أخبار السودان

شجرة البلاستيك

الشمس الحارقة ترسل أشعتها اللاهبة لتغوص في هامات البنايات القديمة المجهدة الملامح و تنعكس في تناقض غريب من صفحات تلك التي يكسو واجهاتها الزجاج الملون مستفزاً كل الذين يعبرون تحتها وترتسم في مراياها أشباحهم اللاهثة سريعا كظل الطير خطفا ً..وجباه البشر التي تتفصد عرقا يتخلل ثنايا التقطيبات التي تنم عن فوران الدواخل وتوتر المشاعر التي تهتاج لأقل الأسباب وأتفه الدوافع ..!
يدخل الواحد ساخطاً دون القاء التحية الى الحافلة المتهالكة فإذا ما داس على قدم أحد الركاب فهو لا يعتذر بينما المجني عليه لايعرف التسامح أو حتى تجاوز الحدث غير المقصود .. فيشرئب الجميع على تعالي اصوات المشادة وتصاعد اشتباك السواعد وهم يغالبون تلك الجلسة المؤلمة فوق المقاعد التي إستعصم باكياً من أوجاعة الدائمة باقي فرشها الممزف بقعرها الصديء.. و يتعالى الهرج والمرج بين من يصيح في المشتبكين بأن يباركوها .. وبين من يصب الزيت على نار الفتنة ويتهم الناس في هذا الزمن بعدم الإحساس حينما يصيبون الآخرين بالأذى .. والكمساري الذي لا يعرف وجهه الإبتسامة منذ أن انقطع عن دراسته يناله ايضا نصيب من السب .. فتلك السيدة تطالبه برد الباقي قبل أن ينسى .. فيتطفل من يجلس وراءها بأن يزيدها بيتا من شعر تجاربه مع هؤلاء الكماسرة الذين يستنكحون الركاب ويطنشوا عن رد الفكة لاصحابها على حد تعبيره !
ما أن تترجل في إحدى المحطات حتى تتعثر عيناك و قدماك في كومة من النفايات التي يبدو أنها ليست من مسئؤلية تلك الجهات وهي تصر في صلف وعناد على تحصيل رسومها دون أن تقوم بما هو مقابل ذلك ولو في حده الآدنى !
الناس في الشوارع يسيرون في كل الإتجاهات أرتالا تتضارب كالأمواج في رابعة النهار وساعات الإنتاج .. فيتسأل أحد الزوار الصينيين .. من الذي يعمل في هذه البلاد و الكل يهيم في الطرقات بلا بوصلة إتجاه والحافلات تئن بركابها في كل فج وصوب والطرقات الخارجية يتكدس في شاحناتها و وسائل النقل الخارجة من المدن والداخلة اليها الالاف .. والأجانب هم أكثر حرية في الحركة والعمل وارتياد المخالفات بشتى ألوانها دون ضابط أو رابط !
الأسواق تتدفق البضائع من محلات العرض فيها حتى تكاد تتجاوز الفرندات الى حرمات الشوارع التي ذابت حجارتها وباتت صفة زلط أثراً بعد عين .. فشارع السيد عبد الرحمن الذي كان مثالا للنظافة و استقامة اللون الأسود بين خطوط أطرافه هاهو قد ابتلعته الحفر التي تعلم عندها السائقون لعبة التعرج والزوغان يمنة ويساراً!
لن تستطع تقدير لهفة العيون الجائعة لكل ماهو معروض في الأرفف أو الطرقات وتلك الشفاه التي تتلمظ حسيرة حيال ذلك الدخان الذي يتصاعد من فوهات المشاوي إلا إذا أفرغت محفظتك من النقود لتتذوق طعم الحاجة .. وهذا ما لا يفعله أولي الأمر الذين يعتقدون أن كل جيب قادر على مجاراة تصاعد قيمة الأشياء و يبتسمون مع المسح على الثلاجات المتدلية تحت لحاهم لآنهم جاءوا بالوفرة المستوردة التي لاتحمل من سمات الوطنية أية ملامح ..ولكنهم نسيوا أنهم أتوا معها بالفقر الماحق للحد الآدنى من كرامة العيش التي وجدوها في زمان الندرة ولطالما تقاسم الناس ذاكئذ بطيبة الأنفس نبقة العوز .. وهاهم يشدون بعضهم الآن في خناق بؤسهم تنفيساً من قبيل الضرب على البردعة.. وقد تاهت الطبقة الوسطى التي كانت ميزانا للحياة فسقط جلها الى الأسفل بينما كان السقوط المريع لأقليتها الى أعلى القاع !
ما أبشع حياة تلك المدن التي تبدو زاهية في مبانيها كشجرة البلاستيك خالية من معانيها في سكون يشبه التبلد..فلا رائحة ذكية تفوح منها ولا ثمار مشبعة تتساقط عنها ولا ظلال تنسل من تحتها لتكسر عن تلك الوجوه العابسة قسوة النهار الطويل الذي يسلمهم الى كف ليل تعتصرهم بكوابيس تحسدهم على النوم ولو هلوسة على نغمات البطون الخاوية وهم المتوهمون أنهم يسكنون مدن العاصمة التي غدت قرية كبيرة لاتحدها إلا أطراف المعاناة التي تنتظرهم في صباحات غدهم البائس في تكراره الذي لا يعرف معنىً التجديد !
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..