عطبرة الداخلة: يوميات حرامي نحاس

(جاء في الأخبار أمس أن عصبة متنفذة أخذت تسرق نحاس السكة الحديد من ورشها المفروض أن تكون مغلقة وعليها حرس من الشرطة. وقد أضرب أمناء الورش عن العمل لأنهم لن يتحملوا مسؤولية عهدة يتربص بها “قُواي” أي جماعة من الأقوياء الذين لا راد لسرقتهم. وطالما كنا في بعض سير حياتي رغبت أن أطلعكم على خبراتي في تنجيم النحاس وسرقته صبياً بحلة التمرجية بعطبرة)

زرت التمرجية بالداخلة بعطبرة هذا الشتاء وهجمت عليّ من تلك الزيارة اشياء من مرابع الصبا في حلة المحطة والداخلة الجديدة أشياء أنشرها ادناه.

أيام في عطبرة الداخلة
عبد الكريم جٌرِّي
سكنا حي التمرجية بظهر مستشفى عطبرة بعد نزول الوالد، عليه الرحمة، المعاش عام 1954. وأول ما نصحني به أولاد الحلة أن أقتني قدوماً وسكيناً وقفة سكر قديمة. وكانت هذه عدة التعدين في الحي. فحينا يقع غربي الحفر التي بظهر المستشفى مباشرة. وهي حفر كان بناة عطبرة الأوائل يأخذون منها الخرصانة ونحوها. وقررت السكة حديد لاحقاً ردمها بكناسة ورشها ونفاياتها. ومدت خطاً خاصاً سيرت فيه نبطشي (قاطرة المناورة) وعربتين حيوان أو ثلاث ضحى كل جمعة لنقل هذه النفايات والقذف بها في جوف الحفر الشاغرة. وما يهل هذا النبطشى من عند بيوت الدريسة، التي تقع شرقي الحفر، حتى يخرج أولاد حلة الدناقلة والصنفور والتمرجية بعدة الشغل في “هرولة النحاس” المشهورة. فنبقى سحابة نهارنا نحفر في النفايات نستخلص منها قطع النحاس الغالية. ونعود في أول المساء علينا غبرة من سواد راجع الفحم والزيت فوق دلاقين الهدوم المعدة خصيصاً للمنجم. ونبيع حصادنا للحاج بكرى. وتنتعش بورصة الفول والطعمية بسوق الداخلة القريب. ويتسرب بعض دخلنا إلى “خش” سينما الخواجة الجديدة أو سينما بيرفس.
متى سكنت التمرجية عرفت عدوك أولاً وتبقى عليك أن تعرف صليحك. فقد كان يشيع أولاد حوش (ما منعونا ياخي!!) أرهاباً دقيقاً في الحلة. فهم كثر أي عصبة وفيهم بسطة جسم وغلظة عضلات. ومثلوا كل طيف الأعمار. فهناك منهم بغير شك من هو في عمرك لتشقى منه. وصرح لي صديق من أرق الناس أنه تمني أن يترك أهل الحلة او يموت هرباً من طغيان أولاد حوش (…). ثم انقضى الصبا بخيره وشره وعرفناهم في ساحات الرياضة والعمل العام النقابي والرياضي فوجدنا حلو المعشر وصدق العزيمة. وهذا بعض طبع الملوك فيهم. فهم من ملوك الشايقية.
ومتى عرفت عدوك بقى عليك أن تعرف صليحك. ورزقنا الله في أسرة محمد طاهر جري صليحاً عجيباً. كان محمد طاهر، سواق القطر بالسكة حديد، قد نزل المعاش مثل والدي. وكانوا في مثل عددنا وتنوعنا في الجنس والأعمار فصادق الوالد الوالد والأم الأم والبنت البنت والولد الولد عمراً بعمر. ولم نكن نملك حميراً حتى نتأسى بالشاعر العاشق الذي قال إن أشياءه قد أحبت أشياء المعشوقة النظير بالنظير حتى أحب حماره حمارتها. وكنا نسمي هذه الشبكة في منزلنا ب”الصداقات الجُرية” من فرط إحكامها ونسقها وتواترها. وربما خرجت والدتي الحاجة جمال من هذه الصداقات لأن محمد طاهر كان له زوجة واحدة ولأبي زوجتان. وحظيت الوالدة أم هانيء، زوجة الوالد، بصداقة أم أولاد وبنات جري. وقد زكى أم هانيء لهذا الفوز دون الوالدة يسر التعامل معها ودبلوماسيتها. وكانت من جهة أبيها دنقلاوية أيضاً. وكانت أمي جمال لا تحب “الأغراب” مثل الدناقلة ولكنها تكن معزة لا حد لها للجعليين وتعتقد أنهم افضل خلق الله قاطبة. وكانت تحب آل القراي من الجعليين بديم الزبيرية بالخرطوم خاصة.
كان نصيبي من الصداقات الجرية في بيتنا هو أخي عبد الكريم جري. كان طالباً بالمعهد العلمي شغوفاً بالأدب مثلي صحوباً للكتاب. وكانت مصر في منتصف الخمسينات هي نافذتنا المشرعة لإرواء هذا الشغف والصحبة. وكان بالمدينة مكتبة دبورة التي مافرطت في تجارة المطبوع المصري من شيء. فقرأنا معاً رسالة محمود أمين العالم الجديدة والكاتب الجديد لأحمد عباس صالح وسلاسل الكتاب الذهي والفضي التي نشرت أروع القصص المصري قصاره وطواله. ومن ذلك “الشوارع الخلفية” للشرقاوي.
وكان سحر القصة القصيرة قد أخذنا منا. وكان فارس الحلبة يوسف إدريس ولطفي الخولي ومصطفي محمود قبل أن “يتحجب”. وعرفت بصورة أدق محمد صدقي وهو عامل كتب القصة واحتفى به اليساريون وروجوا له. ولا زلت أذكر له قصة عن بقرة الفلاح التي أضطر لذبحها بعد أن انكسرت ساقها كسراً لا برء منه. وتوافر للفلاح لحماً لم يصبه طوال عمره. فأكل منه حتى التخمة . . . ومات منها. واذكر أن محمود العالم، الناقد اليساري الركن، قال له متى أبداً مات فلاح من الشبع. وقد بلغ من حبي لقصصه أن راسلته ورد عليّ بخطاب أنيق حسن الخط أذكر منه قوله إنه سيجتفظ بخطابي كشارة فخر على سترته أو كما قال. وراسل عبد الكريم يوسف شحاته، كاتب مصري آخر، كما ذكرني في زيارتي له قبل أيام وقال إنه احتفظ ما يزال بردوده. بل أخرج من أرشيفه مذكرات عن علم الصحاقة كان يتلقاها من مركز بالقاهرة يدرسه بالمراسلة. وقال عبد الكريم إنه لم يكن يرسل رسوم الدراسة محولة بالبريد كما ينبغي. فقد كان يرمي الشلن والقرش في الخطاب فتبلغ مصر فتصله الدروس حتى أكملها وامتحن ونجح وحاز الدبلوم. وأذكر أن عبد الكريم أغراني بالمركز. فراسلته هوناً وأنصرفت إلى شأن آخر.
لما زرت عبد الكريم، الصديق الجريّ، كان طريح الفراش لكسر في ساقه. واحد. واثنين كان يشكو من أنه النائب الشيوعي في قائمة التجمع الديمقراطي في مجلس تشريعي ولاية النيل الذي منعوه بالحيلة والمكر من احتلال مقعده بالمجلس. وفي هذا صدى باهت أو تافه من طرد نواب الحزب الشيوعي من البرلمان عام 1965. ونأتي على ذكر بعض شجون عبد الكريم في حديث الأربعاء.
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. أيوة كدة يا بروف أو يا ريس، كان ما ريس البلد ريس الكتاب
    سيبك من السياسة ووجع الرأس
    وخليك في الداخلة والخارجة و”أنثربولوجيا السفاسف”
    تريح وترتاح

  2. قصة جميلة و طافت بذاكرتي قصصا من أيام قنص النحاس و يبدو أن لكل سوداني ذاكرة نحاسية و نقول للوزير حسن عبد القادر لا شك أن القول السائد Trash of somebody is a treasure of another فيجب مراجعة القوانين البيئية و تفعيلها بالدرجة القصوى و أتذكر أن البيوت السودانية كانت مليئة بالاواني النحاسية مثل طشت الغسيل النحاسي و ابريق غسيل الايدي مع الصحن و الصبانة و كلها من النحاس الخالص يمرون بها على الضيوف ليغسلوا لهم ايديهم دون تكليفهم العناء بالخروج الى الحوش لغسيل الايدي و كلها اختفت مع صيحات الحلب الذين يظهرون في مواسم الفاقة و عدم التكسب في الريف السوداني و تسمع صيحاتهم .. نبدل النحاس .. يلا علينا نبدل النحاس .. و ما هو العائد شوية حلل و كافتيرات و صحون من الشقيقة الشمالية .. كذلك لا أنسى اختفاء اسلاك التيلفونات في زمن انهيار البريد و البرق و تجد أحيانا البيت مرقةعمود تيلفون و سلك الغسيل من النحاس الى أن هجم عليها الحلبي و عدمها نفاخ النار و هذا ما يعرف في سلسلة الادارة البيئية المتكاملة باعادة الاستخدامREUSE و ما زلت أعتقد أن البيوت السودانية مليئة بالنحاس و الفضة و لا بد من المحافظة و التوعية من أطماع تجار الغفلة و صبيانهم SCAVENGERS قبل أن يسرقوا غاباتناو نغرق في كثبان الرمال

  3. قصة جميلة و طافت بذاكرتي قصصا من أيام قنص النحاس و يبدو أن لكل سوداني ذاكرة نحاسية و نقول للوزير حسن عبد القادر لا شك أن القول السائد Trash of somebody is a treasure of another فيجب مراجعة القوانين البيئية و تفعيلها بالدرجة القصوى و أتذكر أن البيوت السودانية كانت مليئة بالاواني النحاسية مثل طشت الغسيل النحاسي و ابريق غسيل الايدي مع الصحن و الصبانة و كلها من النحاس الخالص يمرون بها على الضيوف ليغسلوا لهم ايديهم دون تكليفهم العناء بالخروج الى الحوش لغسيل الايدي و كلها اختفت مع صيحات الحلب الذين يظهرون في مواسم الفاقة و عدم التكسب في الريف السوداني و تسمع صيحاتهم .. نبدل النحاس .. يلا علينا نبدل النحاس .. و ما هو العائد شوية حلل و كافتيرات و صحون من الشقيقة الشمالية .. كذلك لا أنسى اختفاء اسلاك التيلفونات في زمن انهيار البريد و البرق و تجد أحيانا البيت مرقةعمود تيلفون و سلك الغسيل من النحاس الى أن هجم عليها الحلبي و عدمها نفاخ النار و هذا ما يعرف في سلسلة الادارة البيئية المتكاملة باعادة الاستخدامREUSE و ما زلت أعتقد أن البيوت السودانية مليئة بالنحاس و الفضة و لا بد من المحافظة و التوعية من أطماع تجار الغفلة و صبيانهم SCAVENGERS قبل أن يسرقوا غاباتناو نغرق في كثبان الرمال

  4. كم نحن فى حاجة الى ثرثرة الكتابة…انه الثراء الحقيقى والقول غير المباشر لجميع الحقائق…جميل جدا ياعبد الله على ابراهيم.

  5. ونسة ساكت. حجيتكم ما بجيتكم. أها إستفدنا شنو من الكلام دة. عاوز تحاكي لينا شوقي بدري و لا شنو؟!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..