مع محمد ابراهيم نقد ( كلمة وتحية )

مع محمد ابراهيم نقد ( كلمة وتحية )

خالد بابكر ابوعاقلة
[email][email protected][/email]

يعد من اشهر السياسيين السودانيين , وجاءته الشهرة رغم انه كان بعيدا عنها , ولم يعتل منصبا , وظل عمرا طويلا يعمل في الخفاء حتى ظن بعض الناس انه ذهب بلا رجعة , والعمل في الخفاء قد تناسب مع احداث عصره المضطربة المتقلبة , فقد جرب وعاش اضطرابها داخليا , ورأها وتابعها تضطرب وتتغير وتتبدل في العالم الخارجي , فقد كان من اكبر شهود العصر , وليس ذلك لانه عاش عمرا طويلا مديدا بلغ اكثر من ثمانين حولا , ولكن لان ما يعتنقه من افكار ونظريات قد اثرت في العصر وشكلت احداثه الكبيرة وصراعاته الدامية من افريقيا في الجنوب الى اوربا في الشمال ومن روسيا الى كوبا وامريكا . وكان من شهود ما جرى في السودان قبل وبعد الاستقلال , وليس اقل من ذلك انه شهد السودان موحدا تلك الوحدة الموجعة , وانه شهده منقسما ذلك الانقسام المفجع , وترك الدنيا بعد ذاك والحرب تدق طبولها . كان الناس في سنوات كفاحه الاولى والناس يتعرفون على القيم الاشتراكية ينظرون اليه ويحكمون عليه ويقيسونه بمقدار بعده وقربه من الدين , ثم رأى الناس بعد عقود ما فعل الماسكون بتلابيب الدين والعاصبون عينيه ان يراهم على حقيقتهم او يرى من يطلبون العدالة الاجتماعية واحترام الانسانية , فذهل الكثيرون ممن رأوا الجموع التي اتت الى مقابر فاروق لتلقي عليه تحية الوداع الاخيرة ولتنحني اليه اكبارا واعترافا بانه جسد افضل ما في الدين من الصبر على الابتلاءات والاعتدال والجنوح الى العقل , فتذكر الناس وهم ينحنون به الى مثواه الاخير ? من عاصروا ذاك الزمان ومن قرأوا عنه ? ما حدث لحزبه الذي تفرق شذر مذر , ومزق كل ممزق , واعدم العسكريون من قادته في 1971 والمدنيون , وهاموا في الطرقات , واختبأ من بقي منهم في الكهف سنين عددا , وكان نقد واحدا من الذين نجوا من الموت وتلاشى كالدخان في المنافي السرية , ولخصت تلك المنافي كل شئ في حياته وشخصيته ومبادئه , وظهر جيل جديد من السودانيين لا يعرف عنه الا انه في مخبأ سري وسيظهر في يوم من الايام فأختلط في اذهانهم بالاسطورة الدينية وبذاك الرجل الذي سيخرج حينما يأتي اوانه وينضج اتباعه ويناديه التاريخ .
كان الدين ولا شك يواجه محمد ابراهيم نقد وحزبه في كل خطوة يخطونها وكل خاطرة تخطر لهم , ولا شك ايضا ان الدين كان عاملا من العوامل التي شكلت افكاره وافكار حزبه وشكلت ممارساته وممارسة حزبه السياسي واختباراتهم واختياراتهم في الكفاح في الوصول للشعب والتحدث باسمه , لان البيئة والسكان الذين يتحركون في وسطهم من قرى وحضر لا يعرفون من نظريات سوى ما يأتيهم به الدين , وربما كان هذا هو السبب الذي دعا نقد في حواره مع ضياء الدين بلال في صحيفة السوداني يقول له دون ان يعي او يركز على البيئة وبنية التفكير الديني الذي يعمل في معمعانه : ان الاحداث اليومية شغلتنا عن المضي في نقاش موضوع الدين في الحزب , هذا العيب مستمر الى اليوم , الجانب السياسي هو الطاغي في النقاش ” وربما لان اكبر ما واجهته النظرية الاشتراكية وذلك لانتشارها في مختلف البلدان والثقافات هو المعرفة الدينية فتوافرت ادبيات كثيرة ومتعددة ومؤلفات تناقش تلك الجوانب باستفاضة في روسيا وفرنسا ودول امريكا الاتينية الى جانب الاطروحات العلمية في المعاهد والجامعات واراء المفكرين المحدثين من ثوريين ووجوديين ولغويين بل ان المؤسسيين لنظرية الاشتراكية العلمية ككارل ماركس وفردريش انجلز لم يغفلا الجانب الديني في مراحل تفكيرهما وافردا له جوانب مهمة من اعمالهما خاصة في دراساتهما عن الشرق الاسيوي و المجتمعات القديمة , وركز نقد في حديثه السابق عن السلوك ومعيار الاستقامة والطقوس وذلك لان الحزب الذي ينتمي اليه كان شعبيا متهما في سلوكه او ان الاحزاب المخاصمة له كانت تطرق هذا الجانب كلما نزلت معه في نزالات هي اقرب الى فهم العامة من الناس غير المتخصصين من افكار صراع الطبقات وافكار الديالكتيك وتحولات التاريخ , ولذا وكما جسده المرحوم نقد في حياته حرصت عضوية الحزب على ترقية سلوكها وتشذيب طبائعها والالتزام بما يحث عليه الدين من مكارم الاخلاق والفضيلة والزهد والجنوح الى السلام ومبادئ الديمقراطية اكثر جدا من الاحزاب التي تنادي بالاسلام ولا تهتم بسلوك العضوية بل تضم في عضويتها كل متهم اذا عرفت انه يميل الى العنف ويحلم بحمل السلاح , وتعرف الاحزاب الاشتراكية انها متهمة في دينها , وان الدين سلاح ماض لا يستهان به , ولذلك هي اكثر قراءة له , واكثر استشهادا به , واكثر تحليلا لنصوصه وفهما لحيثياته وتاريخه , واذكر وتلك قصة مضي عليها حين من الدهر وصاحبها قد ذهب الى بارئه راضيا مرضيا وشهيدا كما نرجو له ? ان المرحوم محمد طه محمد احمد وكان متكلما ومناقشا في اركان الجامعة , وكان يأتي اليها دائما بعد تخرجه , انه اتى ذات صباح بعد سيطرة عضوية الاتجاه الاسلامي على اركان النقاش بالسيخ مساء اليوم السابق واصطفوا في صفوف كأنهم عسكر مدربون ورأينا بعض الطلبة الذين كانوا معنا في غرف الداخلية ضمن تلك الصفوف فنادينا عليهم ولكن هل يسمع الصم الدعاء ثم اعتلى المرحوم محمد طه المنبر وتحدث طويلا منتشيا ثم قال وهو يريد ان ينهي حديثه ” نحن نريد امثال هؤلاء ? يعني الذين يحملون السيخ ويضربون اخوتهم من الطلبة ? لا نريد رجلا مهذبا او مفكرا , نحن عاوزين بتاعين الفوضى ديل , ما دايرين زول مؤدب 0000 الخ وفي تلك الايام نفسها سمعنا النبوءة التي تحدث اليوم امام عيننا وذلك ان احد المتحدثين في المنابر المسائية صاح قائلا ” الجبهة الاسلامية ستتفكك ” فصاح احد الواقفين قرب المنبر ” لماذا ؟ ” فقال له المتحدث لانهم لحم راس , فيهم التقي وفيهم اللص 00
يبدو لي ان ذلك الجمع الغفير الذي ذرف الدموع السخينة في المقابر لم يكن يبكي محمد ابراهيم نقد لوحده وانما الحزب معه , ومع الحزب كل تراثهم الفاشل ونكباتهم الكثيرة , فمن فشلوا منهم نكل بهم و اعدموا والنظرية في اوج ذروتها ومن نجحوا منهم لم يحققوا نهضة او صناعة او زراعة بل سجلوا في دفتر التاريخ اسوأ انواع التجاوزات التي يمكن ان تصيبها نظرية وهي تطبق ويعمل بها وما عليك الا ان تقرأ ما كتبه الحاج وراق عن زيارته للاتحاد السوفيتي سابقا و ما رأه في اكبر دولة في التاريخ يحكمها العمال او هكذا يشاع ويقال للناس وكيف تنقلب المبادئ الانسانية الى شر ماحق وكيف ينقلب الملائكة الى كذابين وقتلة , ويبدو لي ان القداسة التي لفت جنازة نقد في مقابر فاروق لا تفسير لها الا بان الشيوعيين السودانيين كانوا ملائكة وهكذا استمروا وبقوا على حالهم دون ان يحصلوا على فرصة كاملة تتيح لهم ان يتحولوا مع السلطة الى ابالسة , ومن مجرد عمال الى اباطرة ينفث الناس ما هم فيه من نعمة ونعيم كما حدث في كثير من الدول العربية حينما عجزوا ان يكونوا انبياء للطبقة العاملة فصاروا لها جلادين يضحكون من ايمانها بصراع الطبقات وبدكتاتورية البروليتاريا وبالملكية العامة لادوات الانتاج ثم حينما انهار الاتحاد السوفيتي بعد الاصلاحات التي قام بها قورباتشوف وكانت تلك الاحزاب تتلقى منه التمويل والتفكير والخطط الى تلك الدرجة التي لم يستطع فيها شيوعي سوداني واحد ان يضيف سطرا يتيما للفكر الماركسي بل كانوا حفظة نصوص في خلاوي موسكو , انهم لضيق ذات اليد , تحالفوا مع الاحزاب الرأسمالية وتلقوا التمويل من امريكا نفسها وتحالفوا مع الاحزاب الاسلامية كما حدث في الاردن وكما يحدث الان من تحالفهم مع المؤتمر الشعبي والاحزاب التي يسمونها ( رجعية ) في السودان . ان الذين تقاطروا ليودعوا نقد كانوا يعرفون ويؤمنون ان الشيوعية بشكلها القديم قد انتهت وان الذين يتصارعون على خلافة نقد انما يتصارعون على مال وليس على فكر وعلى تاريخ ميت وليس على مستقبل حي وعلى هياكل وجيف وحطام وهذا اخر ما تبقى من الشيوعية السودانية ولكن من تراث مؤسسيها الاولين من الاوربيين تبقى اعمالهم الضخمة وكتبهم وتحليلاتهم الرائعة وقوانينهم الاجتماعية صحت ام لم تصح ورؤيتهم للمستقبل وكيفية التحول اليه وما علينا لنعرف اشياء عن القداسة في ضمائرهم وعن تبحرهم في الدين وعن تيقظهم لاهمية بعض الشخصيات التاريخية الا ان نقرأ في كتاب كارل ماركس ( الحياة ) وهو يتحدث عن نبي الاسلام قائلا ” ان الرجل العربي ? أي النبي محمد – ادرك بحدسه الثاقب خطايا اليهودية وعثراتها وخطايا النصرانية , وقام بمهمة تاريخية لا تخلو من الخطر بين اقوام مشركين يعبدون الاصنام لا يبتغون دونها بدلا , يدعوهم لتوحيد الإله , ويزرع فيهم ابدية الروح وخلودها , ليس من حقه فقط ان يعد بين صفوف الرجال العظام وحسب , بل جدير بنا نحن ان نعترف بنبوته العظيمة , وانه رسول السماء الى الارض التي نسكنها . ” ماذا لو سمع النبي محمد ما سمعنا ؟ هل يعتبر من كتب هذا مؤمنا يدخله في زمرة تابعيه ام منافقا ام من المؤلفة قلوبهم يغدق عليه الاموال كما اغدقها على مشركي اهل مكة كأبي سفيان وابنه معاوية ؟ اللهم ارحم محمد ابراهيم نقد رحمة واسعة وادخله في رحمتك وجنتك التي تدخل اليها من تشاء بعلمك وارادتك وانت علام الغيوب تعلم ما في القلوب وتعرف نتائج الاعمال طيبها وخبيثها وارحمنا جميعا اذا ما صرنا الى ما صاروا اليه .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..