
رواية المؤرخ اليوناني ديودورس (القرن الأول قبل الميلاد) عن السودانيين القدماء، والذين كان يسميهم بالاثيوبيون كما كان يفعل معظم المؤرخين اليونانيين. وقد تم وصف الأثيوبيون في معظم كتابات هؤلاء المؤرخين، بأنهم الشعوب التي كانت تسكن جنوب مصر، وبالطبع لم يكن هنالك سوى الكوشيين او السودانيين القدماء في هذه المناطق. ونستخدم هنا عبارة “السودانيون القدماء” 0ld Sudanese لتعطى انطباعاً أكثر لدي القراء بأن الشعب الحالي الذي يسكن في السودان الحديث هم من احفاد تلك الشعوب القديمة التي سكنت في نفس المنطقة الممتدة على النيل، وما جاورها من مناطق، في نفس حدود السودان الحديثة وحتى منطقة اسوان، والتي تم ضمها لمصر الحديثة في عهود الاستعمار التركي والانجليزي للمنطقة. أسس السودانيون القدماء حضارة عظيمة سادت في العالم القديم وكان لها التأثير الكبير على معظم الحضارات القديمة، سواء كانت في شمال الوادي في مصر القديمة او الحضارات الاسيوية والاوربية القديمة.
ويبدو ان ديودورس اخذ راويته عن السودانيين القدماء من مؤرخين يونانيين آخرين كان لديهم علم بعاداتهم وتقاليدهم واسس حضارتهم. ومن الأشياء الجديرة بالانتباه، ذكره ان اللغة الهيروغليفية والديموطيقية هي لغات سودانية قديمة انتقلت الى مصر القديمة. وكذلك ذكره ان معظم الرموز والطقوس الدينية وملابس الكهنة والملوك قد انتقلت أيضا من حضارة السودان القديم الى مصر القديمة، والتي كانت في الأساس مستعمرة تابعة لهم.
1 عن الإثيوبيين الذين سكنوا خارج ليبيا وآثارهم (الكتاب الثالث، الفصول 1-7).
من بين الكتابين السابقين، يحتوي الأول على أفعال الملوك الأوائل في مصر وحسابات آلهة المصريين كما وردت في أساطيرهم. هناك أيضًا نقاش حول النيل ومنتجات الأرض، وكذلك تربية الحيوانات، التي كانت تتواجد من كل نوع، كما يتواجد ووصف لتضاريس مصر، والعادات السائدة بين سكانها، ومحاكمها القانونية. يحتوي الكتاب الثاني على الأعمال التي قام بها الآشوريون في آسيا في العصور المبكرة، والتي ترتبط بميلاد سميراميس وصعوده إلى السلطة، حيث أسسوا بابل والعديد من المدن الأخرى وشنوا حملة ضد الهند بجيوش عظيمة، ويلي ذلك سرد عن الكلدانيين وممارستهم لمراقبة النجوم، وعن شبه الجزيرة العربية وعجائب تلك الأرض، ومملكة السكيثيين Scythians، والأمازون، وأخيرًا الهايبربريون (Hyperborean) ]قبائل اسطورية عند اليونان[. في هذا الكتاب سنضيف الأمور المتعلقة بما رويت بالفعل، وسنصف الإثيوبيين] الكوشيين-السودانيون القدماء[ والليبيين والشعب المعروف باسم الأطلنطيين.
- 2.الإثيوبيون]الكوشيون-السودانيون القدماء[ كما يروي المؤرخون ، كانوا أول الجنس البشري؛ ,جميع البراهين واضحة على هذا الكلام. ذلك لأنهم لم يأتوا إلى أرضهم كمهاجرين من الخارج، ولكنهم كانوا من مواطنيها الأصليين، ولذلك فإنهم يحملون اسم “الأوتشثونز” “autochthones” ] الانسان الاصلي [، كما يؤكد جميع المؤرخين على ذلك؛ علاوة على ذلك، فإن أولئك الذين يسكنون في مناطق ارتفاع حرارة الشمس، كانوا على الأرجح، أول من ولدتهم الأرض، وهذا واضح للجميع؛ نظرًا لأن حرارة الشمس التي جففت الأرض عند ميلاد الكون، عندما كانت لا تزال رطبة ومشبعة بالحياة، ومن المنطقي أن نفترض أن منطقتهم الأقرب للشمس، كانت أول هي من أنجب الكائنات الحية. ويقولون إنهم كانوا أول البشر الذين كرموا الآلهة وإقامة الذبائح والمواكب والاحتفالات وغيرها من الطقوس التي يكرمون بها الآلهة؛ ونتيجة لذلك، تم نشر رؤاهم الدينية في الخارج بين جميع البشر، ويُعتقد عمومًا، أن التضحيات الدينية التي يمارسها الإثيوبيون هي أكثر تضحيات تُرضي الهة النعيم. وكشهادة مني على ذلك، فإن ترانيمهم الدينية ربما كانت الأقدم والأكثر تبجيلًا بين اليونانيين؛ لأنه في الإلياذة يفسر غياب كلاً من زيوس] أب الآلهة والبشر [وبقية الآلهة، على انهم في زيارة إلى إثيوبيا ] السودان القديم[ للمشاركة في التضحيات والمأدبة التي أقامها الإثيوبيون سنويًا لجميع الآلهة معًا:
زيوس كان بالأمس في حدود المحيط
انطلق لتناول وليمة مع رجال إثيوبيا الذين لا عيب فيهم،
وتبعه هناك جميع الآلهة.
ويذكرون أنهم بسبب ايمانهم القوي بالإلهة، فانهم تمتعوا بمحاباتها لهم، حيث أنهم لم يختبروا أبدًا حكم مستعمرين من الخارج؛ ولذلك كانوا في كل الأوقات يتمتعون بالحرية والسلام مع بعضهم البعض. على الرغم من أن العديد من الحكام الأقوياء قد شنوا الحرب عليهم، إلا أن أحداً منهم لم ينجح في مهمته.
3 على سبيل المثال شن قمبيز]حاكم فارسي، 550 قبل الميلاد[ Cambyses ، الحرب عليهم بقوة كبيرة، وخسر كل جيشه وتعرض هو نفسه لخطر كبير. أيضا سميراميس ]ملكة آشورية 800 ق.م. [Semiramis، والتي اشتهرت بضخامة فتوحاتها الحربية، فبعد أن تقدمت حتى وصلت قرب إثيوبيا، لكنها تخلت عن حملتها ضدهم. بالرغم من حملات هرقل وديونيسوس وصلت لكل البلدان، إلا أنهم فشلوا في إخضاع الإثيوبيين، الذين يعيشون تحت مصر، وذلك بسبب تقوى هؤلاء القوم، وبسبب صعوبة هزيمتهم، عند محاولة شن الحرب عليهم.
يقول المؤرخون أيضًا أن المصريين هم مستعمرون أرسلهم الإثيوبيون، وقد كان أوزوريس زعيمهم. ويقولون بشكل عام إن ما يعرف الآن بأرض مصر، لم تكن وقتها يابسة، بل كانت مليئة بالمياه، عندما كان الكون في بداية تشكله. تكونت اليابسة نتيجة لفياضات النيل المتكررة، حيث يحمل معه كميات كبيرة من الطمي، والتي ترسبت على المدى الطويل في ارض مصر. كما أن القول بأن كل أرض المصريين عبارة عن طمي يرسبه النهر يلقى أوضح دليل في رأيهم مما يحدث عند منافذ النيل. نظرًا لأنه في كل عام يتجمع الطين الجديد باستمرار عند مصبات النهر، حيث يُلاحظ أن المياه تتراجع عن طريق الطمي المترسب وتزيد اليابسة باستمرار.
ومعظم عادات وتقاليد المصريين هي اثيوبية، حيث ان المستعمرين هنا ما زالوا يحافظون على عاداتهم القديمة. على سبيل المثال، اعتقاد المصريين بأن ملوكهم هم آلهة، والاهتمام الخاص للغاية الذي يولونه لدفنهم، والعديد من الأمور الأخرى ذات الطبيعة المماثلة، هي في الأصل ممارسات إثيوبية. كما أن تصاميم تماثيلهم وأشكال حروفهم كانت أيضا ً إثيوبية. كان هنالك نوعين من الكتابة لدى المصريين، الأولى هي ما تعرف بـ “الشعبية” ]الديموطيقية[ ويتعلمها الجميع، والثانية تسمى “المقدسًة” ]الهيروغليفية[ وكانت لا يفهمها إلا الكهنة الذين تعلموها من آباؤهم، وهي لغة لا يكشف عنها لجميع المصريين، ولكن جميع الإثيوبيين كانوا يستخدمون هذه الكتابات. علاوة على ذلك، فإن مناصب الكهنة، كانت تتشابه بين الشعبين؛ وكان جميع الكهنة طاهرون ومنخرطون في خدمة الآلهة، ويحلقون رؤوسهم، تماماً مثل الكهنة الإثيوبيين، ولديهم نفس اللباس الكهنوتي وكذلك شكل العصا، والذي يشبه المحراث ويحمله أيضا ملوكهم، والذين يرتدون ملابس وقبعات طويلة تنتهي بشكل المقبض في الأعلى، وتحيط بها الثعابين التي يسمونها الأفاعي الناشرة asp؛ ويبدو أن هذا الرمز يحمل فكرة أنه سيكون نصيب أولئك الذين يجرؤون على مهاجمة الملك مواجهة لسعات الافعى التي تقود الى الموت. وعن طريق المؤرخين تم إخبارنا بالعديد من الأشياء الأخرى التي تشمل آثار الاثيوبيين القديمة والغزوات الاستعمارية التي أرسلوها، والتي أصبحت فيما بعد مصرية، ولكن ليس هناك حاجة خاصة لكتابة أي منهم.
- يجب أن نتحدث الآن عن الكتابة الإثيوبية التي تسمى بالهيروغليفية بين المصريين، حتى لا نتجاهل شيئًا في مناقشتنا لآثارهم. أشكال حروفهم كانت تأخذ شكل الحيوانات من كل نوع، وكذلك أعضاء الجسم البشري، والأدوات، وخاصة أدوات النجارين؛ لأن كتاباتهم لا تعبر عن المفهوم المقصود من خلال مقاطع لفظية مرتبطة ببعضها البعض، ولكن عن طريق أهمية الأشياء التي تم نسخها ومعناها المجازي الذي أثر في الذاكرة بالممارسة. على سبيل المثال، يرسمون صورة صقر وتمساح وثعبان وأعضاء جسم الإنسان – عين ويد ووجه وما شابه ذلك. الصقريدل على كل ما يحدث بسرعة، لأن هذا الحيوان هو عمليا أسرع المخلوقات المجنحة. ثم يتم نقل المفهوم الذي يتم تصويره، عن طريق النقل المجازي المناسب، إلى كل الأشياء السريعة وإلى كل شيء تتناسب معه السرعة. والتمساح هو رمز لكل شر، والعين حارسة للعدل، وحارسة للجسد كله. وأما أعضاء البدن، فاليد اليمنى بالأصابع ممتدة تدل على الطلب في الرزق، واليسرى بالأصابع المغلقة، تدل على حفظ وحراسة الأموال. ينطبق أيضا ً نفس هذا التفسير على الاشياء المتبقية، والتي تمثل أجزاء الجسم والأدوات وجميع الأشياء الأخرى؛ لأنه من خلال الاهتمام الشديد بالأهمية المتأصلة في كل شيء، وعن طريق تدريب عقولهم من خلال التمرين وتمرين الذاكرة على مدى فترة طويلة، فإنهم يقرؤون بحكم العادة كل ما كتب.
- أما بالنسبة لعادات الإثيوبيين، فلا يُعتقد أنها تختلف اختلافًا كبيرًا عن عادات بقية البشر، لكن تختلف بشكل خاص على تلك التي تتعلق باختيار ملوكهم. على سبيل المثال، يقوم الكهنة بالاختيار من أنبل الرجال الموجودين، وأي واحد من هذه المجموعة يختاره الاله، فانه وفقًا لممارسة معينة لهم يُحمل في موكب بواسطة الجمهور الى ملكهم وعلى الفور يعبده ويكرمه مثل الإله، معتقدًا أن السيادة قد أوكلت إليه من قبل العناية الإلهية. والملك الذي تم اختياره على هذا النحو يتبع نظامًا تم تحديده مسبقاً وفقًا للقوانين، ويؤدي جميع أعماله الأخرى وفقًا لعرف الأجداد، ولا يحابي ولا عقوبة لأي شخص مخالف للعرف الذي تمت الموافقة عليه بينهم من البداية. ومن عاداتهم أيضًا أن الملك لا يقتل أحدًا من رعاياه، حتى لو حكم على عليه بالإعدام ويعتبر مستحقًا للعقاب، ولكن يجب أن يرسل للمذنب أحد حاشيته يحمل رمز الموت؛ وهذا الشخص المذنب عند رؤية هذا التحذير الملكي، يتقاعد على الفور في منزله، ويخرج نفسه من الحياة. علاوة على ذلك، لا يجوز بأي حال من الأحوال هروب الرجل من بلده إلى بلد مجاور وبالتالي الابتعاد عن موطنه لدفع غرامة تجاوزه، كما هو موجود عند الإغريق. ويقولون بناءً على ذلك، عندما يرسل الملك رمز الموت الى المذنب، ويقرر الفرار من إثيوبيا، فأن والدته عندما تعلم بذلك، فإنها تربط رقبته بحزامها، ولا يجرؤ على ان يرفع يديه عليها بأي شكل من الأشكال، ويخضع للخنق حتى يموت، وذلك حتى لا يسبب عارًا لأقاربه.
- هنالك عادة مثيرة للدهشة، من بين كل عاداتهم، وتتعلق بكيفية وفاة أحد ملوكهم. بالنسبة للكهنة في مروي الذين يقضون معظم أوقاتهم في عبادة الآلهة وممارسة طقوس التبجيل، ولأنهم من العظماء ذوي المناصب العليا، فكلما جاءتهم الفكرة، أرسلوا رسولًا إلى الملك يطلبون فيه موته. ويضيفون أن الآلهة قد كشفت لهم هذا الأمر، ويجب ألا يتجاهل الذين هم فانون أوامر الخالدين بأي حال من الأحوال. وهذا الامر يرفقونه مع حجج أخرى، مثل تلك المقبولة من قبل الناس بسيطة التفكير، وتلك التي يتم صياغتها في شكل العادة القديمة، والتي يصعب معارضتها، حيث لا توجد حجة يمكن وضعها في مواجهة هذه الأوامر والتي يتم فرضها بدون إكراه. في الأزمنة السابقة كان الملوك يطيعون الكهنة، لأنهم دائما كانوا يهزمون، ليس بالسلاح او بالقوة، ولكن بقوة المنطق الموجود في خرافاتهم ذاتها؛ ولكن إرغامينس ملك الإثيوبيين، في عهد بطليموس الثاني، والذي تلقى تعليمًا يونانيًا ودرس الفلسفة، كان هو أول من تحلى بالشجاعة واستخف بهذه الأوامر من الكهنة. وعندما تولي منصب الملك، دخل مع جنوده إلى المكان الذي لا يمكن الاقتراب منه، حيث وقف امام الضريح الذهبي للإثيوبيين، وهدد الكهنة بالقتل. بعد إلغاء هذه العادة أمر ان تكون هذه وصيته.
- وكما يقولون بالنسبة للعادات التي تمس أصدقاء الملك، فهي غريبة حتى زماننا هذا. بالنسبة للأثيوبيين، فإنهم يقولون إنه إذا تعرض ملكهم للتشويه في جزء من جسده لأي سبب كان، فإنه يجب على جميع رفاقه عمل نفس التشويه وبإرادتهم الحرة؛ لأنهم يعتبرون أنه سيكون أمرًا مخزي ان يكون أصدقاء الملك اصحاء، بينما الملك مصاب في ساقه على سبيل المثال، ولا يجب أن يتبعوا الملك وهو يعرج عند خروجهم معه من القصر؛ لأن من تمام الصداقة الراسخة، المشاركة في الحزن والأسى والمشاركة على قدم المساواة في كل الأشياء الأخرى خيراً كانت او شراً، وان يكون لها دور في معاناة الجسد. ويقولون أيضًا إنه من المعتاد أن يموت رفاق الملوك معه من تلقاء أنفسهم، وأن مثل هذا الموت هو موت مشرف ودليل على الصداقة الحقيقية. ويضيفون: ولهذا السبب أنه ليس من السهل حبك مؤامرة ضد الملك بين الإثيوبيين، فجميع اعوانه يهتمون بقدر كبير على حياته وسلامته. وهذه هي العادات التي تسود بين الإثيوبيين الذين يسكنون في عاصمتهم (نبتة) وأولئك الذين يسكنون جزيرة مروي وفي الأرض المجاورة لمصر.
المصدر:
Diodorus Siculus, the Library of History, Books II.35 – IV.58, Translated by C.H. Oldfather, Harvard University Press, 2000