) .. كما يستخدم المصطلح أيضًا لتوصيف الواجهة السياسية لعصابات التهريب في تونس .. وفي كل الأمثلة فإن الحاضنة تتطلب وجود محضون يحتاج إلى غطاء سياسي ..

فما هو هذا المحضون في الحالة السودانية؟ هل هو المجلس العسكري الانتقالي ؟ وحتى لا يغضب أعضاؤه .. نقول هل هو المكون العسكري للحكومة الانتقالية ؟ من المعلوم للجميع (اصطلاحًا) بأن الحاضنة السياسية في السودان هي قوى الحرية والتغيير (قحت) .. فما هو المحضون ؟ إذا كان هو الحكومة الانتقالية فالمصطلح لا معنى له .. لأن الحكم والسياسة لا ينفصلان .. والحكومات المدنية في ديمقراطيات الغرب ليس لها حواضن سياسية لأنها حكومات أحزاب سياسية بالأساس .. بل يكاد هذا المصطلح يغيب عنها تمامًا .. فما يحتاج إلى حاضنة (سياسية) هو ليس سياسيًا بالضرورة .. وهو القوات النظامية (من جيش ودعم سريع وغيرها) .. فهل المكون العسكري هو من أطلق المصطلح وابتلعته النخب السياسية ببساطة وصارت تروج له؟
ومن يقول بأنها حاضنة سياسية للثورة فربما كان محقًا في ذلك قبل توقيع الوثيقة الدستورية .. أما الآن وبعدها بسنوات فالثورة لا تحتاج إلى حاضنة قابلة للتغيير .. كما أن المصطلح نادرًا ما يستخدم في هذا السياق .. بل يستخدم عندما يتعلق الامر بالحكومة وليس الثورة ! .

هل الحاضنة السياسية جلباب يرتديه المجلس العسكري ليمنحه الشرعية ويواري سوءاته .. ومتى ما اتسخ ينزعه ويرتدي غيره كما حاول ويحاول أن يفعل بابتداع (حاضنة سياسية جديدة) ؟ .. وهل مثلها مثل المحلل الذي يتزوج من المطلقة ثلاث لتعود إلى زوجها ويذهب هو إلى حال سبيله؟ .

هل آن الأوان أن تتخلى (قحت) وكل قوى الثورة حتى من غير المشاركة في الحكم عن لعب دور الحاضنة (فقط) .. لتكون هي الدجاجة والبيض معًا .. وتترك الجيش ليعود إلى ثكناته مدافعًا عن حدود الوطن؟ .

وليتذكر الجيش أنه إذا كان يحتاج إلى (حاضنة سياسية) فهذا وحده كفيل بتذكيره بأن السياسة ليست مكانه .. بل إن المدن نفسها ليست مكانه .. فمكانه الحدود فقط ..

من العبقري الذي أطلق مصطلح (الحاضنة السياسية) في السودان؟ .
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..