التشكيلي السوري أيسم العبود: تصوير الموت من أكبر التحديات التي يواجهها الرسام

برلين ـ من محمد سامي حبال:

أم تغطي ابنها لكي ينام، وهي تدرك تماماً أنه سيفارق الحياة بعد دقائق. إحدى اللوحات المؤلمة التي توسطت صالة ?البيت العربي? في برلين، في معرض للفنان السوري أيسم العبود، ويحمل عنوان ?حريتنا ما بين رسوم البالغين وريشة الثائرين?.
فكرة المعرض بسيطة، وفهم لوحاته، البالغ عددها 24، ليس صعباً، بخاصة وأنها رُسمت بعفوية ابن حوران، فبعضها من وحي الثورة ورمزيتها، وبعضها لمشاهد حقيقية عايشها العبود، والتقى بأبطالها على أرض الواقع.
بعض لوحات العبود، الذي كان قبل الثورة السورية أستاذ فنون جميلة في مدينته درعا، يعرض إجابات لأسئلة، والبعض الآخر يطرح تساؤلات؛ ففي إحدى اللوحات مثلاً يظهر مسجد وكنيسة وقد لحق بهما الدمار على حد سواء، فهنا التساؤل المطروح هو ?لماذا تعطى صفة الطائفية على ثورتنا دون الثورات الأخرى،? بالرغم من أن النظام السوري يقتل من جميع الطوائف دون استثناء. ?أردت إظهار أن الثورة السورية ليست طائفية، بل هي ثورة حرية تخص مجتمعاً مغيباً عن الحياة، كان يسعى لنيل جزء من الحرية، وهو الآن، بجميع طوائفه وأطيافه، يريد حريته كاملة?.
جميع اللوحات رُسمت باستخدام تقنية الظل والنور بالاستعانة بقلم الرصاص، الذي لم يأت اختياره عن عبث، فالرصاص هو رمز للغة القتل، ولكنه في الوقت ذاته رمز للغة مخاطبة الآخرين. وقد اختبر العبود اللغتين معاً، بصفته مدرس فنون جميلة ومقاتل، فعندما اضطرت الثورة للتسلح لم يكن أمام العبود خيار آخر سوى حمل السلاح، وأصبح قائداً ميدانياً لإحدى الكتائب المقاتلة في الجنوب السوري وانخرط معه ابنه البكر في الكفاح المسلح. حينها لم يتخيل أيسم على الإطلاق أن يعود للرسم. في تلك المرحلة كان النظام السوري مصماً آذانه ومغمضاً عينيه، وكان مجرد آلة تدمير. حينها وصل العبود إلى قناعة أن الرداع الوحيد له هو السلاح.
لكن إصابة في ذراعه اليمنى في إحدى المعارك، أبعدته عن ساحة المعركة، واستقبلته ألمانيا في مطلع العام الماضي ليتلقى فيها العلاج. رفض أيسم العبود أن يكون عاجزاً، فقرر أن يتحدى جميع المصاعب ويذللها، فعاد بيسراه للرسم ثانية، ولكن هذه المرة لم يكن الهدف تعليم الأطفال، بل أراد إيصل رسالة أن الإنسان غير عاجز، وبالإمكان إيصال كل فكرة إلى أي إنسان من خلال الرسم.
يقول العبود: ?ما شجعني على إقامة المعرض هو أنه أثناء إقامتي في المشفى شاهد كل من كان على احتكاك مباشر بي هناك بعض لوحاتي، فلاحظت أن فهمهم كان سريعاً جداً، وكانت قراءتهم للوحاتي شبه كاملة، فكان الرسم لغة بسيطة جداً ومعبرة، بين الثورة وبين الشعب الألماني، الذي يعتبر بعيداً جداً عن الواقع الذي يحدث في سوريا?.
رغبة ابن الرابعة والأربعين عاماً في تسليط الضوء على أكبر قدر ممكن من أحداث الثورة، جعلته يتطرق إلى مواضيع متعددة. ونجح في التلاعب ببراعة بتباين اللونين الأبيض والأسود، ففي اللوحاته التي تعكس المعاناة والحزن والألم يصبح لون الرصاص الأسود داكناً وكثيفاً وثقيل الظل، وعندما يتعلق الأمر بالأمل والفرح والنصر تزداد المساحات البيضاء وتصبح خطوط الرصاص أكثر تموجاً وانسيابية وأقل صرامة.
وقد هيمنت المرأة على معظم اللوحات، فقد أراد أيسم إبراز دورها كنواة للثورة السورية، فهي الحالة الأصعب في خضم الظروف الراهنة، ?فهي أم أو زوجة أو شقيقة شهيد، وبالتالي فإن المرأة السورية فقدت بشكل أو بآخر شخص تعرفه، إذن فهي من مني بأكبر الخسائر?.
إحدى تلك الشخصيات هي لأم وطفلها، والتي يروي العبود قصتهما بكلام تخرج كلماته متقطعة من فمه وهو يحاول أن يتمالك أعصابه، فيقول: ?أثناء اقتحام النظام لأحد الأحياء تأخرنا في الوصول المكان بسبب عدة عوائق. وعندما وصلنا رأيت مشهداً مؤلماً لن أنساه ما حييت، أم تحتضن طفلها الذي ينزف بغزارة شديدة، وتحاول أن تجعله ينام. كانت تبدي له مشاعر وكأنها فعلاً تريده أن ينام، دون أن تظهر له مشاعر الخوف؛ فقد حاولت أن تريه وجهها الذي لطالما اعتاد رؤيته عندما كان يأوي للنوم، فكانت تقول له: (نام، الجيش الحر راح يحمينا. الجيش الحر موجودين ورايحين ينقذوك، أنت بس غمض عيونك ونام). المأساة أنه نام فعلاً ولن يستيقظ مرة أخرى. وعندما أدركت أنه استشهد، انفجرت الأم بالبكاء بعد أن ودعته وهو ينام?. هذا المشهد المؤثر حوّله العبود إلى لوحة حزينة، ?قد لا أكون قد أعطيت الصورة حقها، ولكني رسمتها من الزاوية التي رأيتها منها?. ويتابع متوعداً: ?لا يمكن أن أغفر للنظام، وأعتبر أن كل من يقف إلى جانب النظام هو المسؤول عن قتل هذا الطفل، وهو المسؤول عن قتل تلك الأمومة?.
وراء كل لوحة قصة، وغالباً ما تكون مريرة وتنتهي بالموت، فهي لوحات لأناس رحلوا وزرعوا خلفهم ألغام الذكريات، التي ينفجر أحدها في كل مرة يتجرأ المرء على النظر إلى صورهم. وهنا يقر أيسم العبود أنه حاول تجنب رسم الموت، ?فكل المشاهد التي سبق أن رأيتها أو اللحظات التي عايشتها تعود أثناء رسم الموت?، كما يقول العبود. لذا كان رسم الموت حتمياً لطالما بقي الموت الصديق الوفي الوحيد للثورة السورية، ولازمها منذ فجر ولادتها. أناس رحلوا وزرعوا خلفهم ألغام الذكريات.
إحدى لوحات المعرض بورتريه لشاب وسيم في منتصف العشرينات اسمه بلال، يعانق بندقيته وعيناه تشعان حيوية ورجولة. إنه شاب من الجيش السوري الحر، لقد كان رسمُ تقاسيم وجه بلال من أصعب التحديات التي واجهت العبود، فليس من السهل أن يرسم أب صورة ابنه البكر الراحل.
وعن دور الفن عموماً في مواكبة الثورة السورية يرى أبو بلال أنه عندما يعجز الكلام عن الوصف، عندها يأتي دور الفنان، فكل فنان في العالم هو شاهد على المرحلة التي يعيشها، لإعطاء صور واقعية لما حدث، إذ تعيش اللوحات أمداً طويلاً، وللوحة تأثيرها بغض النظر عن الزمان والمكان، سواء شاهدتها أثناء الثورة أو في أزمنة لاحقة، فهي ستقرأ بالمشاعر التي تحتويها سواء كانت مشاعر فرح أو حزن، ولا تتغير مهما تغيرت العصور.
كما أن تلك الصور ? حسب العبود ? قد تشكل رادعاً لخصمك عندما يراها في مرحلة لاحقة. وقد تؤثر فيه أكثر من الرصاص. وإن لم تكن كذلك فإن الصور تشكل إحدى الطرق لإيصال الحقيقة للآخرين عبر العصور.
وفي السياق ذاته يصب رأي المفكر السوري صادق جلال العظم، والذي كان من ضمن الجمهور الذي حضر معرض العبود في برلين، ?فللمرة الأولى في تاريخ الحركات الشعبية والاحتجاج السياسي والمدني في المنطقة العربية يلعب الفن بكافة أشكاله دوراً مهماً، ويصبح له صدى عالمي?.
وبالفعل نجح العبود في إيصال رسالته إلى زائر معرضه، الذي يغادره وعلامات الحزن بادية على ملامح وجهه، فليس هناك أصعب من وصف صورة بالجميلة، وهي لأم تغطي ابنها لكي ينام، وهي تدرك تماماً أنه سيفارق الحياة بعد دقائق.
كاتب سوري مقيم في ألمانيا
القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..