مقالات وآراء سياسية

حكومة الدكتور حمدوك .. رسوم العبور

عادل إسماعيل

شكل الدكتور حمدوك حكومته الانتقالية ، شبه الكاملة ، بموافقة شركاء المرحلة السياسية الحالية ، و هما المجلس العسكري الانتقالي و قوى الحرية و التغيير . و أيا كانت نقائص هذه الحكومة الانتقالية و عيوبها ، يجب دعمها دعما كاملا بلا حدود حتى تعبر هذه المرحلة الحرجة بسلام ، فهي المتوفر و المتاح في الوقت الحالي .

و رسوم عبور هذه المرحلة يمكن أن تكون قليلة الكلفة بقليل من الحصافة و كثير من العزم . و ذلك لأن ما يزيد من كلفة التغيير ، في المرحلة القادمة ، هو ما يسمى بالدولة العميقة و العراقيل التي تسعى لخلقها بما أتيح لها من موارد منهوبة و مواقع تنفيذية ما تزال بعيدة عن متناول يد التغيير .

غني عن القول ، إننا نطلق مسمى الدولة العميقة مجازا ، لأنه في واقع الأمر لم تقم دولة سوية في السودان  منذ الاستقلال عام 1956 ، عميقة كانت أو غير عميقة ، إنما كانت هناك محاولات تتفاوت في درجة فشلها لإرساء قواعد الدولة القابلة للنمو و الديمومة .

اليوم ، و بعد إهراق الغالي من الدماء ، و العزيز من الدموع ، و بعدما حدث ما حدث ، تلوح في الآفاق السودانية فرصة قيام دولة يتساوى فيها أبناؤها ، لها مكانتها بين الأمم تغنينا بها كثيرا .

و الدولة التي  صنعها الإسلاميون منذ انقلابهم في العام 1989 ، قامت على احتلال كل مؤسسات الدولة من أعلاها ، و غاصت حتى قعرها ، و من هنا جاء تعبير الدولة العميقة . و بطبيعة الحال ، لا يكون التغيير إلا بتحرير هذه  المؤسسات و تطهيرها من الإسلاميين و الصفوف النافذة في ”المؤتمر الوطني” الذي كان حاكما .

ثم لا يكون هذا التحرير إلا بإخراج هذه الدولة العميقة إلى السطح شيئا فشيئا حتى تكون بادية للناظرين . و تبدأ الخطوة الأولى ، لوضع الدولة العميقة في العراء ، بإعفاء كبار الموظفين في الخدمة المدنية  بما يشمل مؤسسات التعليم و السلك الدبلوماسي ، و لو ممكن العسكرية ، ثم إحلالهم بنوابهم !! نعم إحلالهم بنوابهم هم الذين هم أنفسهم جزء من الدولة العميقة نفسها بطبيعة الحال . ثم القيام بذات العمل بعد فترة قصيرة . و يتزامن ذلك الفعل مع فتح ملفات الفساد الخاص بالمعفيين المعنيين ، و توظيف الكادر الجديد المناسب الداعم لقضايا التغيير ، لهذه المهن . و بذلك نكون قد ضمنا انتقالا سلسا و تدريجيا لا يربك العمل ، و في ذات الوقت يقتلع مسامير الدولة العميقة واحدا تلو الآخر مع نظافة ما يخلفه من جرح متعفن .

و ذلك يعني أن يعمل الحزب الحاكم للفترة الانتقالية ( قوى الحية و التغيير ) بعقل الحكومة لا بعقل المعارضة ( راجع مقالنا السابق ) . و في حقيقة الأمر ، اندهشت لقيام بعض الوزراء بوقفات احتجاجية للمطالبة بالتغيير !! و لعلني أذكر في هذا الصدد أن الدكتور جون قرنق ، حين عاد إلى الخرطوم بعد اتفاقية نيفاشا 2005 ، أن المعارضة التي كان هو حليفها ، طالبته في التعجيل بإسقاط النظام بعدما أصبح الأمر سهلا في اعتقادها ، فأجابهم بذكائه المعهود : نحن هسي دي ياهو النظام زاتو ، و يعني أننا أصبحنا النظام نفسه ، فكيف ندعو لأسقاطنا !!

على أي حال نقول أننا في بداية الطريق و يمكن للأمور أن تتحسن رويدا رويدا و لكن لابد من بداية قوية . و ربما يكتمل تشكيل الحكومة بشخصيات قوية لها قدر من الهيبة و المهابة . فالله وحده يعلم كم ثار غضبي حين علمت أن إعلاميا “أجلس” أربعة من أعضاء مجلس السيادة ، دفعة واحدة ، ليجيبوا على أسئلته !! و كم ثار غضبي حين رأيت وزيرا يقرأ الأجوبة من ورقة مكتوبة !! ما هذا يا إلهي ؟؟

و تدفعني هذه الهيبة و المهابة المرتجاة ، أن أقترح إعادة جدولة ديوننا الخارجية و لا أقترح إعفاءها ، إلا إذا كان ذلك مستحيلا . فذلك أكرم للشعب السوداني الكريم . نعم هذه الديون نهبها الإسلاميون اللصوص التافهون الجبناء حين كانوا يحكمون هذا الشعب الطيب . و لكنهم ، في نهاية المطاف ، هم إسلاميونا و هم لصوصنا و هم تافهونا و هم جبناؤنا . و أكرم للشعب السوداني غسل أدرانه بيديه . و نحن نمتلك مصادر تكاد لا تنتهي ، علاوة على إرجاع ما نهبه هؤلاء اللصوص السودانيون ، و من ثم تسديد ما علينا من ديون تدريجيا ، و وضع قانون استثماري لمصلحة الشعب السوداني أولا ، و ذلك بعد الفراغ من تحقيق السلام و إجراء التسوية السياسية المتعلقة به .

تلك ، إذن ، هي الرسوم الكبرى للعبور لإطلاق دولة سودانية محترمة يتساوى فيها أبناؤها .

 

عادل إسماعيل

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..