ثقافة وآداب، وفنون

بروفايل..  الشاعر محمد الفيتوري درويش أفريقيا الساحر .. غادرنا وقد أضاءَ المصابيح

هناك محطات وقف الفيتوري عندها كان لها الأثر المهم في تشكيل فكره ومنها أفريقيا، العروبة، البعد الصوفي:

كتب عن الحرية والانعتاق ومناهضة القيود والاستبداد والاعتزاز بالوطن:

ركزت تجربته الشعرية على الجوانب التأمُّلِية، ليعكس رؤيته الخاصة المجردة تجاه الأشياء:

الخرطوم: محمد إسماعيل

الميلاد:

من هو محمد الفيتوري الذي يحتفل جوجيل بعيد ميلاده

ولد محمد مفتاح رجب الفيتوري في 24 نوفمبر عام 1936م في مدينة الجنينية بولاية غرب دارفور. والده هو الشيخ مفتاح رجب الفيتوري وهو ليبي، وكان خليفة صوفياً في الطريقة الشاذلية العروسية. نشأ في مدينة الإسكندرية بمصر وحفظ القرآن الكريم في مراحل تعليمه الأولى. ثم درس بالمعهد الديني وانتقل الى القاهرة حيث تخرج في كلية العلوم بالأزهر الشريف. عمل الفيتوري أديباً بالصحف المصرية والسودانية، وعين خبيراً للإعلام بجامعة الدول العربية في القاهرة في الفترة مابين 1968م 1970م. ثم عمل مستشاراً ثقافياً في سفارة ليبيا بإيطاليا. كما عمل مستشاراً وسفيراً بالسفارة الليبية في بيروت ومستشاراً لللشؤون السياسية والإعلامية في المغرب.

ويعد الشاعر الراحل من رواد شعر التفعيلة في العصر الحديث حسب النقاد، وتميل كتاباته إلى التصوف إننا نجد الفيتوري المتعلق بصوفيته يسخر هذه التجربة في خدمة النص الشعري بمعنى أن الفيتوري قد مزج بين التجربتين الصوفية والفنية، ذلك لأن التجربة الفنية تنتج وجوداً يوازي الوجود المادي ويثريه، بينما تكون التجربة الصوفية حالة الفناء التي ينعدم فيها الوجود المادي من بدايتها الى نهايتها.

في رائعة (ياقوت العرش) والتي نسب اسمها لزاهد من أصحاب (أبي العباس المرسي) يكتب بروح صوفية كامنة تتخلى عن كل طمع بسلطان.

 تاج السلطان الغاشم تفاحة

تتأرجح أعلى سارية الساحة

تاج الصوفى يضئ على سجاده قش

صدقني ياقوت العرش

إن الموتى ليسو هم هاتيك الموتى

والراحة ليست هاتيك الراحة

الجوانب التأملية:

 ..ويعتبر جزءاً من الحركة الأدبية العربية المعاصرة، وهو من رواد الشعر الحر الحديث، ففي قصيدة «تحت الأمطار» نجده يتحرر من الأغراض القديمة للشعر كالوصف والغزل، ويهجر الأوزان والقافية، ليعبر عن وجدان وتجربة ذاتية يشعر بها وغالباً ما يركّز شعره على الجوانب التأملية، ليعكس رؤيته الخاصة المجردة تجاه الأشياء من حوله مستخدماً أدوات البلاغة والفصاحة التقليدية والإبداعية، ففي قصيدة «معزوفة درويش متجول» يقول الفيتوري:

في حضرة من أهوى عبثت بي الأشواق

حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق

وزحمت براياتي وطبولي الآفاق

عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق

مملوكك لكني سلطان العشاق.

هناك محطات وقف الفيتوري عندها كان لها الأثر المهم في تشكيل فكره ومنها أفريقيا، العروبة، البعد الصوفي أفريقيا المشهد الذي استوقف الشاعر طويلاً إنها محنة الإنسان الأفريقي المستعبد وتمرده ونضاله الباسل ضد المحتل الأبيض. والفيتوري بهذه الصرخات الأفريقية أراد أن يكون محامياً لقارته السوداء وهو أول من غنى في العربية لأفريقيا وعلاقة الحرية بالرؤية الأفريقية شديدة الالتحام.

منذ ديوانه الأول (أغانٍ إفريقية) 1955م، أدان الفيتوري بشدة استعباد (الأبيض) لأخيه الإنسان (الأسود). والواقع أن إدانة الاستعباد في شتى صوره ونماذجه كان وسيظل من أهم المبادئ التي كرّس لها الفيتوري رسالته الشعرية، فلا تكاد تخلو قصيدة لديه من التصريح أو الإشارة أو التضمين إلى بواعث الاستعباد البشري، ومظاهره، وسوءاته على مختلف المستويات: استعباد الفرد للمجتمع، واستعباد المجتمع للفرد، واستعباد المجتمع للمجتمع.

ويعتبر أيضاً أحد الذين قادوا حركة الشعر على مدى خمسين عاماً، وقد عبرت دواوينه وخاصة الأولى منها عن جانب يتميز به عن غيره من الشعراء، حيث احتفى بالبعد الأفريقي في شخصيته وشعره فكتب ديوانه (أغاني أفريقيا)، 1956 و(عاشق من إفريقيا)، 1964 وكذلك (اذكريني يا إفريقيا)، 1965 كما كتب مسرحية (أحزان إفريقيا).

وكتب الفيتوري عن الحرية والانعتاق ومناهضة القيود والاستبداد والاعتزاز بالوطن منذ بداياته الشعرية ففي قصيدة «أصبح الصبح» والتي تغنى بها الفنان محمد وردي.

آلام الغربة:

عاش الفيتوري غريباً عن أرضه التي ولد فيها، لكن آلام الغربة لم تثبط من عزيمته، بل زادته تحدياً وإصراراً فوقف في وجه الحياة هازئاً من كل شيء ثائراً على كل شيء لا يعجبه حتى كان له ما أراد وقد صدقت نبوءة والده الذي قال له يوماً: (إن نجمك سينتشر ولست أدري ما ستكون في المستقبل أحاكماً أم رجل دين أم أي شيء آخر).

عبر الفيتوري خلال رحلته عن وجدان وتجربة ذاتية يشعر بها، وركزت تجربته الإبداعية على الجوانب التأملية، ليعكس رؤيته الخاصة المجردة تجاه الأشياء من حوله مستخدماً أدوات البلاغة والفصاحة التقليدية والإبداعية.

إطلالته كانت مع الشعر العربي الحداثي أن شعر الفيتوري يتجرد من الأوهام والأحلام لأنه يعبر عن هموم وشجون العالم العربي ويعتبر واحد من الشعراء الكبار في العصر الحديث وأنه واحد من المغنين في قافلة الشعر لمصر الذين اختلطت في شرايينهم وفي دواوينهم مختلف النزعات والأعراق والتيارات الواقعية والصوفية والرمزية. كما التحم نموذج القصيدة العمودية بنموذج الشعر الحر وأن دواوين محمد الفيتوري تحتشد جميعها بالنموذجين مكتماين ومتفاعلين في تأكد انتصار الشعر الحقيقي وتوهجه في القوالب والأشكال.

يعتبر الفيتوري جزءاً من الحركة الأدبية المعاصرة ففي قصيدته (تحت الأمطار) نجده يتحرر من الأغراض القديمة للشعر كالوصف والغزل والأوزان والقافية ليعبر عن وجدان وتجربة ذاتية يشعر بها وغالباً ما يركز في شعره على الجوانب التأملية ليعكس رؤيته الخاصة.

ففي قصيدته (معزوفة درويش متجول) يقول:

في حضرة من أهوى عبثت بي الأشواق

حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق

وزحمت براياتي وطبولي الآفاق

عشقي يفني عشقي وفنائي استغراق

مملوكك لكني سلطان العشاق.

رسالته الشعرية:

للهم العربي أيضاً مكانة في أعمال الفيتوري من خلال تناوله للقضايا العربية وخاصة القضية الفلسطينية فقد تنقل الفيتوري بين العديد من بلدان الوطن العربي ومدنه من الإسكندرية وحتى الخرطوم ومن بيروت ودمشق حتى بنغازي وطرابلس وقد انطلق الشاعر في جل معالجاته من واقع مأزوم ومهزوم سيطر على الشاعر وبالتالي على معجمه اللغوي فكان معجمه تعبيراً عما يعانيه وكان استخدامه للغة سهلة والتي جاءت نتيجة لنزعة الشاعر الواقعية استحقاقاً لمقتضيات الواقع وانغراساً في هموم الأمة.
إن الفيتوري شاعر استطاع أن يتبث وجوده من خلال إيمانه بقارته السوداء ومبادئ سار عليها وتوظيفه للرموز بطرق قصصية مبدعة فمن قد عاش وعاصر الكثير من الأحداث والوقائع التي تجعله كفيلاً أن يكون شاعراً يطبق ما يؤمن به..

(نهَر فاغتسل

يا أيها المغتسل

آية العاشق الفرد أن يمتثل

ولقد يصل الماء، أو لا يصل

والمدى نجمة في المدى ترتحل

فاسقهم منك في روحهم تشتعل

وامش تحت حوائطهم .. تكتمل)

تبقى مسألة أخيرة وهي التي تتعلق بمقدرة الفيتوري على كتابة القصيدة الخاصة به في أي من القالبين: العمودي والحر.. وهو عندما يكتب القصيدة العمودية يبدو متمكناً غاية التمكن، ومسيطراً على أدوات هذا النمط الصعب، والذي يعمل هو نفسه على أن يزيده صعوبة، من خلال اختياره للبحور الصعبة، والقوافي غير المطروقة.

مثل صانع المنمنمات في خان الخليلي بالقاهرة، يعكف الفيتوري على صياغة مفردات صوره الشعرية بدءاً من تكوين (أوصاف) تخلع على الجماد طابع الحياة، أو تضفي على الأحياء خصائص الموت أو يعطيها لوناً حيث لا مكان في العادة لقبول اللون. ومن ذلك: (القمر الميت – الوتر الخجول – النحلة الذهبية – الياقوتة الميتة – الدجى الأبنوسي – الشتاء الرمادي – الأفق الأرجواني – السكون الجليل – البرق الملثم)

ويقول في قصيدة: (ليس في الياسمينة غير البكاء):

مثل أرملة العرس،

أسدلت النحلة الذهبية أهدابها

وهوت مطراً ناعماً

في بكاء الغصون.

ليس في الياسمينة غير البكاء

في بهوٍ سيدة القلب نافورة،

ومغنٍ حزين!

الخصوصية في شعره:

ومن العلامات الفارقة في قصائد الفيتوري أنه تمكن من تجاوز مرحلة الغنائية، خصوصاً في قصائده المتأخرة.. وهي غنائية كادت  تصل بشعره إلى المباشرة أو ما نطلق عليه (الخطابة)، وهذا التجاوز أسهم في ارتياده لغة شعرية تتبع أساليب تصويرية عدة، متناغمة مع تلك المفردات التي كانت مصاغة بأساليب شعرية، تترابط فيها التعابير والصور بأشكال متلاحقة ومتجددة، ومن ثم فقد أخذت هذه القصائد شهرتها، وذاع صيتها بين العامة والخاصة، وعرفت طريقها إلى أقلام النقاد والباحثين.

الملايين أفاقت من كراها..
ما تراها.. ملأ الأفق صداها
خرجت تبحث عن تاريخها…
بعد أن تاهت على الأرض وتاها..

الصور الشعرية التي وضعها الفيتوري في قصائده، دائماً ما كنت أراها مثالاً للشاعرية، التي تعبر بصدق عن إنسان ينشد الخلود لقصائده، ويحاور مشاعره من أجل أن يصل إلى روح الحياة بما فيها من مؤثرات إنسانية مختلفة.

فعاشق أفريقيا يقول:
لا شيء في يدي
لا شيء في فمي
إلا بقايا مقطع قصير
أعزفه بخجل على الورق)

والفيتوري مثال جيد، يجب أن يتخذه الأدباء الشباب قدوة لتجاربهم الشعرية من أجل الوصول إلى قصيدة تخاطب الحياة وتبحث عن المعاناة بصور شعرية جذابة ومتماسكة في بنيتها ومفرداتها.

اليوم التالي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..