طعم القبلة الأولى The first kiss

حبوبة كانت مؤمنة بالفطرة مع قليل من الحكاوي الدينية الشفاهية المتمركزة على القيم السمحة. غير أن تلك القيم السمحة ليست بالضرورة تتأتى في لباس عقائدي بل عشائري كون مثالها الأعلى هم جدودها وجداتها لا أحد خلف البحار. كانت مطمئنة وفي سلام مع نفسها والمحيط. وكانت شديدة الدقة في الربط بين العرف والعادة والتقليد والإيمانيات العقدية فالأشياء عندها غير مفصولة ولا مفصلة والمسافة بين الدنيا والآخرة تكاد تكون معدومة. كانت لا تبارح دارها إلا نادراً. أذكر أنني طوال فترة طفولتي الباكرة زرت معها خمس مناطق خارج الحلة: سوق جبل أولياء (عشان تشتري كفن موتها) والسجانة (زيارة أسرة سعد، سعد إبن جدي الطاهر الطريفي بالتبني) وقوز الشيخ حامد (مشت بي للشيخ الشعراني عشان إفتكرت أنا جنيت) وأم درمان (زيارة أسرة حسب الرسول ود دار السلام بت الطريفي). هذه المرة سنتحدث عن وقائع هذه الزيارات النادرة مع العلم أنني رويت الزيارة “الأخيرة” إلى أسرة ناس حسب الرسول في حلقة ماضية وعليه سنحكي عن بقية الزيارات الأخرى والأحداث المعتملة في بطنها.
حبوبة تربية حبوبتها وليس من المستبعد أن تكون حبوبتها ذاتها تربية حبوبة في سلسلة الحبوبات. وهذه الحقيقة وذاك الإحتمال ربما فسرا معاً عقلية حبوبة ونظرتها للحياة والناس والأشياء. حبوبة تعيش في التاريخ لا الحاضر، تتحدث عن “أبواتها وأماتها” في نسق آيديوولوجي صارم في إهاب العز والفخار وتكره “التعيشية” مرحلة الدولة المهدية وكأن عبد الله التعايشي ما يزال يحكم من القصر الجمهوري لا الرئيس جعفر نميري كما تكره “الأتراك” وتدعو عليهم باللعنة (راجع الحلقات السابقة) فذاكرتها شكلتها عدة قرون إلى الوراء. ومرة روت لي قصة مدهشة، قالت: “كان عمي أحمد الطريفي عنده 300 عب قبال التحرير، شفتهم بعيني جت”. وعندما جاء زمان التحرير الذي فرضه القانون الإنجليزي كان لا بد من تسريحهم جميعاً وإلا على كل رأس يضبط في حوزه مالك من الملاك غرامة مالية كبيرة وربما سجن، لذا أسرع الملاك بتحرير وطرد ما لديهم من رقيق. غير أن هناك 11 نفراً من الرقيق تقطعت بهم السبل إذ لم يعرفوا حياة أخرى غير التي عاشوها في كنف سيدهم ومنهم نساء وشبان، كلما طردوا عادوا من جديد فغرم الإنجليز جدي الطريفي ثلاث مرات وهددوه بالسجن إذا ضبط في بيته رقيق مرة ثانية فما كان منه إلا أن عمل مجلس وحكم عليهم بالإعدام فصفهم على الحائط وضربهم جميعاً ببندقية الصيد “الخرطوش” كخاتمة درامية للمشكلة القانونية.

كفن حبوبة:
حبوبة كانت مجهزة كفنها قبل موتها بسنوات عديدة. في المرة الأولى كنت في معيتها في سوق جبل أولياء عندما أبتاعت كفن أبيض فخيم وهي تحدث نفسها أثناء ما كان صاحب الدكان يقيس القماش بالمتر ” والله ما أخلي ود غلفا إجيب كفني”. وكانت متفقة سلفاً مع نسوان المناحة والبكاء وليس ذاك فحسب، حبوبة كانت مجهزة مكان الصيوان وبتقش الأرض كل إسبوع بالمقشاشة ومشترية ترامس الشاي والكبابي (الكؤوس) وكانت كثيراً ما توصي أبناءها وبناتها “عارفاكم ما بتقصرو مع الضيوف”. كانت تود أن تموت في حفل مهيب و في عز وأبهة مثلما عاشت، وقد حدث بالضبط ما أرادت وخططت له ولو بعد حين، إذ تكفن بكفنها من قبلها شقيقها جدي الهادي حماد كما جدي الطاهر الباهي أبو يوسف و محمد أحمد الطاهر وفي كل مرة تسارع بشراء كفن جديد.

الزيارة إلى السجانة ثم قوز الشيخ حامد:
كان عمري ثمان سنوات عندما كنت في معية حبوبة في زيارة أسرة سعد، سعد إبن جدي الطاهر الطريفي بالتبني وكان عندهم بنت مسافرة ليبيا سترحل في المستقبل بفعل إنفجار أنبوبة غاز في طرابلس. كانت حبوبة تحمل “سبت” مليان بالحلويات التقليدية والبلح والعسل وقنينة روب وأشياء أخرى لم أفهما ولم أستطع التعرف عليها. وكنت على أي حال لا أهتم مشغول بالبحلقة في مظاهر المدينة الباهرة وأنا إبن الخلاء والجزر النائية البعيدة. وصلنا عند الأصيل، سرعان ما تحلق حولي أبناء وبنات الجيران المتمدنين وأنا كائن غريب ومدهش في ذات الوقت “جراي وعنيف وصوتي عالي وممسح بالكركار” وكمان عندي قصص غريبة على القوم عن أبو الدنانين والزنابير والأرانب والبعاشيم والبعاعيت والاسماك الملونة والرجل الغريب الميت في جزيرة أم أرضة. لفت إنتباه طفلة في عمري جميلة شقية رشيقة وذات مهارات في التقليد والتمثيل كانت تنصت بإهتمام شديد إلى الوحش الجديد، راقتها الحكايات الصغيرة وتحديداً مقدرتي في القبض على ابو الدنان حي، فأعتبرت ذاك عملاً بطولياً عظيماً وانا أحكي بشهية “اطلع الشدرة كدا كدا وبب أقبضو كدا جك” رافعاً راحة يدي في الهواء خابطاً بها الحائط المجاور. سألتني مستغربة “ما بعضيك”.. “بعضي بس حبوبة قالت أنا راجل ما بخاف، ولا بخاف، الراجل ما بخاف”. أصيبت الفتاة الصغيرة بالغيرة من مهاراتي “أبو الدونانية” ففكرت وقدرت: “انا مشيت السينما مع ماما” لم أكن أعرف معنى كلمة “ماما” فأستفتيتها عن معنى “ماما” فأستغربت ولم تفهمني وعندما كررت سؤالي البليد في وجهة نظرها جذبتني من يدي وهرعت بي إلى منزل بالجوار وأِشارت بيدها إلى إمرأة ثمينة كانت تجلس قبالة التلفاز فخمنت أنها تعني بكلمة ماما “أمي”.

ثم من بعدها عدنا إلى ساحة الملعب الخارجية من جديد فشرعت الفتاة تروي بشكل تلقائي مقاطع من مشاهد الفيلم الذي تصادف أن شاهدته مع ماما في سينما “كلوزيوم”. كانت تجري إلى الخلف وتعود وتقفز في الهواء ثم تجلس على الأرض تقلد المشاهد البطولية التي رأتها في السينما. كانت تلك أول مرة أسمع بأن هناك شيء إسمه ” سينما” ربما طشاش طشاش ومن المؤكد كانت تلك أول مرة أقابل شخص دخل فخبر السينما عيان بيان. وفجأة ألتصقت البنت بي تخبرني بالمشهد الحاسم في الفيلم “كدا كدا مسكها كدا كدا” ثم وجدتها تقبلني قبلة طويلة بنفس زمن وطريقة القبلة التي شاهدتها بين البطل والبطلة في الفيلم وأظنه فيلم فرنسي. أثناء ما كانت الطفلة عاكفة بإخلاص شديد في تقمص الدور الرهيب حدث لي أمر لا يمكن تفسيرة أبداً، إنهيار كلي للنظام النفسي والجسدي
Total System Collapse
وفي اللحظة التي فكت الفتاة وثاقي شعرت بالأرض تدور وطعم القي قي حلقي. فهرعت كالشيطان الرجيم صارخاً “بكاءأً مريرا” ناحية حبوبة فألفيتها وسط النساء (غازة كوعه فوق العنقريب تشرب الجبنة) فوقعت في “سبت” الهدايا مكسراً عدة أشياء داخله وكشحت عدة فناجين قهوة ثم وقعت في حضن حبوبة فظنت حبوبة والله أعلم أن لدغتني عقرب. فتقافز الناس هنا وهناك وحدث هرج ومرج بالبيت وذهب المحققون إلى ساحة الجريمة لكن لا أحد علم بالحقيقة حتى تاريخ اليوم (زي قصة مقتل الرئيس الأمريكي كينيدي) كل واحد من الناس لديه تفسيره الخاص، إذ أن الفتاة هربت إلى منزلهم وأنا لم أستطع أن أفصح عما حدث لي ليس لأي سبب موضوعي بل لأنني لا أعرف لغة أفسر بها ما جرى!. فما كان من حبوبة إلا أن ذهبت بي في الحال إلى الشيخ الشعراني في قوز الشيخ حامد (قريبها في الدم) فأقر بأن هناك مشكلة مس شيطاني والعلاج بخرات ومحاية وكان علاجاً موفقاً!.

يتواصل.. حكايات مع حبوبة آمنة بت حماد.

محمد جمال
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. كثيرا ما تروق لي قصص الحبوبات :وسبحت في بحر الخيال مع أمي البتول كما نحب أن نسميها رحمها الله… ومع زمن المهدية وتبديل لبن البل بكسر الألف على حد قولها, قاصدة الابل وتبديله بالدقيق… ثم حديثها عن الكسرة : وأعتقد أنها تقصد فيضان النيل , مما أدى الى نزوح أهلنا من أم درمان غربا الى حلفاية الملوك شرقا حيث استقر بنا المقام الى اليوم …
    كان يمكن أن يكون هذا الموضوع شيقا ان لم تتخلله طريقة الخلاص من مما يسمى بالرقيق بهذه الصورة البشعة, التي حزت في نفسي وتركت المرارة في حلقي … تشكر

  2. عزيزي اﻻستاذ محمد جمال …كيف حالك تذكرتك باﻻمس والحمد لله وجدتك اليوم وحبوبتك الله يرحمها ويجعلها من اصحاب اليمين…حبوبات الزمن الجميل…تحياتي وتمنياتي لك بموفور الصحة والعافية…

  3. أفيدونا يا أهل العلم والدين والتاريخ والأدب
    كان عمي أحمد الطريفي عنده 300 عب قبال التحرير، شفتهم بعيني جت”
    عمل مجلس وحكم عليهم بالإعدام فصفهم على الحائط وضربهم جميعاً ببندقية الصيد “الخرطوش” كخاتمة درامية للمشكلة القانونية.

  4. يا لعظمة هذه الحبوبة ويا لعظمة هذا الكاتب ابن حبوبته!
    هذه واحدة من ضرائب الفضاء المفتوح .. أي كلام كان يليق بـ”قعدة” أو قدام ست شاي أو هضربة محبط أو تغزل نرجسي مريض في نفسه أصبح يجد حظه من النشر .. أعتقد يا أخ إنك تعمل ليك مدونة خاصة تسميها “الفريد في عصرو” وتنشر فيها كل سيرتك الفخمة هذه بما فيها حكايتك مع الشابة الفلبينية

  5. توثيق مهم يا محمد جمال الدين لله درك.
    السودانيين ما تعودو على الوضوح والشفافية الزي دي عشان كدا ما تهتم بترهاتهم.

    شوف زي الاسمو[الدنقلاوي] كل حاجتو شخصية وباين ما في نفسو من قصور!.

    يا خ قصة مقتل “العبيد” البشر يا ناس ما في زول حكى عنها غير محمد جمال دي حاجة تستحق الوقوف عندها والتحقق منها. دي حاجة خطيرة ومهمة للمستقبل. نحن نحتقر بعضنا البعض لمجر مشاعر غير إنسانية فجة.

    لله درك يا محمد جمال انت بس احكي والناس بتعرف الغث من الثمين ولا تهتم بأصحاب الغرض والمغرضين. انت عندك الف عدو ولكن لك مليون زول ممكن يستفيد من معنى المعاني. افهم نحن فاهمين!.

  6. فعلا الكلام مستفز بالذات حتة قتل وذكر (العبيد) بس ممفترض الناس تدي محمد ثواب ا الشفافية والوضوح وقول الحق (المدسوس) الشعوب المتحضرة ما تتطورت إلا بقول كلمة الحق وكشف تفاصيل التاريخ من كل الجوانب. نحن شعب خجلان من تاريخه!!! وخجلان من نفسو!!!
    أحييييييييييييييييييك محمد جمال على الإبداع والحكي السمح ولا تهتم بأصحاب النوايا السيئة!

  7. حرام علييييكم تتطهدو حق الاخ (النقلاوي) دا. الرجل دا وعانا على قصة مخفية شكلو متابع الحواديت كلها :::))
    شن قال؟ . قال كلام مهم وخسوسي مع ود حبوبتو (((((أعتقد يا أخ إنك تعمل ليك مدونة خاصة تسميها “الفريد في عصرو” وتنشر فيها كل سيرتك الفخمة هذه بما فيها حكايتك مع الشابة الفلبينية)))))

    اهااا الشابة الفلبينية دي منو؟؟؟؟ ما كنا عارفين

    انا كنت قايل بس سيلفيا الهولندية وفانسيا الإنقليزية.. الليله جا الخبر بالتو

    اها دايرين نعرف يا ناس ومن هسه مستمتعين ومستمخين

  8. ياعالم ده وهم في وهم وخيال في خيال، الزول ده حقو يستفيد من خيالو الواسع ده في الكتابة للسينمااوالمسلسلات، معقولة بس تبدأ الحكاية بي عبيد يرشوهم ببندقية صيد، وفلم من سينما كلوزيم، وبوسة من بت صغيرة تتطير جنو، وشيخ يكتب ليهو محاية وبخرات. حبوبتو دي زاتها يمكن عندها فرخ في راسها مين عارف، المحيرني في ناس صدقوا اللعبة، وقالو حقو يوثقو كلامو، صحي ” المؤمن صديق”. صدقنا عمنا شوقي بدري العندو شهود، طلعتوا لينا ياناس الراكوبة بي “كاو بوي جديد” ـ الله يجازي محنكم ـ

  9. الأخت البصيرة ام حمد

    شن رايك لو طلعت القصة صاح وعندها شهود لسه عايشين؟. وهل الصاح تتقال ولا ينسكت عليها؟.

  10. رد محمد جمال من حائطه على الفيسبوك:

    ((هل قتل جدي أحمد الطريقي “11 من رقيقه” بالنار؟. نعم، لقد حدث!.

    ملاحظات حول الحلقة الأخيرة (رقم 18) من حكايات مع حبوبة آمنة بت حماد:

    ربما كانت الحلقة 18 ممكن تكون أفضل من الناحية الفنية في وجهة نظري عن ماهية الأفضل (سأفعل في المستقبل) غير أن الشيء الوحيد المؤكد أن المعلومة التي وردت عن مقتل “الرقيق” صحيحة جداً وبالأرقام التي ذكرت وهناك شهود شهدوا الشهود على قيد الحياة. وإن هذه المعلومة تشهد على فظاظة الإنسان تجاه أخيه الإنسان حتى في إطار السياق الزماني لا بفهم هذا اليوم الذي شهد تطوراً عظيماً في الوعي بحقوق الإنسان (إتفاقية جنيفا مثالاً) وإنني إذ أجي بهكذا معلومة أدين ككل البشر الأسوياء إستعباد الإنسان لأخيه الإنسان كما أدين التمييز العنصري علي أي أساس قام (العرق واللون والملامح الجسدية والعشيرة والقبيلة والنوع) وللتمييز طبعاً أشكال أخرى عديدة من ضمنها: العمر والسمنة والمقدرات الذهنية والأكاديمية والجهوية والطبقة الإجتماعية والمزيد. كل أشكال التمييز وجب أن تكون مدانة فهي لا إنسانية. ومن ضمن أساليب مناهضة التمييز بكل أشكاله هو تعرية العقلية التي تقف خلفه وكشف طرقه وأحابيله والمستفيدين منه. وذاك هو فهمي للأمر بإراد مثل تلك الحقائق المرعبة فما يزال في خواطر الكثير منا بقايا من فظاظة الماضي وإرثه ما زال يرن في خواطر الكثيرين ويشكل حواجز “شينة” بين البشر يأثر في حياة الناس اليومية وتشتعل على أساسه الحروب لمصلحة أشخاص محددين وأحزاب محددة ودولة بوليسية!.
    ثم أن الحكايات التي أرويها (هذه وغيرها) هي ذاكرتي وحدي ليس بالضرورة تأرخة ولا تاريخ ولا آيديولوجيا ولا أي شيء آخر غير ذاكرة رومانسية لمغترب طال به الإغتراب.. وهي ذاكرتي وحدي وانا المسؤول عنها. وبس.

    تحياتي.. محمد جمال))

  11. تسلم محمد جمال على الافكار المرتبة. مجزرة جدنا الطريفي حقيقة فظيعة معروفة لكل الناس كبار العمر في منطقة ام ارضة لكن مافي زول ذكرها من قبل. معاك في كشف حال التاريخ والاعتراف بالحقائق عل ذلك يساعد في اصلاح العقلية العرقية والقبلية المريضة في حياتنا اليومية

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..