مقالات سياسية

السودان والمستقبل: النموذج اللبناني؟

مجاهد بشير

من ناحية التطور التاريخي، لا يزال السودان في بدايات تشكله كدولة وأمة، فالنموذج الاجتماعي المهيمن مثلا هو القبيلة لا القومية، ولا تزال القبيلة تتجلى في النزاعات المسلحة والتنافس السياسي، بل إن بعض الحركات هي مجرد تكوينات قبلية أو عرقية وفي أحسن الأحوال جهوية، وبعض الأحزاب واجهات أسرية، وبعض المليشيات ملكيتها شخصية لصاحبها فلان الفلاني، كما أن أشكال النشاط الاقتصادي تتسم بالبدائية كالزراعة المطرية والرعي والتعدين التقليدي، فهل يمكن أن تنتج مثل هذه العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التقليدية نظاما حديثا ودولة متقدمة ومتحضرة؟
الإجابة بالتأكيد أن أمامنا طريق طويل ووعر للارتقاء في سلم التطور البشري، قد يستغرق عشرات السنين إذا برزت من تحت الركام قيادة فذة، ومئات السنين إذا ظل حالنا على ما هو عليه منذ الاستقلال.

إذا، في ضوء المعطيات الحالية، ما هو المستقبل الذي ينتظر السودان على المستويين القصير والمتوسط؟
في واقع الأمر، تبرز ٣ سيناريوهات أساسية يمكن التنبوء بها خلال الخمس أو العشر سنوات المقبلة، أكثرها مأساوية نموذج الانهيار والفوضى، وتفكك شبه الدولة القائمة حاليا، إلى كيانات عرقية وعسكرية مليشياوية وجهوية وفوضوية  تتنافس وتتناحر فيما بينها وتخضع للتأثيرات الإقليمية.

أما السيناريو الثاني فهو قيام ديكتاتورية عسكرية جديدة، عبر صيغة تحالف الجيش والمليشيا، أو نجاح أحد الطرفين في الهيمنة الكاملة على الآخر بالقوة الناعمة أو الخشنة، ومن ثم الانفراد بوضعية القوة العسكرية الأولى في شبه الدولة، وإعادة إنتاج مايو والإنقاذ في القرن الحادي والعشرين، وبنسخة مشوهة أكثر ضعفا وهشاشة من ناحية حجج الشرعية والأساس الاقتصادي والآيدلوجي، وأقل استقرارا، وقد تفضي هذه الصيغة بدورها الى الانهيار والفوضى.

السيناريو الثالث، هو النموذج اللبناني، ونعني به ذلك النظام السياسي الذي يقوم على صفقات محاصصة وتسويات بين معظم الكيانات السياسية والمليشيات والعساكر، سواء عبر حصص وتوازنات ثابتة أو متحركة، ولن تلعب الانتخابات هنا، إذا أقيمت بالفعل، دورا أكثر من إعادة توزيع الحصص وإعادة صياغة التحالفات والتوازنات بين الفاعلين في المشهد.

من منظور مصلحة المواطنين، ربما يكون النموذج اللبناني أهون السيناريوهات المتوقعة شرا، فهو يوفر نوعا من الاستقرار الهش وصيغة تحد من خطر المواجهات العسكرية والصراعات السياسية واسعة النطاق مرتفعة الحدة، وقدرا من القبول الإقليمي والدولي، وهامشا من الحرية الدينية والشخصية وربما الاقتصادية، وحتى السياسية، ولكنه في المقابل يكرس غياب أي مشروع وطني حقيقي للتنمية والنهضة وبناء الإنسان والدولة، ويتسم هذا النموذج بسوء الإدارة، والفساد المحمي بالتوازنات السياسية، وتحول مؤسسات وأجهزة الدولة إلى مزارع موزعة على اللافتات السياسية والمليشياوية والعرقية والأسرية، واتساع دوائر التأثير والنفوذ الخارجي في المشهد المحلي، الى جانب تفاقم الأزمة الاقتصادية واضطرار معظم الناس للتعايش مع ضعف الخدمات وتهالك البنية التحتية وأنظمة التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية والارتفاع المطرد في الأسعار.

بالنظر إلى السجل التاريخي لأداء الطبقة السياسية والعسكرية في السودان، وأحوال الدول الأخرى الواقعة في نطاق الثقافتين الافريقية والعربية الإسلامية، يبدو سيناريو النهضة والتنمية والحكم الرشيد واللحاق بالعصر شبه مستحيل خلال المدى المتوسط.

سواء انتهى مصير السودان السياسي إلى دكتاتورية عمياء جديدة لا تخدم سوى مصلحة الديكتاتور وحلقة الأقارب والمهرجين والمتفعين المحيطة به، أم إلى حكم تعددي هش يفتقر إلى الكفاءة والرؤية، فليس أمامنا من خيار سوى التمسك بحقوقنا كمواطنين، أن يحكمنا أناس مؤهلون في دولة تنمية وقانون، ومؤسسات وشفافية، وإن كان السؤال باقيا لا يزال: هل تستطيع الطبقة السياسية والعسكرية بعقليتها هذه الارتقاء إلى معايير الحكم العقلاني الفعال الرشيد؟.

اقترحنا في السابق على الإخوة الحكام الجدد إسناد إدارة الدولة والتخطيط والتنفيذ لخبراء أجانب لتجاوز مشكلة الخلل والقصور البنيوي في عقلية النخبة السودانية وعجزها التاريخي عن حل المشكلات بفعالية واقتدار وتصريف شؤون الشعب بكفاءة، لكن بالطبع، من منظور الكبرياء القبلية المقنعة بلافتة السيادة الوطنية، ومن منظور المصلحة الشخصية والنرجسية وغياب حكمة التواضع، فإن اعتراف هؤلاء بأن وجودهم في مواقعهم يفتقر لأي مبرر أو جدوى، بما أنهم عاجزين تماماً عن أداء دورهم الوظيفي، يعتبر ضرباً من الأحلام الطائشة.

فإن أعرضنا عن أحلام النهضة، وطموحات القفزة الحضارية السودانية الكبرى، وتقبلنا الواقع المرير وحقيقة أننا نتخبط في المراحل البدائية للبشرية ما نزال ، فالأجدر أن نتعامل بواقعية مع هذا النموذج الهش لحكم تعددي يفتقر إلى الكفاءة والفعالية والشفافية والمشروعية، ونركز على تحسينه والإرتقاء به، إن كان بالفعل قابلاً للإصلاح والاستمرار.
مجاهد بشير

[email protected]

‫3 تعليقات

  1. أفضل مقال قرأته في الراكوبة حول مآلات (الدغمسة) السودانية وحول وضعنا الحالي واحتمالات المستقبل. الفكرة الأخيرة في المقال (فليس أمامنا من خيار سوى التمسك بحقوقنا كمواطنين ….) تحتاج لاستطراد وتفصيل، إذ كيف يتسنى لمواطنين “عاديين” غير منظمين أن يتمسكوا بحقوقهم الأساسية في ظل “شبه” دولة غير قادرة على الحكم ونظام متهالك وفاسد وسيطرة مليشاوية/عسكرية وتسيب قانوني “بالضرورة”!! لعل رغبة الكاتب في أن يكون “صحيحا” سياسيا وأخلاقيا دفعته لتسطير هذا التفاؤل الذي لا يستقيم مع مجمل التحليل “المنطقي” الذي قدمه الكاتب.
    عوضاً عن التفاؤل غير المؤسس على شيء، لماذا لم ينظر الكاتب في احتمالات (البناء بعد الحريق/السقوط الكامل)!!!
    لكن، يبقى المقال صادما وصادقا ودقيقا في وصف تموضعنا الحضاري وقراءة مستقبلنا البائس، المنظور

  2. الاخ كاتب المقال كن امينا ولا تكون متحامل علي جيهات شوف الكلية الحربية وكلية الشرطة والوظائف الاداريه والخدمة المدنية عباره عن اتجاه معين مسيطرين عليه قبيلتين تلاته

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..