لبناني باع بيته ليسكن مع زوجته في مغارة

وجوده فيها يتلاءم مع طبيعة تعاطيه مع الناس الذين فضل الاستعاضة عنهم بالطبيعة العذراء، وذلك بعد اختياره العيش في مغارة حفرها في قلب الجبل. ولا اهتمام لديه بالأحداث السياسية أو الاقتصادية، بل بمغارته، التي غدت مقصدا لكل من يستهويه نوع مختلف من الحياة.

سليمان سليمان، صاحب البيت/ المغارة، قال لـ«الشرق الأوسط» في حوار معه: «لقد نجح الإنسان في المحافظة على وجوده عبر مئات الآلاف من السنين من خلال الكهوف، في حين أن المنازل التي بناها لم يتعد عمرها بضعة آلاف من السنين. هذه المغارة تبث الدفء شتاء وتحتفظ بالبرودة صيفا، مما يبعدنا عن الأعباء الاقتصادية المترتبة على تأمينهما».

قبل 5 أشهر انتقل سليمان إلى السكن في مغارته الواقعة في وادي بدادا ببلدة تفاحتا، في جنوب لبنان، وذلك بعدما اضطر إلى بيع منزله في بلدة البيسارية، الجنوبية أيضا، الذي يصفه بـ«التحفة الفنية والثقافية» والمؤلف من 3 طوابق، إثر مصادرة المصرف ممتلكاته.

بحسرة يشير سليمان إلى صورة تجسد حلم حياته، وهو «متحف بدادا»، الذي كاد يدخل «كتاب غينيس للأرقام القياسية» بأهرامه الضخمة (يبلغ طول الواحدة منها 15 مترا)، وبكمية الخشب والمسامير والبراغي المستعملة فيها، لولا الحريق المفتعل الذي أتى عليها منذ 4 سنوات.

لا خوف ينتابك أثناء تجوالك في أنحاء هذه المغارة الواقعة في «وادي المتاهة»، وهو الترجمة العربية لكلمة «بدادا» السريانية، فلقد قسمها مالكها إلى غرفة جلوس وغرفتي نوم، ومطبخ وحمام، بالإضافة إلى باحة خارجية. وحسب كلام سليمان، استغرق تحويل المغارة إلى منزل فعلي نحو 4 أشهر، واستخدم فيه بعض أحدث معدات الحفر. وأشرف خلال عملية التنفيذ على فريق مؤلف من 4 أشخاص، وذلك بعدما أطلق العنان لمخيلته في تقسيم الغرف وتصميمها، وفي استعمال الطين بطريقة مبتكرة في كل ثناياها.

ردا على سؤال وجهناه إلى سليمان، الذي عمل مهندسا كهربائيا لمدة 20 سنة، قال: «زوجتي رفضت الفكرة كليا في بادئ الأمر، لكنها اليوم وجدت الراحة والسعادة هنا، خصوصا أن العديد من أقاربها يأتون لزيارتها أسبوعيا».

والواقع، أن موقف الزوجة لم يختلف كثيرا عن موقف الأولاد المقيمين في بيروت وخارج لبنان، الذين أقروا بأن والدهم كان على حق في التفكير بمشروع من هذا النوع. وفي ذلك يوضح: «لدي خبرة في التجرد من عواطفي، ولا أقلق لما قد يقوله الناس وإلا لما تجرأت على تنفيذ مشروعي».

سليمان استحدث حائطا من الإسمنت فيه 12 نافذة إفساحا لدخول نور الشمس ومنعا للرطوبة، وبينما يلفت الزائر وجود الكومبيوتر المحمول الذي ما زال يفتقر إلى الإنترنت، يتربع المولد الكهربائي في إحدى زوايا الباحة الخارجية احتياطا في حال انقطاع الكهرباء. أما المياه فلها طعم آخر حيث تأتي من بئر ارتوازية محفورة إلى جانب المغارة الواقعة بين جبلين. وخلال الحوار معه، تمنى سليمان أن تبادر وزارة الاتصالات بتزويده بخط هاتف ثابت، ليستعيد التواصل مع أولاده في الخارج عبر الـ«سكايب»، كما كان يفعل في منزله السابق.

على صعيد آخر، لا يختلف مطبخ مغارة سليمان بمحتوياته الكهربائية عن بقية المطابخ، من حيث توافر البراد (الثلاجة) وطباخ الغاز وأدوات الطعام، في حين وضعت الغسالة على بعد أمتار منها، يطل الزائر من خلف نوافذه على طبيعة أخرى ترسمها الجبال الخضراء من مختلف الجهات.

ولم ينس سليمان في مغارته الحيوانات الأليفة، فخصص لها مكانا داخل المغارة، وعندما استوقفنا قط أبيض يتمايل يمينا وشمالا، بادرنا صاحبه بالقول: «علاقتي به غير طبيعية.. وأحيانا نتعارك. لديه فعل ورد فعل، ولكنه يتجاوب معي دائما». وفي هذا السياق أكد سليمان، الذي يعد أول من سكن في «وادي المتاهة»، أن لا خوف لديه من هجوم الحيوانات البرية ليلا، معتبرا أن «الإنسان والعنكبوت فقط يقتلان من أجل القتل، بينما معظم الحيوانات تقتل بدافع غريزة البقاء لا غير».

وبعدها لفتنا إلا كيفية تحويله نتوءات الحجر الصخري القاسي داخل مغارته، إلى خزائن ورفوف لحفظ الثياب والأغراض، بل، وكيف ترك حتى أعشاش العصافير والطيور على حالها.

اليوم، يوشك «عاشق المغارة» على إكمال بناء منزل مقابل للمغارة، مؤلف من 3 طوابق و4 قباب، غريب بطرازه وتصاميمه الهندسية التي تعيد الرائي إلى عصر الكهوف الحجرية. وهذا نابع من خلفيته الفنية التي تحملها المنحوتات الموزعة في كل زاوية من زواياه، بفضل إزميله المتفلت من قبضة الزمن. ويصل بين المغارة والمنزل جسر خشبي عريض، ومعه تصبح المعادلة المعيشية عند سليمان والعائلة: قضاء فصل الشتاء في المغارة والصيف في المنزل، أي تمضية الفصلين في منطقة واحدة. وأما ما يزيد المشهد إثارة فهو إنجازه منذ سنوات «التلفريك» المجهز بالحبال للتزلج فوق الشجر وليس على الثلج، بحسب تعبيره.

سليمان سليمان، وهو من أبناء بلدة حولا الحدودية، بجنوب لبنان، قال معلقا على نمط حياته غير المألوف: «كثيرا ما كنت أردد أنني أنشد علاقات المدينة في حياة الريف وليس العكس، فالعلاقات الإنسانية لا بديل عنها، وأهل الريف يعيشون معا وعلى الدوام الأفراح والأتراح والواجبات الاجتماعية». وهو يعتقد أن «ابن القرية يقصد المدينة بهدف التطور، لكنه عندما يتطور فإنه يعود إلى الريف بغية إقامة توازن بين راحة الريف وهدوئه وجمالية طبيعته، وبين حياة المدينة ورفاهيتها والإمكانيات المتوافرة فيها».

ولم ينس سليمان في ختام اللقاء، من مغارته، الإشارة إلى أنه أنجز تأليف كتاب «تشرين العمر» وديوان شعر بعنوان «.. وغدوت عودا فاقد الوتر»، فضلا عن العمل على روايتين قيد الطبع، بعدما راح يمضي أوقات فراغه في الكتابة، إثر احتراق حلمه وتحوله إلى رماد. وهكذا، تناسى ولو مؤقتا، مهنة النحت التي اشتهر بها في بلدته.

الشرق الاوسط

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..