مقالات متنوعة

الاستثمار في الفرقة والشتات

(1)
مع ايماني الكامل بحق أي فرد أو مجموعة في تكوين الاجسام السياسية والحزبية والنقابية التي تمثلها دفاعا عن مصالحها فقد وقفت مرتين مذهولا دون حراك افكر فيما انتهى به أمرنا نحن في شرق السودان ..القاسم المشترك الأعظم في المرتين وربما ينطبق على اية قبيلة اخرى في هذا الزمن الرمادي الأغبر هم أهلنا الارتيقة أحد أعرق قبائل البجا ..فسمعتهم ناصعة البياض ومساهماتهم تسطع كالشمس في رابعة النهار..القبعات ينبغى أن ترفع لهم امتنانا والهامات ينبغى أن تنحنى لهم احتراما فهؤلاء هم أحفاد الذين احتضنوا الهجرات التي وفدت الى السودان طلبا للأمن والاستقرار في القرن التاسع عشر بتوفير كل معينات الاستقرار لهم بل هم احفاد الذين استنجد بهم الحاكم التركي لحل نزاع نشب بين قبائل رفاعة وجهينة في وسط السودان بتفعيل أعراف وقوانين البجا في حل النزاعات ومنها القلد (التعهد) والواجاب (الهدنة ) كما يقول المؤرخ محمد صالح ضرار في كتابه سواكن .لم يخذله وقتها ناظر الأرتيقة فسرعان مالب الدعوة واستدعى طرفي النزاع وتمكن من حقن الدماء باخضاعهم للاعراف البجاوية.كل ذلك يشهد به التاريخ.
(2)
لكن الذي لفت نظري في المرة الأولى كان احتفالا لتكريم القامة السامقة زميلنا في الرياض البروفيسور حسن أبوعاشة ضمن فعالية جرت تحت عنوان قبائل الارتيقة تكرم دكتور حسن . في المرة الثانية تكرر نفس السيناريو في اعلان مدفوع القيمة في الصفحة الاولى لأحد الصحف يتحدث عن شكر قبيلة الارتيقة للرئيس والقيادات الكبرى في تجديد الثقة في ابنهم حسن عيسى أرتيقا والابقاء عليه مديرا تنفيذيا لمشروع دلتا طوكر الزراعي.
(3)
أنا لا اعترض على الموقفين لأن هذا شأنهم ولكن الأمرالذي تحول الى ظاهرة وأقولها صادقا نصب علامة استفهام كبيرة تنتظر الاجابة لماذا الاصرار على تهميش وتقليص الشخصيات العامة التي رفعت اسم البجا واسم السودان عاليا ومنها العالم المبجل باختزال تكريمه ضمن حدود القبلية الضيقة ؟. في يقيني الذي لاتهتز له شعرة لو وسع أهلنا الارتيقة دائرة الاحتفال بدعوة كل البجا لتكريمه لتقاطر الجميع وأندفعوا شيبا وشبابا لأداء واجبات التكريم التي هو أهل لها ..نفس هذا ينسحب على القامة حسن عيسى . ولكن السؤال هنا من الذي مزق البجا ومن الذي شتتهم .. بل من الذي أعادهم الى مربع جاهلية العصبة والقبيلة ؟ هل تم هذا بفعل فاعل ..اذا ذهبنا مع هذه الفرضية لماذا سهل الهوان على البجا أهل الكرم والجود والفروسية كما يقول التأريخ؟
(4)
لقد أهدرت الانقاذ منذ مجيئها وقتا وجهدا ومالا كثيرا لتمزيق الخصوم بالترغيب حينا وبالترهيب حينا آخر حتى يخلو لها الجو في حكم السودان بسياسة فرق تسد
Divide and rule ضمن مخطط سياسي جهنمي لم تسبقه اليها أية حكومة فتناسلت الاحزاب وتوالدت التنظيمات وتفرق الناس أيدي سبأ بعد أن تحول السودان الى مولد سيده غائب حتى اختلط علينا الامر الآن ولن نعد نعرف كم مؤتمر بجا وكم حزب حزب أمة وكم اتحاد ديموقراطي يعج الآن في الساحة السياسية. لكن المؤكد هنا كما هو معلوما سلفا ان أحدا لم يجني حصادا من المخطط فقد خسر الجميع وسقطوا في الامتحان حكومة وشعبا.
(5)
سوف نرى لاحقا كيف خاب الرهان على الفرقة والشتات وكيف جاء كل ذلك وبالا على مستقبل البناء السياسي في السودان حينما تحولت الاحزاب السياسية العريقة الى جزر معزولة متناحرة كدويلات الاندلس بل ظهرت اسقاطاتها على الحكومة نفسها حينما انقلب السحر على الساحر ووجدت نفسها أمام مأزق التعامل مع الكيانات التي خلقتها كما تؤكد ظاهرة المحاصصات . يقولون ان صحفيا سأل يوثانت السكرتير العام الثالث للامم المتحدة البورمي (ماينمار حاليا ) بعد النرويجي ترجفلي والسويدي داج همرشولد عن صعوبة مهنته فأجاب بأنها كمهمة حكم يدير مباراة يشارك فيها 50 فريقا (عدد اعضاء الامم المتحدة وقتها ) كل فريق يشوت الكرة في اتجاه.
(6)
يا سبحان الله لا ندرى كيف دار الزمان وكيف عدنا القهقري وكيف ان تنظيما واحدا أحدا شارك بعدد مقدر من الاعضاء في عهود الديموقراطيات السابقة تحت اسم مؤتمر البجا تشتت وتقزم الآن الى تنظيمات متنازعة يزعم كل طرف تمثيل البلاد والعباد . لكن تبقى دائما الحقيقة المؤلمة وهي انه رغم تصدر اثنية البجا القوميات الاخرى في السودان جاهزية للتعايش وقبولا للآخر فان التمزيق الممنهج المتعمد ضرب في مقتل التنظيم الوحيد الذي كان يمثلهم من حلايب شمالا الى الحدود المتاخمة لاريتريا جنوبا . اذ ان التداعيات السالبة للضرر فاقت كل التي أصابت الكيانات الحزبية الاخرى فقد ايقظت في البجا عصبيات القبيلة وأعادتهم مجددا الى المربع الاول مربع الهدندوة والأمرأر والارتيقة والبشاريين والبني عامر وهلم جرا.
(7)
انها تنظيمات قبلية ضيقة ماكان لها أن تترعرع لولا غطاء من القبول والرضى والتشجيع وفرته ورعته الحكومة لضرب التنظيم الواحد الذي اصبح اسمه يثير لها حساسية مماثلة كالتي يحدثها حزب الشعب الكردستاني للاتراك .فقد أبصرت هذه التشظيات التي تستحق دون منازع حمل لقب أحزاب الفكة النور مع توقيع اتفاقية الشرق بحجة السماح لكل الكيانات بالمشاركة وهي كلمة حق اريد بها باطل.
(8)
وهكذا فقد أرسى الواقع الذي نعيشه الآن أرضية خصبة للقبيلة على حساب الانتماء للوطن حتى بلغ بنا الحال أننا بتنا على دراية تامة بقبائل اهل السياسة واهل الفن واهل الكرة .وهي ممارسات خطيرة لم نكن نعرفها سابقا والا فأتحدى من يعرف قبيلة الراحل المقيم محمد أحمد محجوب السياسي والمحامي والاديب الذي اختاره عبد الناصر ممثلا وناطقا رسميا باسم الوفود العربية في الامم المتحدة عقب حرب يونيو (حزيران ) وهو الشاعر الذي الف الكاتب المصري عبد الرحمن الشرقاوي عنه كتاب تعليقا على قصيدته الخالدة الفردوس المفقود.
(9)
على نفس المنوال نتسائل من يعرف قبيلة الشاعر الفذ ادريس جماع الذي طالب عملاق الادب العربي عباس محمود العقاد صاحب العبقريات بتركه في مستشفى الامراض النفسية باعتبار ان هذا مكانه الطبيعي تعليقا على قصيدته أعلى الجمال تغار منا .واخيرا وليس آخر من يعرف قبيلة الأسطورة نصر الدين عباس جكسا الذي حاصرته العديد من الاندية البرازيلية بالاغراءات والعقود التي يسيل لها اللعاب لضمه؟
(10)
الرهان على الفرقة والشتات خاسر والذين يدقون طبوله وينفخون في ناره تشتيتا للخصوم أواستثمارا لمصالح آنية ضيقة لن يحصدوا سوى الحصرم ..لذلك تكتسب دعوة العودة الى الجذورالآن أهميتها ..انها دعوة عقلانية هادئة فهل من مجيب قبل ضحى الغد؟

حسن أبو زينب عمر

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..