الانقاذ: متلازمة إستغلال السلطة والتهميش في تخطيط و تخصيص الأراضي
قراءة تحليلية في مخرجات عمل لجان التفكيك

مريم محمد عبدالله وقيع الله
- تقديم
كشفت مؤتمرات “لجنة إزالة التمكين ومحاربة الفساد”و استرداد الاموال” و خاصة الجزء الخاص باسترداد الاراضي عن استيلاء رموزالنظام البائد علي مئات الالاف من الامتار المربعة من الاراضي في مواقع مميزة في مدينة الخرطوم. عمليات الاستيلاء علي هذه الاراضي تمت بشكل منظم عبر سن اللوائح و القوانين وتبني السياسات التي تسمح بذلك. هذا الاستغلال البشع للسلطة لتمكين البعض من امتلاك هذه الاراضي لن تنتهي اثاره باسترداد هذه الاراضي لانه ساهم بشكل كبير في تشكيل المشهد الحضري المذري وغير العادل الذي يميز للعاصمة حاليا مما اثر علي نوعية الحياة اليومية لقطاعات واسعة من السكان وحد من وقدرتهم علي تلبية احتياجاتهم الأساسية.
- استكشاف جوانب التهميش و الاستغلال في سياسات وممارسات التخطيط العمراني
رغم ان ما تكشف في هذه المؤتمرات ليس جديدا بالنسبة لنا كمخططين مدن شهدوا هذا التواطوء الكبير من مؤسسات التخطيط العمراني و ادارة الاراضي الذي سمح لمنسوبي النظام البائد من الاسلاميين و المواليين لهم بوضع يدهم علي هذه الاراضي. الا ان ما دفعني لكتابة هذا المقال هو المفارقة التي تميز بها المؤتمر بتاريخ 7 مايو الجاري و التي تكشف عن مدي التهميش و الاستغلال في سياسات و ممارسات التخطيط العمراني و ادارة الاراضي في فترة النظام البائد. الامر المضحك المبكي تمثل في المقارنة بين مممتلكات عضو مجلس السيادة محمد الفكي من جانب و ممتلكات المدعو نور الدائم صهر الرئيس المخلوع من الجانب الاخر. حيث كشف محمد الفكي عن ممتلكاته و منها بيت في حي الصحفيين. لمن لا يعرف حي الصحفيين هذا فهو يقع جنوب شرق مشروع السليت جنوب ما يعرف بمدينة الوادي الاخضر التي تم توزيعها كخطة اسكانية لعشرات الالف من المستحقيين للسكن الفئوي. تم تخصيص هذا الحي، الذي تم بناءه وفقا لنموذج الاسكان الشعبي، لإسكان الصحفيين. رغم انه تم الترويج لهذا المشروع الذي تم بشراكة مابين الإتحاد العام للصحفيين السودانيين وصندوق الإسكان والتعمير ولاية الخرطوم، كإنجاز كبير لحل مشكلة السكن بالنسبة لفئة الصحفيين الا ان الواقع يكذب هذا الادعاء. وذلك لعدة اسباب نذكر منها:
- اولا هذا الحي بعيد جدا عن الخدمات الحضرية حيث انه يبعد اكثر من 20 كيلومتر عن مركز الخرطوم ، يحتاج السكان المفترضين قطعها يوميا للوصول الي اماكن العمل و الخدمات الصحية و التعليمية خاصة المدارس الثانوية و الجامعات و غيرها، بالاضافة للتسوق و الترفيه. مما يزيد الطين بلة عدم توفر مواصلات و اذا وجدت فالوصول الي المنطقة الحضرية مكلف ماديا و بدنيا. وهو ما يتنافي مع طبيعة العمل الصحفي و الذي يتطلب سرعة الوصول الي مواقع الاحداث.
- ثانيا المنازل التي يتم تسليمها للمستفيدين غير كافية لسكن اسره فهي تسلم كنواة لمنزل مكون من غرفة واحدة و مطبخ بالاضافة للمرحاض و السور، و اذا لم يكن لدي المستفيد الموارد الكافية لاكماله في الغالب لن يسفيد منه للسكن. و ما يؤكد ذلك هو ان معظم سكان هذا الحي ليس من الصحفيين بل من بعض الاسر الفقيرة الذين لا يملكون حق الايجار و يسكنون كخفراء للمنازل لحمايتها.
- ثالثة الاثافي هي ان هذا االحي يقع في مجري سيول مما يعني بأنه غير صالح بيئيا و يعرض السكان لمخاطر كبيرة في فترة هطول الامطار كما يحدث سنويا. رغم انه تم عمل سد ترابي ضخم من الناحية الشرقية للحي كما يظهر في الصور الجوية لقوقل ايرث، الا انها حماية ضعيفة لن تصمد كثيرا مع الامطار الغزيرة التي يشهدها اقليم الخرطوم في السنوات الاخيرة.
ففي الوقت الذي كانت تخصص هذه الاراضي العراء غير الصالحة للتعمير في اطراف المدن لسكن عامة الشعب بل لمن يعملون في ما يعرف بالسلطة الرابعة المنوط بها كشف الفساد و سوء استغلال الموارد و الدفاع عن حقوق و كرامة الشعب، كان بعض المخططين و مهندسي المساحة و مفتشي الاراضي ممن تم تعيينهم وفقا لسياسة التمكين، يبحثون في خرائط و سجلات الاراضي للمساحات الشاغرة في وسط الاحياء السكنية القديمة و جيوب الاراضي الزراعية ليستفيد منها اولياء نعمهتهم و شركائهم من رموزالنظام البائد. وقد اظهر المؤتمر الاخير ان جزء فقط من الاراضي التي يمتلكها صهر الرئيس المخلوع تجاوزت ال 10 الف متر مريع في حي كافوري الذي يقع في قلب العاصمة (انظر الشكل رقم 1). هذه المساحات اذا استغلت بشكل عادل كان يمكن ان تبني في شكل شقق سكنية و تملك لنفس فئة الصحفيين. هذه المساحة يمكن ان توفر حوالي حوالي 200 شقة بمساحة 120-130 متر مربع بارتفاع مباني لا يتجاوز خمسة طوابق (انظر الشكل رقم 2 ). هذه التقديرات استندت علي فكرة ان يتم تشييد أقل من نصف المساحة للمباني و يترك المتبقي كحدائق ملحقة بالسكن وهو احد المتطلبات المكانية الرئيسية خاصة للنساء وكبار السن و الاطفال، لقضاء اوقات الفراغ و الترفيه و اللعب هو يعتبر بديل للحوش. و ايضا لتحسين بيئة السكن و الحماية في حالة هطول امطار غزيرة. كما يمكن ان يخصص جزء من المساحة كمواقف للسيارات.
تفاصيل هذه التقديرات الاولية لعدد الشقق التي كان بالامكان توفيرها في القطع المستردة من صهر الرئيس تشمل الاتي: هنالك سبعة قطع تتراوح مساحاتها بين 1080 – 1600 م2 يمكن ان توفر كل منها 20 شقة في مبني بارتفاع خمسة طوابق و اربعة شقق في كل طابق بمجموع حوالي140 شقة. اما القطعة بمساحة 3217م2 يمكن ان توفر 40 شقة في مبنيين و القطعتين اقل من 1000 م2 يمكن ان تقوم بكل منهما مبني خمسة طوابق في كل طابق شقتين بمجموع 10 شقق. و بالتالي ستوفر هذه القطع مجتمعة حوالي 200 شقة. طبعا في حالة استغلال هذه الاراضي من قبل الملاك امثال نورالدائم يسمح لهم، حسب لائحة المباني 2008، ببناء نسبة 75% من الارض اذا كانت سكنية اما اذا كانت استثمارية يسمح ببناء كل المساحة بنسبة 100% و لارتفاع يصل الي 10 طوابق و بالتالي يمكن للمالك تحقيق ارباح طائلة دون ان يوفر سكن ملائم يفي باحتياجات السكان.
![]() |
شكل رقم (1): موقعي كافوري و حي الصحفيين |
ان هذه الأراضي التي كانت مملوكة للحكومة تمت خصخصتها لمصلحة منسوبي النظام البائد و المواليين لهم وفقًا لسياسة استبدال الأراضي والبيع الاستثماري و تغيير غرض الاراضي الزراعية الموجودة في شكل جيوب داخل المنطقة الحضرية. الاخيرة استفاد منها مسؤولين كبار مثل علي كرتي. كان يمكن ان توفر هذه الاراضي الاف الشقق السكنية في هذه المواقع التي تتوفر فيها الخدمات و مما يلبي الطلب علي السكن و يساعد في ايقاف التمدد الافقي الذي فشلت الخدمات و البنيات التحتية من مواكبته. الا انه بدلا من ذلك تم خداع مستحقي السكن الفئوي بتوزيع الاف القطع سكنية وفقا لنموذج الموقع و الخدمات (Site and Services) في مواقع نائية مثل الخوجلاب و الوادي الاخضر و غيرها من المواقع التي لم تعمر حتي الان رغم مرور ما يقارب ال20 عاما، و بالتالي لم تساهم في حل مشاكل السكن لهذه الفئات. و حتي المواقع التي خططت في بداية 1990 مثل مدينة الازهري في موقع الحزام الاخضر و مدينة البقعة امدرمان جنوب ابوسعد لم يكتمل تعميرها حتي الان. بل المفارقة ان مدينة الازهري التي وفرت 17 الف وحدة سكنية كان يمكن استيعابها في داخل المنطقة الحضرية القديمة دون الحوجة لاستهلاك مزيد من الاراضي.
حيث كان بالامكان تبني بدائل اخري لتوفير السكن و خاصة في حالة السكن الفئوي، مثلا ان تخصص اراضي للنقابات الفئوية لتقوم ببنائها لصالح منسوبيها في شكل شقق وهو مقترح كان مقدم من نقابة المهندسين قبل انقلاب الانقاذ. لكن تكالب الانقاذيين لحيازة الاراضي بشتي السبل و فشل مؤسسات التخطيط العمراني علي فهم و تنفيذ مقترحات زيادة الكثافة كأهم مقترحات خطة تنمية الخرطوم (1990-2000) ، ادي الي تضييع فرصة ثمينة علي مدينة الخرطوم لتنمو بطريقة ذكية و متوازنة و منصفة. ان المساحات التي تم بيعها و تخصيصها في مدينة الخرطوم شمال الحزام الاخضر تفوق العشرة كيلومترات مربعة (انظر الشكل رقم 3) كان يمكن ان توفر اكثر من 30 الف شقة سكنية اذا تم تخطيطها في شكل مجاورات متعددة الاستخدامات بكثافة متوسطة لتلبية المتطلبات المكانية بشكل متكامل و متوازن لتلبية الاحتياجات الانسانية المختلفة. مما يسهم في تحسين نوعية الحياة اليومية للسكان يفئاتهم المختلفة من حيث الجندر، العمر و الخلفيات الاقتصادية-الاجتماعية. هذه التقديرات باعتبار ان المساحة المستغلة للمباني فقط 10% من المساحة الكلية وان لا يتجاوز ارتفاع المباني خمسة طوابق. المتبقيمن المساحة ستكون عبارة عن شوارع ، ممرات و مساحات خضراء و ملاعب و مرافق عامة و محلات للانشطة التجارية و الخدمية. هذا التصور لا يمكن ان يتم تطويره بشكل فوقي من قبل مؤسسات التخطيط و التنمية العمرانية بل يشترط ان يكون عبر مشاركة واسعة من كل قطاعات المجتمع ذوي المصلحة وحشد لموارد المجموعات الفئوية و خاصة المغتربين. وهو شرط لم يكن متوفرا بسبب الهيمنة التي فرضها النظام منذ مجيئه علي هذه المؤسسات و بالتالي علي كل عمليات التخطيط و التصرف في الاراضي و التنمية العمرانية. الاستغلال الامثل لهذه الاراضي الحكومية كان سيساهم في تحسين البيئة المبنية لعامة الناس الا ان احتكار هذه المواقع المميزة لحفنة من سدنة النظام البائد حرم الغالبية من هذا الحق في ارض هي ملك للدولة و ليس للنظام الحاكم.
![]() |
شكل رقم (3) المواقع التي تم التصرف فيها كأراضي استثمارية في الفترة من 1989-2019 |
ختاما
هذه الاضاءة السريعة حول احد جوانب التهميش و الاستغلال في سياسات و ممارسات التخطيط و تخصيص الاراضي في الخرطوم القصد منها كشف الابعاد الخفية لقضايا فساد سدنة النظام البائد المرتبط بالاراضي. و من اهمها معرفة الدور الذي لعبه بعض الافراد في هذه المؤسسات من مهندسين ، مخططين، مفتشي اراضي و ايضا خبراء التخطيط الحضري الذين اضاعوا علي المدينة فرص ثمينة لكي تنمو بشكل متوازن و منصف بانحيازهم للطبقة الحاكمة. مما ساهم في خلق هذا الواقع المزري و الذي بالتأكيد يؤثر علي نوعية حياة الغالبية العظمي من السكان ويحد من قدرتهم علي تحسين اوضاعهم المعيشية و يحط من كرامتهم الانسانية. لذا فان محاسبة كل من شارك سواء بوضع السياسات او الانحياز في الممارسة العملية يجب ان يحاسبوا كشركاء في الجريمة. من يجب ان لا يتم التعامل مع هذه الاراضي و العقارات المستردة كسلع يعاد بيعها لتغذي خزينة الدولة، علما بأن من يستطيع الشراء هم نفسهم الاثرياء الجدد الذين تكاثروا في فترة الانقاذ. بل يجب ان تستغل هذه الاراضي لتوفير السكن الملائم لذوي الدخل المحدود و المهمشين من ابناء هذا الشعب و لخلق التوازن المطلوب في استخدامات الارض الذي يلبي المتطلبات المكانية لكل فئات المجتمع من حيث الجندر، العمر، و الوضع الاقتصادي-الاجتماعي. هذا العمل لا يتم في المكاتب المغلقة وفقا لرؤي محدودة بل يجب ان يتم بعملية تشاركية واسعة يمثل فيها كل اصحاب المصلحة و تحشد لها الموارد.
ان شعار الثورة السودانية الاشمل “حرية، سلام ، وعدالة” الذي ضحي من اجله ارتال الشهداء من الشباب لن يصبح واقعا الا بتغيير علي الارض يسمح بانتاج مساحات جديدة تمثل الاعدادات الاساسية للتغيير الاجتماعي المنشود. وكما يقول الفيلسوف الفرنسي هنري ليفيفر (Henri Lefebvre 1901-1991)
تغيير الحياة! تغيير المجتمع! هذه المبادئ لا تعني شيئًا بدون إنتاج مساحة مناسبة […] العلاقات الاجتماعية الجديدة تتطلب مساحة جديدة ، والعكس بالعكس.
“‘Change life!’ ‘Change society!’ These precepts mean nothing without the production of an appropriate space […] new social relationships call for a new space, and vice versa.” (Lefebvre, The Production of Space, 1991, p. 59)
ياعزيزتي صدقا لكلامك..لدي استحقاق في خطه اسكانيه فئويه درجه اولي بعد خدمه ٣٠عام.افادوا بانه لاتوجد اراضي وايضا زوجي خطه اسكانيه درجه اولي لاتوجد اراضي الا في الخوجلاب وخوفا من ضياع الفرصه وافق زوجي علي اخذ قطعه بالخوجلاب.. وبعد محاولات عده قدمت اوراقي الي َمدير التخطيط العمراني وبعد امشي وتعال قال زوجي عنده قطعه… في حين هناك قانون يحق باعطاء المراه العامله التي تمت ٢٠ سنه خدمه قطعه وهناك سوابق لزملاء كثيرين تحصلوا عليها… الي الان في الانتظار.. نرجو توجيهي والمساعده لحل المشكله