مقالات سياسية

لماذا إنتصار الشر يقوى بين النخب السودانية؟

طاهر عمر

من أكبر معوقات التنمية السياسية والتنمية الاقتصادية في السودان غياب المسافة الكافية بين المثقف غير التقليدي والمفكر غير التقليدي والمؤرخ غير التقليدي وبين السياسي الذي يزعم أنه هو الذي يلعب دور المثقف والمؤرخ والمفكر والنتيجة تفاعل موضعي يعطل أي تجربة لكي تصل الى غاياتها. لكي نوضّح الفكرة.
مثلا في الدول المتقدمة هناك مسافة بين السياسي تتيح له فرصة إختيار أي الأفكار يمكن ان تفضي لحل مشاكل المجتمع في فترة معينة مثلا نجد أن جاك شيراك بعد سيطرة ميتران على المشهد السياسي وكان محاط بمفكريين قد خلقوا منه أحد الخالديين بتطبيقه لفكرة الحد الأدنى للدخل وحماية فكرة الضمان الاجتماعي.
كان على شيراك أن يأتي بالجديد الذي يجعله على مستوى ميتران بعد أن ضرب ضربته التي أوصلته الى مقام العظماء في فرنسا. كيف أستطاع فرانسوا ميتران الوصول بالاشتراكيين الى قبول فكرة كينز فيما يتعلق بالحد الأدنى للدخل وفتح المجال لكي تنتقل فرنسا الى يسار الرأسمالية من جهة الاشتراكيين الفرنسيين؟ وهنا يتضح الفرق بين الاشتراكيين الفرنسيين والشيوعيين الفرنسيين وما بين الحزب الشيوعي السوداني في تكلسه وإصراره على إضطراد العقل والتاريخ الذي يوصل الى نهاية التاريخ المزعومة ونهاية الصراع الطبقي كما يتوهم الشيوعي السوداني حتى اللحظة.
بفضل مفكريين تجاوز اليسار الفرنسي أوهام مثل أوهام الشيوعيين السودانيين وقد تأكد كل ذلك بفضل المسافة التي تفصل المفكر من السياسي عندما وضح أن الانسانية التاريخية الفرد فيها بديل للطبقة والفرد بطبعه عقلاني واخلاقي. مثلا كانت الساحة الفرنسية قد أبعدت أفكار فلاسفة ما بعد الحداثة وما بعد البنوية بفضل مفكريين إنتصروا على فكر ما بعد الحداثة بل أجبروهم على التنازل من هجومهم على عقل الحداثة وقد إنهزمت ماركسية سارتر بعد أن وضّح كلود ليفي إشتروس أن سارتر يجهل علم الاجتماع بالكلية.
ويجهل سارتر أن الظواهر الاجتماعية عبرها يمكن حل وكشف فاعلية المجتمع وليس كما يتوهم سارتر في مسألة الصراع الطبقي كما يتوهم الشيوعي السوداني الى اليوم.
هذا ما يجعل نشاط الحزب الشيوعي السوداني يأتي لصالح صف العسكر والفلول كما يفعل الكيزان لتعطيل التحول الديمقراطي. بالنسبة للفرنسيين أن أفكار اليسار وماركسية سارتر فيما يتعلق بالسلطة كمفهوم حديث والدولة كذلك قد وضّحها فشل ثورة الشباب في فرنسا عام 1968م ووضع حد لأفكارهم كما وضع حد لأفكار ما بعد الحداثة وما بعد البنوية في وقت ما زالت النخب السودانية الى اليوم تخوط في أفكار ما بعد الحداثة وما بعد البنوية كأنها في أيام ستينيات القرن المنصرم وما زال الحزب الشيوعي السوداني يؤمن بشيوعية لم تصل لفكر أحزاب الشيوعية في الغرب وقد أيقنت من نمط إنتاج الاقتصاد الرأسمالي.
ما زالت أفكار إعادة إكتشاف غرامشي مستعصية على الشيوعي السوداني الذي لم يصل الى مستوى الوعي الذي يجعله يدرك كما أدركت الأحزاب الشيوعية في الغرب واستوعبت فكرة نمط الانتاج الرأسمالي. وهذا بسبب إشتباك الشيوعي السوداني كسياسي وغياب المسافة التي تفصله من المفكر والمثقف غير التقليدي والمؤرخ غير التقليدي.
هذا نتاج زعم الشيوعي السوداني أنه هو المفكر والمثقف والمؤرخ وفي نفس الوقت هو السياسي والمؤرخ الواهم بفكرة إضطراد التاريخ والعقل وهذا هو الذي قصدته بغياب المسافة بين المفكر والسياسي وهنا أود أن أقول أن الشيوعي السوداني كسياسي بسبب غياب المسافة بينه وبين المفكر والمثقف والمؤرخ وبسبب خلق الهالة حول السياسي الشيوعي السوداني وتضخم ذاته نجده يزعم أي الشيوعي السوداني كسياسي أنه هو ذات نفسه مفكر ومؤرخ ومثقف ولهذا قد وصلوا لمستوى الحجا القصار ولا تشرح حاله غير الحجوة التي تقول كان شاله ما بنشال و كان خله سكن الدار أي أنه كوشة حيث ترمى الاوساخ.
بسبب تحجر النسخة الشيوعية السودانية التي لا ترى في نمط الانتاج الراسمالي غير ما كانت تراه الشيوعية في الاتحاد السوفيتي وقد إنهارت نجد الشيوعي السوداني ما زال لا يؤمن بفكرة الدولة من الاساس وبما أنه لا يمتلك قوة الدولة كما كان الاتحاد السوفيتي سابق يستخدم قوة الدولة كلها في تحطيم المجتمع الى أن إنهارت الشيوعية.
كذلك نجد الشيوعي السوداني وبسبب مواقفه من التحول الديمقراطي المفضي لفكرة الدولة التي لا يؤمن بها الشيوعي السوداني نجده يستخدم قوة الفلول والعسكر والكيزان بموقفه السالب من التحول الديمقراطي ويحطم بها مسيرة التحول الديمقراطي كما فعل شيوعيي الاتحاد السوفيتي بقوة الدولة وقد حطموا بها المجتمع الى أن إنهار.
عدم ايمان الشيوعي السوداني بفكرة الدولة من الأساس يجعله مهما تفنن في إبداء الحجج في مواقفه السالبة لا يختلف عن موقف الكوز وهذا بسبب غياب المسافة التي تفصل ما بين المفكر والسياسي كما نجدها في المجتمعات المتحضرة. نضرب مثلا عندما حانت مفارقة فرانسوا ميتران كسياسي لمشهد الفكر وهو محاط بمفكريين.
أطلت حقبة جاك شيراك وهو يستعد للفوز وهو كسياسي يعرف المسافة بينه والمفكر ولذلك تسلح بفكرة عمانويل تود أي فكرة التشظي الاجتماعي وهذا ما قاد جاك شيراك للفوز بعد فترة هيمنة فرانسوا ميتران كاشتراكي أسس لنقل اليسار الفرنسي الى مستوى إدخال فكر يسار الرأسمالية وهذا ما قصدته من وجود مسافة تفصل بين السياسي والمفكر والمثقف كما نجد في المجتمعات الحية حيث يتسلح السياسي بأفكار المفكر والمثقف والمؤرخ غير التقليدي والاقتصادي.
على السياسي السوداني أن يدرك بأن السياسي في المجتمعات الحية متغير تابع لمتغير مستقل وهو المثقف والمفكر والمؤرخ غير التقليدي والاقتصادي وهو الذي يستشرف مستقبل الشعوب وليس السياسي وخاصة في مجتمع سوداني تقليدي للغاية.
وللأسف مشكلة الشعب السوداني تكمن في غياب شخصية تاريخية تستطيع فك الاشتباك بين نخب ما زالت تجهل غياب المسافة بين السياسي والمفكر الذي يلعب دور العابر بأمته كما فعل روزفلت في لحظة الكساد العظيم أو كما فعل مانديلا وقد عبر بأمته وغياب مانديلا من وسط النخب السودانية يجعل الحزب الشيوعي السوداني ومواقفه السالبة كمواقف بتوليزي إلا أن ماندلا قد أقنعه فمن يقنع الحزب الشيوعي السوداني من مواقفه السالبة في غياب مانديلا سوداني يلعب دور الشخصية التاريخية؟ .
على أي حال مسألة تخبط النخب السودانية وإلتباس العلاقة بين السياسي والمفكر تكاد تكون مزمنة أي منذ أيام مؤتمر الخريجيين ويظهر تسابقهم للانضمام لبيوت الطائفية بعد إنهيار مؤتمر الخريجيين كيف تسيطر على روح المثقف السوداني روح الأبوية المستحدثة واستعداده وخنوعه للامام الطائفي ومولانا الختمي.
ومن هناك نمت الذات المتضخمة لنخب يظن أغلبهم أنه هو السياسي والمفكر في نفس الوقت ومن لحظتها ضاع دور المفكر الذي يستطيع أن يكشف كيف يتم التحول الهائل في المفاهيم فيما يتعلق بمفهوم الدولة كمفهوم حديث وكله بسبب أن المثقف السوداني كان ضحية البناء الأسري ودوره في إنتاج النظم السياسية وكيف يتخلص من بناء الأسرة الجذعية التي لا تنتج غير نخب سياسية يفتح فكرها على إمكانية إنتاج النظم الشمولية.
هذا هو سر سيطرة الشيوعي السوداني على مشهد الفكر بفكر شمولي عبر شعراه كأصنام ذهنية وعبر مفكرين شيوعيين سودانيين ضحية سلطة الأب وميراث التسلط. وأستاذ ينسب له الحزب بلا خجل لأن روح سلطة الأب وميراث التسلط هي المسيطرة على أتباع الشيوعي السوداني و أصدقاء الحزب وهذا بسبب غياب المفكر الذي يوضح لهم أن المثقف السوداني ضحية بناء أسري لأسرة جذعية دخلت إلينا مع الثقافة العربية الاسلامية و لا تنتج غير مثقف يخدم خط النظم الشمولية وهذا سر إصرار الشيوعي السوداني على نهاية التاريخ وإنتهاء الصراع الطبقي.
ونتيجة سيطرة ثقافة الأسرة الجذعية على المثقف السوداني وفي المقدمة الشيوعي السوداني نجد أن الشيوعي السوداني حتى اللحظة لم يفهم بأن الطبقات الصاعدة لجيل ثورة ديسمبر المجيدة لا يمكن أن يكون مثقفها العضوي الذي يحقق لهم مستقبلهم من ضمن من كانوا ضحية ثقافة الأسرة الجذعية التي تجعل الفرد متفاني في إنتاج نظام شمولي كما يفعل أتباع الحزب الشيوعي السوداني ولا يكون المثقف العضوي من أتباع أحزاب اللجؤ الى الغيب.
لهذا وجب القول للنخب السودانية بأن تحقيق أهداف ثورة ديسمبر تحتاج لمثقف عضوي يرفض ثقافة الأسرة الجذعية ونظم الشمولية ولا يسعها أي ثورة ديسمبر المجيدة وشعارها العظيم غير بناء الأسرة النووية التي تنتج نظم ديمقراطية وهنا نحتاج للمفكر الذي تفصله عن السياسي مسافة كافية يوضح للسياسي السوداني بأنه وبسبب غياب المسافة بينه والمفكر يظهر على مسرح الحدث سياسي بعقل الحيرة والاستحالة و معشعش على عقله الخوف المرضي الذي يجعله لا يفكر إلا في المحاصصة.
وقد رأينا غياب المسافة بين المفكر و السياسي أي المسافة التي تتيح للمفكر أن ينتج فكر يساعد السياسي كما رأينا فرانسوا ميتران وجاك شيراك في صحبة مفكريين فرنسيين كان لهم دور في تفسير ظواهر المجتمع.
غياب هذه المسافة أنتجت سياسي سوداني كالسائر في نومه عبر سبعة عقود لم تنتج غير مثقف قضى عقود في حديث الهويات القاتلة بدلا عن الحديث عن الحريات وبسبب جهل السياسي السوداني بالنشؤ والإرتقاء المتجاوز للعرق والدين نجدهم قد أضاعوا عقود في مشكلة الهامش والمركز وهو عنوان مضلل لم ينتج مفكريين بمستوى وعي عالي بل نجده قد أنتج متدنيي الوعي في الجانبيين أي المركز و الهامش.
ها نحن نشهد مثقفي الهامش وهم على صورة مشوّهة لمثقفي المركز وقد فضحهم وقوفهم في جانب نصرة أفشل إنقلاب يقوده البرهان الفاشل. وقوف مالك عقار ومبارك أردول ومناوي وناظر البجة ترك وقفل الميناء وجبريل في جانب الإنقلاب يوضح لك بأن سياسيي الهامش هم صورة مشوّهة لسياسيي المركز وقد أعادوا للأذهان يوم إنهيار مؤتمر الخريجيين وتسابق نخب الشمال لبيوت الطائفية.
بعد سبعة عقود نجد عقار وأردول وجبريل ومناوي يناصرون إنقلاب البرهان وتتضح صورتهم وهم يظهرون بجانب البرهان وإنقلابه الفاشل بصورة مشهوّه لنخب الشمال قبل سبعة عقود يوم تسابقهم نحو بيوت الطائفية والقاسم المشترك بين صورة نخب الشمال وصورتهم المشوّهة أي نخب الهامش أن كليهما لا تنتج مناشطهم نظم ديمقراطية.
ولهذا نقول على السياسي السوداني أن يدرك بأن زمن طرح الهامش والمركز والهويات بدلا للحريات قد ولى بلا رجعة جاء الوقت بأن يقوم المفكر والمثقف والمؤرخ غير التقليدي بطرح فكر يخرج السياسي السوداني من غباءه الموروث منذ أيام مؤتمر الخريجيين الذي أورثنا لوثة فكر نخب لا تفرق بين السياسي والمفكر والمثقف والمؤرخ والاقتصادي الذي ينتج فكر يجسر ما بيننا وبين الشعوب المتقدمة.

 

تعليق واحد

  1. ( عد سبعة عقود نجد عقار وأردول وجبريل ومناوي يناصرون إنقلاب البرهان ) اذا لم يقفوا بجانبه فسيقف القحاتة بجانبه

    انها لعبة ( البلي اي البلية و الجلة ) لو كنت تعرفها

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..