مقالات متنوعة

متى يتعلم (الكيزان) من شعب السودان؟

متى يتعلم (الكيزان) من شعب السودان ؟

إليك هذه الواقعة : قبل سنة تقريباً خرجت الصباح لشراء أغراض البيت أنا وإبنتي الصغيرة (هدية) وبعد الإنتهاء ذهبنا لشراء (الخبز) من المخبز القريب من بيتي في حي الشاطئ بمدينة أم درمان بينما أنا أدفع في الحساب نبهتني إبنتي وقالت لي: يا بابا إنت عارف الكيس الموجود علي الباب ده شنو؟ … قلت لها :أبداً ماعندي فكرة ؟ قالت لي: هذا الكيس فيه (خبز) بشتروه الناس للمساكين وفعلاً انتبهت وجدت فوق الكيس مباشرة ورقة مكتوب عليها (إشتري لنفسك ولغيرك) فقالت لي: أنا بشتري بعشرين جنيه وسألت الشخص الموجود علي الكاونتر وقال لي :إذا إشتريت بنضع الكمية في هذا الكيس وسيأتي من هو محتاج بياخد الذي يحتاجه وأعجبت بالفكرة ودفعت إبنتي المبلغ وذهبنا وإبتعدنا من المكان ثم خطر لي أن أرى ما سوف يفعله عامل المخبز والمحتاجين أيضا هل فعلا سيقوم عامل المخبز بوضع (الخبز) في المكان المخصص له أم أنه سيأخد المبلغ من الناس (ويغنج) . ثم وقفت أراقب وإنتظر كيف يتعامل الناس المحتاجين مع هذه الكمية من الخبز , لقد أخد عامل الفرن كمية الخبز ووضعها في الكيس بعد عدّها .وظللت واقفا وأنتظر من بعيد بعد إنفض الجمهور من أمام المخبز بعد نفاد كمية البيع جاء رجل أخد كمية من الخبز في (هذا الكيس) وأغلقه جيدا كما وجده ثم ذهب وجاء شاب نظر وقرأ الورقة المعلقة أعلى الكيس فأخد عدد (3 عيشات) وكان أمام المخبز في بائع فلافل طلب منه الشاب (سندوتشات) لكن هذا الشاب تصرف تصرف غريب أرجع ما فاض عليه بعد ذلك في كيس الخبز ثم أخذ (السندوتشات) وإنصرف في حال سبيله

ثم ذهبنا أنا وإبنتي هدية الى البيت لكن وأنا في الطريق فكرت بعد ذلك فيما حدث .. هؤلاء سودانيون وجدوا أنفسهم فجأة بلا رقيب ولا حسيب كان بإمكان عامل المخبز أن يأخد المبلغ ولا يضع الخبز ولا أحد يدري بما يفعل أو ذلك الرجل أن يأخد كل الموجود في الكيس ويذهب ويمكن أن يبيعه في مكان آخر في ظل هذه الندرة أو ذلك الشاب أخد ما يكفيه من سندوتشات وما فاض عليه أرجعه في الكيس وجميعهم تصرفوا بأدب وأمانة . فهؤلاء المجموعة نموذج من الشرف ,بالرغم من تصرفهم الشريف في هذه الواقعة قد يتصرفون بطريقة مختلفة في مواقف أخرى . فمثلا المتبرعون لو كانت عليهم ضرائب لن يتأخروا ابدا في الهروب منها … هذه الواقعة جعلتني أتذكر أيضاً شبان وشابات شارع الحوادث لقد تعاملت معهم في أكثر من واقعة إنهم مجموعة من الشبان والشابات النبلاء والشرفاء يجمعون التبرعات لصرفها على المرضي الفقراء وكذلك الذين يتبرعون لهم وبعضهم يدفع بسخاء لهؤلاء الشبان والشابات سؤال : هل لو كان فرضت الدولة هذه الضريبة علي المتبرعين وقالت لهم سأصرفها في علاج الفقراء والمساكين هل سيدفعون ؟ لن يدفع أحد وسيتهربون من الدفع بأي طريقة .. لكن لماذا ؟ سؤال تاني :لو كان المتبرع للخبز هي الدولة وليس مواطنون عاديون فهل كان سيتصرف الرجل الذي أخذ كمية ثم ترك الباقي والشاب الذي أخذ كفايته من الخبز ثم أرجع الباقي هل كانوا سيتصرفون كما رأيناهم ؟
في هذه الحالة هؤلاء وجدوا انفسهم امام قضية عادلة الذي سيأخذ المبلغ انسان محتاج للخبز وللعلاج لذلك تبرعوا بدون أي تردد .أما ضرائب الدولة بالنسبة للمتبرعين والمستفيدين إنها قضية كاذبة وهناك انعدام الثقة بين المواطنيين والحكومة يجعلهم دائما يفضلون عدم التعامل معها لأنهم لا يتوقعون منها إلا الكذب والشر ويدركون مدى فساد الدولة والنظام الذي يتحكم فيه (الكيزان) ويعلمون ان الضرائب لا يدفعها جميع المواطنيين وليس هناك عدالة في فرضها ولا في دفعها والأهم إن الضرائب لا تصرف في خدمة المواطن الفقير والمريض في المستشفيات ولا في التعليم ولا في الإصحاح البيئي وإنما تصرف في إمتيازات للفاسدين وفي تمويل المليشيات وأجهزة الأمن التي سخرت كل امكانياتها لقتل المواطنين بدل حمايتهم. إن هؤلاء المارة النبلاء والشرفاء الذين تبرعوا لشراء الخبز والذين أخذوه والمتبرعون لشارع الحوادث يشكلون الغالبية العظمى للشعب السوداني وهم أكثر من 90% وغالبيتهم لا ينتمون لأحزاب سياسية وبالتالي يطلق عليهم الأغلبية الصامتة وهؤلاء كانوا منسحبون من الحياة السياسية قبل أن يعودوا إليها بالألاف في الشوارع وبالملايين اليوم وفي قلوبهم الثورة والتغيير وسيدخلون يوما ما وقريبا جدا ستفيض بهم الشوارع إنهم لا يثقون في ما يقوله (الكيزان) فلو قال لهم النظام أودعوا أموالكم في البنوك وسنقوم بصرفها لكم حين تحتاجونها تأكد لهم لن يتحصلوا على أموالهم . ولو قال لهم النظام سيقوم بتخفيض الأسعار تأكد لهم سيقوم برفع الأسعار وإذا أعلن جهاز الأمن العثور على خلية من الحركات المسلحة وتنوي قتل المواطنين لم يصدقوه لأنه هو من يقوم بقتل المواطنيين بإختصار إن الناس يستدلون من البيانات الرسمية على عكس ما تؤكده

ليس المقصود أن السودانيون شعب بلا عيوب ، بل إن النظام الإستبداد الظالم الفاسد الجاثم على أنفاس السودانيين قد أصابهم بعيوب سلوكية عديدة من واجبنا أن ننتقدها ونعالجها لكن ليس من حق أي كان أبدا أن يتعالى على الشعب أو يسخر منهم أو يهينهم كما يفعل أبواق النظام (الكيزان) في قنواتهم الفضائية أو على صحفهم الحقيرة .إن قيمة المثقف الحقيقية تتحدد وفقا لعلاقته بالناس، هكذا يعلمنا التاريخ.. إن المثقف الذى ينفصل عن الشعب ويحتقره، ويهينه ولا يقف معه في محنته يفقد قيمته وتأثيره فورا، مهما تكن درجة موهبته أو ثقافته وعلى الكتاب والفنانيين أن يعو ذلك جيدا إن التاريخ لا يرحم المتخاذلين والراقصين على دماء شهداء التغيير

ياسر عبد الكريم
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..