سدود أثيوبيا وملف نزاعات مياه النيل 3 ? 3 … اا

سدود أثيوبيا وملف نزاعات مياه النيل 3 ? 3 …

هذه هي المقالة الثالثة و الأخيرة من هذه السلسلة.

د. سلمان محمد أحمد سلمان
[email protected]

1
تناولنا في المقال الأول من المقالين السابقين الوضع المائي في أثيوبيا وأوضحنا أنه رغم أن أثيوبيا تُعتبر من الدول الغنية مائياً إلاّ أن مواردها المائية تواجه مجموعةً من التحديات الصعبة أبرزها التغييرات المناخيّة والتباين الزماني والمكاني للأمطار والتي تسببّت وتتسبّب في الجفاف والفيضانات، والزيادة الكبيرة للسكان خلال الخمسين عاماً الماضية والتي أوصلت سكان أثيوبيا إلى 88 مليون هذا العام. ومن ضمن التحديات أيضاً أن الإثني عشر نهراً التي تبدأ في أراضيها تعبر حدودها إلى دولٍ أخرى وتصبح أنهاراً دولية تتشارك وتتنافس في استعمالاتها هذه الدول.وأوضحنا أيضاً أنه يمكن تقسيم الإثنى عشر نهر إلى أربعة منظومات نهرية هي:
(1) نهر أواش
(2) منظومة أنهر وابى شبيلى وجوبا وغينالى
(3) نهر أومو،
و(4) منظومة النيل.
وأوضحنا في المقال الثاني أن انشغال أثيوبيا بحروبها الخارجية والداخلية وظروفها الاقتصادية السيئة وقلّة التمويل الخارجي بسبب هذه الظروف حدّت من آمالها في تنمية طاقتها الكهربائية خلال القرن الماضي، واكتفت أثيوبيا ببناء عددٍ قليل من السدود الصغيرة خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، معظمها على نهر أواش. واشتملت تلك السدود على سد كوكا (أو ما يَعرف بـ كوكادام) لتوليد 40 ميقاواط، وعلى سدّى أواش الثانى وأواش الثالث (وكلُ منهما يُولّد 32 ميقاواط)، وكذلك سد أبا صمويل. وناقشنا كيف تغير الوضع في بداية هذا القرن عندما توقفت الحروب وبدأت أثيوبيا في تخطيط وتنفيذ برنامجٍ تنموي طموح ركيزته الأساسية الطاقة الكهربائية المُولّدة من الأنهار الأثنى عشر بأثيوبيا، يساعدها في ذلك علاقاتها الجديدة والجيّدة مع الدول الغربية وارتفاع أسعار البُّنْ الأثيوبي عالمياً والنمو المتزايد للاقتصاد الأثيوبي وكذلك الدراسات التي أشارت إلى وجود كمياتٍ ضخمة من الغاز الطبيعي في إقليم الأوغادن في أثيوبيا، إضافةً إلى ظهور جمهورية الصين الشعبية كمستثمرٍ وممولٍ وبانٍ للسدود ومتلهفٍ للموارد الطبيعية خصوصاً في أفريقيا.
2
تحدثنا في المقال السابق أيضاُ عن سدود أثيوبيا على نهر أومو، وذكرنا أن أثنين من هذه السدود قد اكتملا ويولّدان حوالي 600 ميقاواط، وأن العمل جارٍ في السد الثالث لتوليد 1,870 ميقاواط، وأن هناك سدّين آخرين تحت الدراسة يُتوقع أن يولّدا حوالي 2,000 ميقاواط.
كما ذكرنا في المقال السابق فقد كان أول السدود التي بنتها أثيوبيا على منظومة النيل هو سدّ فينشا وهو سدٌّ صغير تمّ بناؤه عام 1973 على نهر فينشا، أحد روافد النيل الأزرق الذي يُعرف في أثيوبيا بنهر أبّاى، ويُولّد السد حوالي 100 ميقاواط من الكهرباء. وقد قامت أثيوبيا ببناء سدّ تكزّى على نهر تكزّى (نهر عطبرة) وهوسدٌّ ضخم يبلغ ارتفاعه حوالي 188 متراً اكتمل العمل فيه عام 2010 ويُولّد المشروع حوالي 300 ميقاواط من الطاقة الكهربائية. المشروع الثاني الكبير هو سدّ تانا بيليس الذي يقوم بتحويل مياه من بحيرة تانا لنهر بيليس (أحد روافد النيل الأزرق) وبناء محطة لتوليد الطاقة عند مكان التقاء نقطة التحويل بالنهر. بدأ العمل بالمشروع في عام 2004 واكتمل في عام 2010. ويقوم المشروع بتوليد حوالي 460 ميقاواط من الطاقة الكهربائية. بالإضافة إلى هذه السدود فهناك مشروعا تِس أبّاى الأول والثاني اللذان يقومان بتوليد حوالي 90 ميقاواط من الطاقة الكهربائية من اندفاع المياه عبر الشلالات عند مخرج النيل من بحيرة تانا.
هذا يعنى أن السدود والمشاريع التي اكتمل بناؤها على منظومة النيل تقوم الآن بتوليد حوالي 950 ميقاواط من الطاقة الكهربائية.
بالإضافة إلى هذه المشاريع فقد أعلنت الحكومة الأثيوبية خلال الأسبوع الأخير من شهر مارس أنها تنوى خلال الأسابيع القادمة البدء في بناء سد بنى شنقول، أو ما يُعرف الآن بسدّ الألفية العظيم، على نهر أبّاى (النيل الأزرق) حوالي 40 كيلومتر من الحدود مع السودان. ويُتوقع أن يقوم هذا السدّ بتوليد 5,250 ميقاواط من الطاقة الكهربائية عند اكتماله بعد أربع إلى خمس سنوات من بدء التنفيذ حسب بيان الحكومة الإثيوبية. وبالطبع هذا سدٌّ ضخمٌ بكل المقاييس، إذ تساوى الطاقة المتوقع إنتاجها ثلاث مرات الطاقة المُولّدة حالياً في أثيوبيا وحوالي ثلاث مرات الطاقة المُولّدة من السد العالي. ويُتوقّع أن يحجز السد عند اكتماله حوالي 62 مليار متر مكعب من المياه، وهذه الكمية تساوى تقريباً ضِعف كمية مياه بحيرة تانا وأقل بقليل من نصف مياه بحيرة ناصر. أشارت أثيوبيا إلى أن التكلفة الإجمالية للمشروع تبلغ حوالي 4,8 مليار دولار وأن الحكومة الإثيوبية ستقوم بتمويل المشروع من مواردها ومن خلال إصدار سندات للإثيوبيين. ولم تُوضِّح بيانات الحكومة الأثيوبية إن كانت جمهورية الصين الشعبية أو شركة سالينى الإيطالية للمقاولات سيكون لها دور في تنفيذ أو تمويل المشروع كما حدث في بعض مشاريع السدود الكبيرة السابقة في أثيوبيا. ويُتوقع أن تقوم منظمات المجتمع المدني المعنية بالبيئة بمعارضة هذا المشروع الضخم لنفس الأسباب التي عارضت بسببها مشروع غيلغيل غيبي للطاقة الثالث، كما ناقشنا سابقاً .

قبل الإعلان عن هذا المشروع كانت الدراسات تسير في مراحل متباينة في أكثر من17 مشروع لتوليد الطاقة الكهربائية من مياه الإثنى عشر نهراً في أثيوبيا. وتشمل هذه الدراسات ثمانية سدود كبيرة على منظومة النيل هي:
(1) السد الحدودي: ويقع على نهر أبّاى (النيل الأزرق) على بعد حوالي 20 كيلومتر من الحدود مع السودان. ويتوقع أن يُولّد هذا السد حوالي 1,780 ميقاواط من الطاقة الكهربائية. ولم يوضّح الإعلان عن سد الألفية العظيم إن كان السدان سيُبنيان أم أن سد بنى شنقول هو بديل للسد الحدودي.
(2) سدّ كارادوبى: على نهر أبّاى (النيل الأزرق) لتوليد حوالي 1,700 ميقاواط من الكهرباء بالإضافة إلى مشروع ري.
(3) سدّ ميندايا: على نهر أبّاى (النيل الأزرق) لتوليد حوالي 1,700 ميقاواط من الكهرباء.
(4) سدّ مابيل: على نهر أبّاى (النيل الأزرق) لتوليد حوالي 1,440 ميقاواط من الكهرباء.
(5) سدّ دوبَس: على نهر دوبَس وهو أحد روافد نهر أبّاى (النيل الأزرق) لتوليد حوالي 740 ميقاواط من الكهرباء بالإضافة إلى مشروع ري.
(6) سدّ ديدسّا: على نهر ديدسّا وهو أحد روافد نهر أبّاى (النيل الأزرق) لتوليد حوالي 300 ميقاواط من الكهرباء.
(7) سدّ بارو: على نهر بارو (السوباط في جنوب السودان) لتوليد حوالي 800 ميقاواط من الكهرباء.
(8) سد بِربِر:على نهر بِربِر وهو أحد روافد نهر بارو (السوباط في جنوب السودان) لتوليد حوالي 470 ميقاواط من الكهرباء.

3
يتضح من العرض أعلاه أن أثيوبيا قد شرعت في برنامجٍ ضخمٍ وطموحٍ لتوليد طاقةٍ كهربائية هائلة الحجم. وإذا قُدّر لأثيوبيا أن تّنْجِز هذا البرنامج أو حتى جزءٍ منه، فإنّ هذه المشاريع عند اكتمالها ستجعل من أثيوبيا قوةً إقليمية في الطاقة الكهربائية. وقد أعلنت المؤسسة الإثيوبية للطاقة الكهربائية الشهر الماضي أنه بنهاية عام 2015 فإن المؤسسة تتوقع أن يكتمل بناء ثمانية مشاريع للطاقة الكهربائية وأن تُولّد هذه المشاريع مجتمعةً حوالي 5,000 ميقاواط من الكهرباء. إذا أضفنا إلى هذا احتمال أن يكتمل سد الألفية العظيم بعد خمسة أعوام كما ذكرت الحكومة الأثيوبية فإن إنتاج أثيوبيا من الطاقة الكهربائية سوف يصل إلى أكثر من 10,000 ميقاواط بحلول عام2017.

ماذا ستفعل أثيوبيا بكلّ هذه الطاقة الكهربائية؟
ظلّت أثيوبيا حتى بداية هذا القرن من أقل الدول إنتاجا واستهلاكاً للكهرباء في العالم فقد كان إنتاجها لاستعدى 500 ميقاواط لقرابة الستين مليون نسمة في أثيوبيا في ذلك الوقت. وحتى بعد زيادة توليد الطاقة الكهربائية من المشاريع التي أشرنا إليها آنفا فإنه في عام 2005 كان حوالي 85% من سكان أثيوبيا بدون خدمات كهربائية، ولم تكن أثيوبيا قد استغلت أكثر من 2% من الطاقة الكهربائية المتاحة والبالغة حوالي 45,000 ميقاواط. أضف إلى هذا النمو المطرد في الاقتصاد الأثيوبي والذي ظلّ في حدود 10% على مدى السنوات الخمس الماضية وجعل من أثيوبيا كما ذكرتْ مجلة الإيكونمست رابع اقتصاد في العالم من حيث درجة النمو في عام 2010 (بينما احتلت جمهورية الصين الشعبية المرتبة الخامسة).
إذن فإن احتياجات أثيوبيا نفسها كبيرة، وتحتاج بالإضافة إلى الطاقة الكهربائية إلى شبكةٍ ضخمة لتوصيل هذه الطاقة الكهربائية إلى المدن والمصانع الأثيوبية عبر مسافاتٍ شاسعة وتضاريس صعبة .
لكن يجب إضافة أنّ أثيوبيا تنوى أيضاً أن تكون مَصْدَراً إقليمياً للطاقة الكهربائية ومُصدِّراً لها لدول الجوار، وحتى ما بعد الجوار. لقد وقّعتْ أثيوبيا على مذكرة تفاهم لتصدير 500 ميقاواط إلى كينيا، ويُتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى الضعف عندما يبدأ مشروع غيلغيل غيبى الثالث في الإنتاج. كذلك تتوقع أثيوبيا تصدير طاقتها الكهربائية إلى جنوب السودان الذي يعانى نقصاً حاداً في الكهرباء في صفقة تبادل الكهرباء من أثيوبيا مقابل البترول من جنوب السودان. كما يُتوقع تصدير الكهرباء إلى السودان للاستهلاك في ولاياته الشرقية المجاورة لأثيوبيا، وإلى دولة جيبوتى، وعبر جيبوتى والبحر الأحمر، إلى اليمن. إذن بالنسبة لأثيوبيا فإن الطلب من دول الجوار عالٍ وتبقى مسالة التوليد لتغطية هذا الطلب (وهذا الطلب العالي من دول الجوار قد يُسهّل بدوره مسألة التمويل الخارجي لهذه المشاريع). وإذا تمّ تنفيذ هذه الخطّة فإنّ سلعة التصدير الأساسية والأولى في أثيوبيا في السنوات القليلة القادمة ستكون الطاقة الكهربائية وليس البُنْ الأثيوبي.

4
ما هي الآثار التي قد تترتب على مصر والسودان من جراء هذه السدود؟
تقول أثيوبيا أن هذه السدود لن ينتج عنها أي ضررٍ لمصر والسودان، وتدّعى أن سدّ الألفية العظيم سيكون مفيداً للسودان ومصر لأنه سيحجز كمياتٍ من الطمي التي تؤثر سلباً على سدودهما، وأن التبخر في هذا السد محدود مقارنةً بسدود مصر والسودان بسبب موقع السد في وادٍ عميق وبسبب الطقس المعتدل في أثيوبيا، وأن السد سوف ينظّم انسياب النيل الأزرق إلى السودان ومصر ويقلل من خطر الفيضانات في السودان. بالطبع مصر والسودان لا يقبلان هذا الإدعاءات وقد طالبت مصر بمدها بالمعلومات والتقارير حول سد الألفية حتى تتبين مدى الضرر الذي قد ينتج عنه. وتثير مصر والسودان أيضاً مسألة الآثار التراكمية لهذه السدود على الوارد من مياه النيل الأزرق من أثيوبيا.
رفضت أثيوبيا في الماضي مبدأ الإخطار المسبق وادعت إنها لم تُخْطَرْ بأي من سدود مصر (سد أسوان والسد العالي) أو بأي من المشاريع الأخرى مثل قناة السلام ومشروع توشكا، ولا بأي من سدود السودان (سنار وجبل أولياء والروصيرص وخشم القربة ومروى). وعليه فهي ترى أنها غير مُلزمة بإخطار مصر والسودان بأي من هذه المشاريع. وقد وردت تقارير تفيد بأن أثيوبيا مستعدةٌ للتفاوض مع مصر والسودان بشأن المشروع بما في ذلك الملكية المشتركة للمشروع. ولم تًرِدْ تفاصيل عن هذا العرض ولا عن ردة الفعل له من مصر والسودان. إذن فنحن أمام موقفٍ صعب سيزيد الصراعات والنزاعات حول مياه النيل حِدّةً وتشابُكاً.
5
ما هو موقف الاتفاقيات الموقّعة في هذا الصدد؟
مصر والسودان يصران على أن الاتفاقيات التي عُقدت في الماضي ملزمةٌ لدول الحوض الأخرى، و تحديداً اتفاقية 1929 التي أبرمتها بريطانيا نيابةً عن السودان وكينيا ويوغندا وتنجانيقا، والتي كانت ضمن مستعمراتها في ذلك الحين، مع مصر. هذه الاتفاقية أعطت مصر حق النقض لأي مشاريع تقام علي النيل يمكن أن تؤثر سلباً على كميات المياه التي تصل مصر أو تعدل وقت وصولها. وبينما تصر مصر على إلزامية هذه الاتفاقية تحت نظرية توارث الاتفاقيات، ترفضها دول البحيرات الاستوائية باعتبار أنها وُقّعت أثناء الحقبة الاستعمارية ولا إلزامية لهذه الاتفاقية بعد نهاية هذه الحقبة. ولقد قامت هذه الدول بعد استقلالها مباشرةً تحت نظرية نايريرى -الرئيس الأول لتنزانيا- بإعطاء اتفاقيات الحقبة الاستعمارية عامين للتفاوض حولها، وإذا لم يتم الاتفاق على وضعٍ جديد فإن هذه الاتفاقيات تسقط بعد هذين العامين. هناك أيضاً اتفاقية عام 1902 بين إدارة الحكم الثنائي في السودان وأثيوبيا والتي ألزمت أثيوبيا بعدم التعرض لسريان النيل بدون موافقة الإدارة الثنائية في السودان. تصر مصر علي إلزامية هذه الاتفاقية بينما تدعي أثيوبيا أن النص الإنجليزي والنص باللغة الأمهرية مختلفان وأن الاتفاقية لم يتم التصديق عليها في أثيوبيا وبالتالي فليس لها صفة إلزامية. كما تُضيف أثيوبيا أنها ليست طرفاَ في اتفاقية 1929.
بالإضافة إلى هذا تُصِرُّ مصر والسودان على أن استعمالاتهما وحقوقهما القائمة والمشار إليها في اتفاقية مياه النيل لعام 1959 (55,5 مليار متر مكعب لمصر و18,5للسودان) غير قابلة للتفاوض وخطٌّاً أحمر لا يمكن عبوره باعتبارها حقوقاً مُكتسبة، بينما تقول أثيوبيا والدول المشاطئة الأخرى أنّها ليست طرفاُ في اتفاقية 1959، وتُصِر على أن لها حقوقاً في مياه النيل تحت نظرية الانتفاع المنصف والمعقول، وأنه يجب على مصر والسودان الاعتراف بهذه الحقوق والتفاوض حولها. وتثير أثيوبيا مسألة أنها المَصْدر لحوالي 86%من مياه النيل ولذا لها الحق في الانتفاع المنصف والمعقول من مياه النيل بما يتناسب وهذه النسبة. كما أن مصر والسودان يرفضان بشدّة (لأسبابٍ ناقشناها في مقالاتٍ سابقة) اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل والتي وقّعت عليها ستُّ دول حتى الآن والتي لم تدخل حيز التنفيذ بعد. إذن فبدل أن تساهم اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل في حلحلة الخلافات أصبحت هي نفسها مصدراً أساسياً للخلافات.

6
خاتمة
نختتم هذه السلسلة من المقالات بثلاث ملاحظات:
أولاً: إن حوض النيل ودوله وشعوبه تواجه تحدياتٍ جسام تتمثل في الزيادة المطردة للسكان. وكمثالٍ لذلك فإن سكان أثيوبيا قد تجاوزوا 88 مليون في حين تجاوز سكان مصر 84 مليون، ومعهم مائة مليون آخرون في تسع دولٍ مشاطئة يتنافسون على نفس كمية مياه النيل المحدودة والتي ظلّت كما هي منذ أن بدأ نهر النيل في السريان. وهو على كلٍ نهرٌ ضعيف الإيراد (وتساوي مياهه 2% من نهر الأمزون، 6% من نهر الكونغو، 12% من نهر اليانغستي، 17% من نهر النيجر، و26% من نهر الزمبيزي)، نضف إلى هذا التغييرات المناخية والتدهور البيئي والهجرة إلى المدن حيث الاحتياجات المائية أكبر من تلك التي في الريف. كل هذه المعطيات زادت من حِدّة التنافس على مياه النيل المحدودة، وأخذ هذا التنافس منحنى النزاعات في حالات كثيرة وبين دولٍ مشاطئةٍ عدّة.

ثانياُ: ساهمت الاتفاقيات الجزئية، القديم منها والجديد، في توسيع شقة الخلاف وخلق تكتلاتٍ داخل مجموعة دول الحوض. إنّ الربط بين توقيع دولة بوروندى على اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل وإعلان أثيوبيا عن بدء العمل في سد الألفية العظيم من ناحية، والربط بين زيارة الوفد الوزاري المصري إلى الخرطوم وجوبا والإعلان الأثيوبي من ناحيةٍ أخرى واضحٌ ولا تُخطئه العين.

ثالثاً: إنّ الخلافات الحادة بين دول حوض النيل، والتي تزداد حدّةً كل يوم، لن تُحلَّ سوى بالتعاون، والتعاون بحسن نيّة بين جميع دول الحوض والتي ستصبح إحدى عشر دولة في يوليو القادم عند ميلاد دولة جنوب السودان. ونقطة البداية لهذا التعاون هي الاعتراف بحقوق الكل والانطلاق من هناك إلى موازنة الاستعمالات القائمة لمصر والسودان بالاحتياجات المشروعة والمعقولة للدول المشاطئة الأخرى (وهي احتياجات محدودة وقد اعترفت بها مصر والسودان نفسيهما في اتفاقية مياه النيل لعام 1959). وهذا بدوره سيتطلّب، ضمن إجراءاتٍ أخرى، زيادة مياه النيل. وسواءٌ كانت هذه الزيادة من حصاد المياه في دول المنبع أو من مستنقعات جنوب السودان أو من نهر الكونغو أو من ترشيد الاستهلاك، فإنها تحتاج بدورها إلى التعاون التام بين دول الحوض جميعاً، وإلى التعاون مع دولٍ أخرى خارج حوض النيل.
إن الطاقة الكهربائية الضخمة في أثيوبيا، وأراضى السودان الزراعية الشاسعة، وإمكانيات مصر الصناعية الهائلة، وثروة بحيرة فكتوريا السمكية الكبيرة يمكن، بل يجب، أن تُسخّر لمصلحة شعوب حوض النيل. لكنّ هذا لن يتم إلاّ بالتعاون بين دول الحوض جميعها.
إنّ التعاون هو الركيزة الأساسية التي تقوم عليها استخدامات وإدارة وحماية وتنمية مياه الأحواض المشتركة.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..