محجوب كبلو.. غربال المطر

شعرية التشغيل المجازي والحركة الداخلية للنص والتحويل والتكثيف والتجاوز !

“الشعر رحلة إلى المدائن الخبيئة تعمل على إشعال الحرائق الخيال حيث يلتبس الواقع باللا واقع والوعي باللا وعي? لغة الشعر تتضوأ بواسطة تمازج الصور وتداخل الانفعالات” ( رجاء عيد 1979).

” لا يوجد شاعر أو فنان يمكنه خلق معنىً مكتملاً بمفرده” . ت. س. إليوت(1951).

الشاعر محجوب كبلو من جيل السبعينات المتميزين في كتابة الشعر . سافر إلي الخليج فصمت عن الشعر لأكثر من عشر سنوات, ثم فاجأنا أخيراً بأداء شعري جديد ورائع ونصوص ذات أفق يبدو مطلاً على مفهوم ( الاختلاف والتأجيل ) الذي صاغه فيلسوف التفكيك الفرنسي جاك دريدا . فهي نصوص تكمن قوتها في قدرتها على تأجيل معناها باستمرار وفي نزوعها الملح نحو مسالك مختلفة حتى داخل القصيدة الواحدة .

ويبدو أن صمت كبلو لم يكن مجاناً بل كان ثمنه لغة شعرية مدهشة وأداء مونودرامي مكثف وجميل .

فالتكثيف مع التصعيد (المناخوي) أهم ما يميز شعر كبلو, فتتشقق القصيدة عن (لاكيونات)lacunae) ) أو فجوات عميقة. وهي في هذا قد تستدعي مفهوم الـ(meaning-negotiation ), أو المعنى المتخلق عبر التفاوض المستمر بين القارئ والنص من جهة وما بين النص والنص من جهة أخرى, لملأ هذه الفراغات بالمعنى الذاتي الخاص والمعنى العام في آن.

فتحت الشمس نافذة الغيم
وجففت قميصي للموعد
****
كنت في الطريق إليك
وكان سيد الماء في كامل أناقته
السترة السحابية
المنديل الأحمر
عصا الطحلب
وقبعة النعاس
في ركن قصي الحدّاد الخفي
يصلح غرابيل المطر.

وتبدو قصيدة كبلو مولعة بالهجرة جنوباً في مدى يتجاوز الجغرافيا الطبيعية إلى جغرافيا إنسانية عميقة, ونحو أفق يتجاوز الشرخ والانقسام الوطني الراهن ويكسب أشواق الوحدة والسلام من جديد, بعداً عميقاً.

يا نبات الجنوب
أحلفكن بغرابيل المطر
وحدّادها الخفي
وبطيور أنزارا
وكورالها الأنثوي
بالرمح
وبالنبع
وبالظباء
وبنوافذ المسلمين المفضية إلى السماء
لا تدعنني أنام
كيف وقد زأر الزهر
وكفت عن الفحيح المدام

وتتصاعد القصيدة عبر أداء ( طقوسي ) خاص وأقنعة معينة, وتشكيلات مجازية متنوعة ونشطة, وفيها ضرب من الجدة واللطف والتمهل والتوهج والاختراق :

الله لي
للخمر نكهة الأبد
ولبشرة الحبيب ملمس الظلام
ولقلب العاشق حبل من مسد
يشده إليكن
وقمر يشع لدى الإبتسام
ويسقط الشعاع
على موجتين
أو على كرمتين
من هديل الحمام

ويواصل كبلو أداءه متوسلاً نافذة تشكيلية معينة لا تتخلى عن الشعر لصالح ( اللوحة) وان كانت تساومها .

كنا نهدم جسوراً
بين فراديس
بلون زغب الثواني
بتفاتاة قبلاتنا
ونرقب أبراجاً مؤقتة
في مياه استحمامك
ثم نخرج حذرين
لاقتناص أقواس قزح المتنكرة
في أردية السحالي
ونلقي شباكنا على الرخويات
الملتصقة بقاع الموسيقى

ويواصل كبلو رسم لوحاته الشعرية البهية : تنظرين / فاكتظ بألوان كمدرس / واحتشى بالنزهة / راعٍ / هاذٍ / مقدساً / موكلاً بغسل القنافذ / وتجفيف الهديل .

ولكل قصيدة (خلفية شاشة) مختلفة تؤدي وظيفة جمالية معينة وتشكل تناصاً موازياً/محاذياً para-textuality)), لنص القصيدة كلها . ولكن كل هذه ( الخلفيات ) في النهاية تشكل خلفية شاشة واحدة للكتاب الشعري كله ( المجموعة ), وهي بدورها تؤشر خلفية اشتغال خطاب كبلو الشعري في مرحلته الجديدة . وتلعب (الجملة الشعرية) بقصرها المتحفز وكثافتها الملطّفة دوراً مركزياً في تشكيل الخطاب الشعري لدي الشاعر برمته, أبرز ما يميزها هو التبديع عن طريق رج الهدوء اللغوي من خلال رفض الإرتصافات الراسخة (collocations) , وخلق إرتصافات مفرداتية جديدة : (ضهد المناكب) ، (أنثي السموات) ، (أهوال الفضة) ، (معجزة كوني لا أطير), (ديمقراطيات في تماسها الأخير) ، (تربية القمر) ، (أشكال ملوك ملقاة) ، (برامج الزرقة الكونية ) , (يلعق الضوء), (طاهية العدم), (ذراعين مائيين) و (جمهرة الماء), (صيادلة الرياح), (يرقات الغد)… إلخ.

يصعّد كبلو خطابه الشعري عبر تقنية “الـطمس والتغييب” لظاهر الأشياء (mystification ) ,( وهي جزء من آلية تغريب “”alienation عامة تجري في شعره ,) وهي تقنية فنية تقوم على طمس وتغييب (bluring) معالم الأشياء والزمان والمكان حتى ليبدو الواقع, كما لو كان لاواقعاً, ويعود الباطن والخفي, كما لو كان ظاهراً ومركزاً للأشياء والأفكار:

( كان سيد الماء في كامل أناقته / كنا نهدم جسوراً / بين فراديس / وعلى تربية هذا الذي بيننا ).

وعن طريق هذه الآلية (الطمس والتغييب) يمارس الخطاب سلطته ويتعالى ويتعالى, ولكنه في ذات الوقت يترك فجوات تفتح جملـة خيارات للقارئ أو منتج النص الموازي .. وهكذا يستمر الحوار بين اللغة والمعنى والمعنى والانسان والعذوبة والعذوبة.

وضمن هذه الآلية يتم التصعيد عبر التكثيف المفرداتي, والتوسع على صعيد التركيب النصي كله. هي شعرية تنهض على التركيب الداخلي للنص, وعلى طاقة المجاز الهائلة في الخلق الجديد, وعلى حشد اللحظة الشعرية بالتحويل والتجسير والتمدد وخلق الفضاءات الذاتية الخاصة للذات الشعرية. وضمن هذا التركيب الداخلى الخاص تمتلأ قصيدة كبلو بمعناها الخاص وهويتها الخاصة وحوارها الخاص وفعلها الخاص وإيقاعها الداخلي الخاص:

فَتَحَتِ الشَّمْسُ نافِذَةَ الغَيْمِ
وجفَّفَت قَمِيصِيَ لِلْمَوْعِد
:((الأظَافرُ نوافذ
ما قَالَهُ الطِّلاءُ الأخضر.
(الجَّسَدُ قَلْعَة)؛
ما تَقُولُهُ الهاويةُ
بينَ نَهْدَيكِ
وسَطْحِ البَحْر.
طوالَ اللَّيلِ
أَصْنَعُ الأفخاخَ
للفئرانِ التي تَلْتَهِمُ
يَرِقَاتِ الغَد.
البَرَازِيلْيَا والهواءُ
يُزَيِّفانِ خَطَوَاتِكِ،
فَأُحَدِّقُ في مَمَرِّ اللَّيْلَة،
وإذْ لا يَتَدَحْرَجُ مِنْهُ تَسَلُّلُكِ،
يَحْتَرِقُ بي فِرْدَوْسٌ صغير

ويستخدم كبلو أيضاً, ما يسمى في علم اللغة الاجتماعي بالـ( code-switching) أي التحول اللغوي (الرمزي) مثل [قديسة الفاسـت فود].. وهنا يتم تصعيد الرمز أو (الكود) ليشكل خلفية مصغرة للقصيـدة أو النص الشعري المعين . وإدخال الكلمات الأجنبية في صلب النص الإبداعي يدخـل في بـاب (الإبداع العابر للثقافات) حسـب (كاركو 1997).
وللسرديات الشعرية نكهة خاصة عند كبلو وهي سرديات , يلفها الحنين إلى أزمنة ما غامضة وسحيقة , وأمكنة ما.. بعيدة حاثلة في فراغاتها المكتنزة ووردها الغارق في الجمال, والمنشغلة دوماً بترتيباتها الخاصة بها.. ولها سعة الرمز الداخلي (فساد الشعر.. هذا الذي بيننا), وغموض الغروب وجدليات عديدة ( الفراغ-الورد):

من أوان بعيد
قبل فساد الشعر
توفرت لك
وعلى تربية هذا الذي بيننا
كان الفراغ لا يكفي للورد .

ويكشف الشاعر هنا عن شبكة معقدة من ( التناصات) المعاكسة والصيغة, وهي (تناصات) تشاكل تلك التناصات ( المعقدة) التي مارسها الخطاب الروائي والشعري الأفريقي المكتوب باللغات الأوربية ( لغات المستعمر السابق) الفرنسية والإنجليزية ، والأسبانية ? الخ ) كالروائي النيجيري والروائي سوينكا ( الحائز على نوبل ) والروائي الغاني كامارا لاي والصومالي نور الدين فرح وشاعر السنغال العظيم ليوبولد سينغور.

وتشتعل تلك التناصيات الشرسة في اتجاهين : الأول يعمل على إدخال عناصر الثقافة المحلية في جسد اللغة الأجنبية والثاني يحاول إزاحة الوجه الاستعماري التاريخي للغة الأجنبية decolonization) ) بتفكيك بنيتها الأسلوبية القديمة وإعادة ( أسلبتها ) من جديد لخدمة أغراض الكاتب والثقافة الجديدة, وهي تقنية عالية جداً ونوع من التناص ماكر جداً, إذ يكشف عن قدرة اللغة الكبيرة في فتح مسارات جديدة مختلفة, حين توحي ظاهر الأمور بالثبات والاستقرار . وهنا تنشط شبكة من العوامل المعقدة مثل علاقة اللغة بالسلطة وكيف أن الخطاب قد يحافظ على أو يعزز أو يخلخل علاقات السلطة الموجودة والسائدة . وفي حالة الخطاب الأدبي الأفريقي كما في حالة كبلو ، إتجاه الخلخلة هو السائد وإن كان عند كبلو يمارس الخلخلة بعنفٍ هاديء (أنظر قصيدته التي يحاول فيها أن يكتب تاريخاً شعرياً للإستقلال موازياً للتاريخ الرسمي – نوستالجيا الاستقلال).

خاتمة

هذه إضاءة خفيفة للشاعر السبعيني المتجدد (محجوب كبلو), الذي صمت عن الشعر زمناً طويلاً ..ثم أخذنا بقوة متوسلاً تكنولوجيا شعرية جديدة ومتميزة ونصوص لها طعم الكاكاو وبساقة النخل ونشوة الجروف وحزن الغروب و فيها نتحسس شبق الغاب وملمس الليل وقمصان السحالى ونفايات المدن , مثلما فيها آخر أهازيج العاشقين الحزانى وهم يغرقون ببطءٍ ونبلٍ وذكاءٍ ووقار في قاع المجهول السحيق. قصيدة محجوب كبلو تجسيد حي لطاقة الشعريات الجديدة, ونموذج راق للفاعلية الكبيرة التى تتسم بها قصيدة النثر السودانية, وقدرتها على رفد المشهد الشعري السوداني والعربي بملامح فنية جديدة ومتميزة للغاية.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. بارك الله لكما . نحتاج لمثل هذه الاضاءات الخفيفة لشعر جميل جماله محجوب عن اغلب محبي الشعر . خرجت اضاءتك الجميلة بذكاء كبير من ساحة الدراسات الصفوية الي رحاب الناس الواسع . شكرا يا سيدي .

  2. الشاعر السبعيني محجوب كبلو
    ظل يرفع رآية التجديد على الرغم
    من الصمت الذى ران حوله عقداً
    كاملاً
    ظل يجمر مفردات نصوصه بغربال
    المطر
    جفف قميصه بشمس الغيم
    منتظراً الموعد المكذوب
    أذكر في 2009 في زيارة خاطفة
    الى الخرطوم من القاهرة
    إستضافني مركز عبد الكريم مرغني
    للحديث عن تجربتي الإبداعية حول الشكل
    الكتابي المختلف
    قدمني نبيل غالي
    و ختمت حديثي بقراءة ثلاثة نصوص سردية
    من بينها (أوان الدعاش)
    معظم النقاد وصموا نصوصي بالزكشة
    اللفظية ما عدا محجوب كبلو الذي أشاد بهاا

  3. بارك الله لكما . نحتاج لمثل هذه الاضاءات الخفيفة لشعر جميل جماله محجوب عن اغلب محبي الشعر . خرجت اضاءتك الجميلة بذكاء كبير من ساحة الدراسات الصفوية الي رحاب الناس الواسع . شكرا يا سيدي .

  4. الشاعر السبعيني محجوب كبلو
    ظل يرفع رآية التجديد على الرغم
    من الصمت الذى ران حوله عقداً
    كاملاً
    ظل يجمر مفردات نصوصه بغربال
    المطر
    جفف قميصه بشمس الغيم
    منتظراً الموعد المكذوب
    أذكر في 2009 في زيارة خاطفة
    الى الخرطوم من القاهرة
    إستضافني مركز عبد الكريم مرغني
    للحديث عن تجربتي الإبداعية حول الشكل
    الكتابي المختلف
    قدمني نبيل غالي
    و ختمت حديثي بقراءة ثلاثة نصوص سردية
    من بينها (أوان الدعاش)
    معظم النقاد وصموا نصوصي بالزكشة
    اللفظية ما عدا محجوب كبلو الذي أشاد بهاا

  5. العزيزان فيصل وهجو

    لكما شكري وتحياتي , على التعليقات الدائمة منكما!!

    + نعم كبلو من المجددين وليس بمستغرب أن يرحب بأساليب وتقنيات إبداعية وأسلوبية مستجدة, قد لا تتوافق مع الحساسيات القديمة وأطر الذوق السائد !!

    + الأخ هجو..شكرا .. كما قلت لك.. وواحد من أهدافنا أصلا هو تجسير المسافة بين النقد الأكاديمي (العالي), المتأسس على أساليب البحث, والنقد في تجلياته الثقافية الصحفية العامة (ويشمل ذلك النقد في المنتديات والمحضرات في المراكز الثقافية العامة أيضاً).. لا تناقض بين التيارين بل تكامل وتعاون.. كما أن القراء أيضا ضروب شتى والراكوبة فيها فئة لا تحبذ الا أساليب وتقنيات النقد العالي – ان شئت.. رغم ن أن الجميع في النهاية هو نقد مطلوب ومرغوب لتطوير الثقافة والابداع في بلادنا !!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..