الشمال والجنوب في الرواية السودانية

الوعي بالذات والوعي بالآخر (1)
أـ د. محمد المهدي بشرى: ٭

هذه الدراسة انبثقت كفكرة بعد الاطلاع على دراسة الناقد السوري نبيل سليمان وعي الذات والعالم: دراسات في الرواية العربية «سليمان:5891»، وقد عالجت الدراسة العديد من الروايات من بعض الدول العربية عدا السودان، فقد أشار الكاتب إشارة عابرة إلى «موسم الهجرة إلى الشمال» في الهامش قائلاً: «أما الطيب صالح موسم الهجرة الى الشمال فقد سبق السابقون فيها الى ما يفي القول.» نفسه:7. لكن لولا هذا التجاهل لجاءت الدراسة مكتملة.
على كل فإن فكرة دراسة وعي الذات في الرواية فكرة نيرة جديرة بالبحث في رواية حديثة النشأة لا يتجاوز عمرها نصف قرن من الزمان هى الزواية السودانية، ولا شك أن الوعي بالذات يعبر بوضوح عن الواقع الاجتماعي الذي يسود في الفترة التي سنتناولها بالدراسة، أى فترة ما يزيد على نصف قرن، وتبدأ الفترة بنهاية الاربعينيات حيث صدر اول نص سردي هو «تاجوج والمحلق» لكاتبه محمد عثمان هاشم عام 6491م، وتنتهي الفترة بصدور آخر نصوص في عام 0191م، والفترة كما هو واضح تمتد الى قرابة نصف قرن، كما ذكرنا وسنبدأ الدراسة بالاشارة الى تراث الرواية السودانية، والرائد في هذا المجال بدون شك هو معاوية نور «9091ــ 1491م» الذي سبق الجميع الى اكتشاف كتابات عمالقة الرواية العالمية خاصة الانجليزية والفرنسية والاسبانية والروسية «نور:0791»، فنجده يكتب عن رائعة دستوفيسكي الاخوة كارامازوف وانها أنموذج للادب العالمي، يقول معاوية «ليست هذه القصة قصة فحسب وإنما هى قصيدة رائعة واغنية مؤثرة وموسيقية نابهة، ليست هذه القصة قصة فحسب وانما هى ملحمة الانسانية المعذبة وآية الروح القلقة، وبوق البشرية الممزقة، ومن يكون اقدر من دستوفسكي ــ ذلك القلب الكبير ــ في تصوير هذه المأساة وإيقاع هذه الاغنية» «نفسه:651». وفي جانب آخر يكتب معاوية عن دون كيشوت رائعة سيرفانتيس نور:د.ت، يقول معاوية «فمن منا لا يعرف دون كيشوت ومن منا لم ترتسم في مخيلته صورة واضحة قوية لذلك الرجل المهووس الذي خلقته عبقرية سيرفانتيس الخصيبة» «نفسه:771».
أعجب معاوية بالادب الروسي أيما اعجاب وهو يفضله على غيره من الآداب الاوروبية، نلمس هذا في قوله: «اكثر ما اقرأ هذه الايام قصصاً، وانني اقرأ القصص الانجليزي والالماني والفرنسي فلا اجد هذه المتعة الفنية التي أجدها في قراءة القصص الروسي، فأنت تدخل عالماً جديداً مترعاً بالفن، زاهياً بألوان الشعور» «نور:241-791»، بل إن معاوية يعلن بكل ثقة وجرأة ان المستقبل للادب الروسي: «ولقد عنيت بالقصص الروسي ودراسته بعد أن قرأت هذه المدح المستطاب. والحق اقول ان القصص الروسي إنما هو ادب المستقبل وكفى» «نفسه:241». وبالجرأة ذاتها ينتقد معاوية الادب الفرنسي قائلاً: «فالقصص الفرنسي في جملته يحوم في عالم الارض وقصاراه مائل إلى الحب والعلاقات غير الشرعية، فكيف ينتج هذا فناً رفيعاً مهما كان الكاتب قديراً» «نفسه:451».
لكن دراسات معاوية حول الرواية لم تترك أية أصداء في الرواية السودانية الرائدة التي كتبت بعد اكثر من عقد من الزمان من دراسات معاوية المنشورة في الصحافة المصرية، ومهما تكن اسباب هذا الامر لم يستطع الرواد الاستفادة من التراث العالمي للرواية ولا من مساهمات معاوية نور التي تكشف عن فهم عميق لهذا التراث، لهذا يمكن تلمس الفجوة التي تقع بين هذا التراث وروايات الرواد، ومن عجب ان اثنين من هؤلاء الرواد خرجا من معطف الروائي المصري نجيب محفوظ، وهما خليل عبد الله الحاج وأبو بكر خالد كما سنوضح.
وما أن يمضى عقد من الزمان على مساهمة معاوية النقدية حتى ظهر واحد من رواد النهضة الادبية في السودان، وهو محمد احمد محجوب، ليمضي في البحث عن مصادر جديدة للابداع السوداني، وذلك في اطار بحثه عن مسار للحركة الفكرية السودانية «محجوب: 1791».
وفي دراسته عن الحركة الفكرية في السودان الصادر عام 1491م، أشار محمد احمد محجوب الى قصة تاجوج ونادى المبدعين الى الاهتمام بها. «المحجوب:0791»، يقول المحجوب: «مواضيع الشعر الجيد في هذه البلاد كثيرة.. وانظر الى تلك القصص الغرامية امثال قصة تاجوج التي اذا وجدت من يأخذها ويهذب وحشيتها ويضع فيها من الخيال ما يكسبها رونقاً، لكانت مثاراً لإعجاب الأمم الاخرى بشعرنا واهتمامها بآدابنا» «نفسه:532»، وسرعان ما وصلت رسالة المحجوب الى المبدع السوداني، فقد فهم الشاعر محمد عثمان هاشم الرسالة واختار قصة تاجوج والمحلق ليتكئ عليها ويعيد كتابتها وهو يبدع واحداً من النصوص السردية السودانية الرائدة ــ هاشم:8491.
ويمكن القول إن الرواية السودانية ظلت منذ مرحلة الريادة تبحث عن تأصيل وعن هوية، فاختار محمد عثمان هاشم كاتب أول نص سردي الفولكلور، وانتبه الى قيمة التراث وعمل على تحويل اسطورة تاجوج التي جرت احداثها في شرق السودان الى نص سردي اعطاه عنواناً «تاجوج مأساة الحب والجمال». «هاشم 8491م» وانتبه معلم المدرسة الاولية خليل عبد الله الحاج الى الفقر والفقراء، فكتب روايته الرائدة «إنهم بشر» «الحاج: 8691» لكن ابو بكر خالد خريج دار العلوم واستاذ اللغة العربية آثر التوغل عميقاً في طبقة الافندية أو البرجوازية الصغيرة التي بدأت في الصعود مع ظهور نمط السوداني الحداثي المستعمر، وجاءت روايته الاولى «بداية الربيع» تصور احلام وأشواق الافندية «خالد:8591». أما شوقي بدري فقد انتبه بحسه الثوري للتمييز العرقي في المجتمع والقمع الذي يلهب ظهور الارقاء، لذا كتب روايته الاولى والوحيدة «الحنق » «بدري:0791م»، وهى صرخة ضد الظلم الطبقي والعرقي، أما المعلمة خريجة كلية المعلمات ابنة مدينة الابيض ملكة الدار محمد فقد حرصت على تصوير واقع المرأة وما ترزح تحته من قهر، وجاءت روايتها الرائدة «الفراغ العريض» لمناصرة بنات جنسها «محمد:2791»، وهذه هى روايات الرواد، وهى جميعها باستثناء رواية تاجوج تدور احداثها في مدينة ام درمان، وكتابها جميعاً باستثناء ملكة الدار نشأوا وترعرعوا في المدينة، أما ملكة الدار فقد ولدت ونشأت في مدينة الابيض في غرب السودان، ولكنها عاشت ردحاً من شبابها في ام درمان حيث تعلمت في كلية المعلمات بالمدينة.

الصحافة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..