مقالات سياسية

حكم قضائي في الارجنتين يصف الانقلابات العسكرية بالقانونية

صار العالم، بعد تقدم وسائل الاتصال قرية صغيرة. أهم سماتها ان الشعوب صارت تتعرف وتراقب، عن كثب، وبصورة دقيقة، ما يجري في الأقطار الأخرى.  هذه المعرفة اللصيقة، لتلك التجارب، تجعلنا نعرف كيف نجحت تلك الشعوب أو فشلت في علاج مشاكلها. ذلك الأمر يراكم خبراتنا ومعرفتنا في كيفية تخطي العقبات، إذا واجهنا معضلات شبيهة. لذلك يجِب أنْ نتعلّم من تجارب الآخرين، أي أنْ نتعلّم ألّا نرتكِب ذات الاخطاء والخطايا، لا أنْ نرتكب اخطاء مماثلة ُثمّ نبذل طاقات كبيرة في البحث عن الحل. انطلاقا من ذلك الفهم، أبدا سلسلة مقالات، تعرض، باختصار شديد، ملامح من تجارب الشعوب الأخرى. بدأ المقال الاول بتجربة جنوب افريقيا، وكيف تخطت كل الام ومرارات جرائم الفصل العنصري، لتبني ديمقراطية حقيقية. ونعرض الثاني لتجربة شيلي، مع التأكيد اننا لا ندعو لنقل أي من التجارب التي نقدمها حرفيا، لكننا ندعو لاستيعاب جوهر الدروس التي تقدمها لنا. وأشكر القراء على ملاحظاتهم القيمة، التي استفيد منها كثيرا، فقط اود أن أشير ان هذه المقالات مكرسة لتجارب التحول الديمقراطي وانهاء حكم العسكر، ولا تفهم الحرب الكارثية بمعزل عن محاولات تعطيل التحول الديمقراطي في بلادنا.

عرفت الارجنتين، التي حصلت على استقلالها من اسبانيا عام 1810. سيطرت اقلية من أصحاب الملكيات الزراعية الكبيرة على الحياة السياسية.  شهدت البلاد، منذ ثلاثينات القرن العشرين ست انقلابات عسكرية. وكان أهمها انقلاب 1930 الذي قاده جناح يميني داخل الجيش وانقلاب 1943 ضد الانقلاب اليميني. والغريب حقا انه صدر حكم قضائي في 1930 يصف الانقلابات بانها قانونية، لأنها تحمي أرواح الناس وممتلكاتهم في حالة انهيار النظام.

شكل الجنرال بيرون، كان أحد قادة انقلاب 1943، تحالف بين مجموعة من الضباط ونقابات اشتراكية وبعض الشيوعين باسم حركة العمل القومية. دعمت الطبقات العاملة هذا التحالف، وسمي الاتجاه بالبيرونية. وعندما أجريت انتخابات حرة في 1946 فاز بيرون. وشهدت فترة حكمه (1946 -1955) نجاحا اقتصاديا وتحسنا في أوضاع الطبقات العاملة، كما أمم البنك المركزي وخدمات الكهرباء، والغاز، والمواصلات، والاتصالات. لكن انقلابا عسكريا أطاح به قبل ان يكمل فترة حكمه الثانية. قام النظام العسكري بمطاردة أنصار بيرون بعد ان حل حزبهم. ثم أجريت انتخابات غير حرة وتحت اشراف الجيش اللصيق، وصل فيها رئيس مدني للسلطة، أطاح به انقلاب عسكري في 1966.

كان نمط التدخل العسكري قبل 1966 يقوم على التدخل السريع وسط أزمات سياسية واقتصادية، ثم تسليم السلطة الى المدنيين.   أما بعد انقلاب 1966، فلم يسم الجيش حكمه” الحكم الانتقالي” كما درجت الانقلابات السابقة، بل شكل حكما دائما، أطلق عليه “الدولة البيروقراطية التسلطية”. وهو شكل من أنظمة الحكم كان سائدا في دول أمريكا اللاتينية مدعوم من الولايات المتحدة. واتسمت الفترة بتنافس الجنرالات حيث حكم من 1966 – 1973ثلاثة جنرالات. وتميزت الفترة باندلاع حرب عصابات، وتصاعد الغضب الشعبي على العسكر.

أدى تصاعد الغضب الشعبي لاضطرار الجنرالات تنظيم انتخابات منع بيرون من الترشيح، لكن فاز فيها مرشح الحزب البيروني واستلم الرئاسة في 1973، ثم استقال ليسمح بانتخابات جديدة فاز فيها بيرون، ولكنه مات بعد سنة واحدة. ثم تكرر تدخل العسكر بانقلاب جديد. وشن النظام حملة قمع واسعة ودموية، عرفت باسم الحرب القذرة، اذ اختفي عدد من المواطنين يقدر بما بين 10 و30 ألف انسان، وجدت بقاياهم في مناطق نائية لاحقا.

لم يستتب الامر للعسكريين طويلا، فعلى الرغم من قمع اتحادات العمال بشدة، فان العمال بدأوا مقاومة قوية مع بداية ثمانينات القرن الماضي. وشملت المعارضة حركة قوية سميت ” حركة أمهات المختفين قسريا”. دخل العسكر حربا في جزر الفوكلاند على امل ان يستعيدوا قدرا من الدعم الشعبي. لكنهم تعرضوا للهزيمة.

كانت الهزيمة العسكرية نقطة فاصلة، اذ أدرك العسكر صعوبة استمرارهم في السلطة مع الغضب الشعبي والهزيمة. تمت مفاوضات مع المدنيين نتج عنها تنظيم انتخابات عامة، فاز فيها رئيس له تاريخ طويل في الدفاع عن حقوق الانسان. ورغم الاستقرار الاقتصادي والسياسي، الا ان علاقة السلطة بالعسكر ظل يعتريها الكثير من الازمات. والاهم انه تمت محاكمة عدد من الجنرالات على جرائمهم. كما صدرت عدد من القوانين التي تنظم العلاقات المدنية العسكرية.، وتم تنفيذها رغم محاولات العسكر لمقاومتها.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..