واَدِي المَطَسْ

في الصحراء، أنت أمام خِيارين، إما أن تتعرَّق أو تموت. زحفنا فوق الرِّمال، مسافة أن تمشي كدّاري، من سنار التقاطع، حتى سندة الحاج عبد الله..!
نجوم الليل وخطوط الريح فوق الكثبان، ترسم وُجهة السادرين.. المرأة تلتقط إشارتك الخفيتة، والشوق لا يُدارَى، وما كل شيء تفضحه عين الشمس.. حسبناه يسخرُ منّا حين قالَ لنا، إن الماء على عمق مترين تحت هيّالة صحراء دارفور.. سافرنا ثلاث ليالٍ في التيه الذي يقع جنوب شرقي جبل العوينات.. ذاك جبلٌ مثل الهم في القلب، يتعارض حدود الجمهوريات الثلاث ــ مصر وليبيا والسودان.
دخلنا وادياً من رمالٍ زاحِفة.. دخلناه في أكتوبر من عام 92 أذكر هذا التاريخ جيّداً، لأنّه شهر زلزال القاهرة.. تُرى كيف هي مدام جندي هُناك، وماذا فعل الله بذاك الدنقلاوي النزِق، الذي استأجر لنا شقّة ماجِنة في طومان باي..؟ قال إن له بقايا أهل ونخل في أمنتجو..هل عاد إلى وطنه، هذا السودان العظيم، أم ضاع في دروب الرحيل..؟
وقف اللوري على سفح حجري.. كانت دارفور صافية كضوء القمر في ليلة التّمام، لكنّ سفّاية رمالها لا تحمل على صدرها بِذرة إنسان أو نبات.. إنّها الصحراء الكبرى في كامِل مِشمشِها.. مسرح رحيب ينعق بالجفا فوق الهالكين. مررنا على شواهد قبورٍ مات أصحابها ربما عطشاً.. لم يُقتَلوا، فالحرب لم تبدأ بعدُ، ولا هذه الصحراء (تترك قتلاً لقاتِل)..
القبور ليست شأن الموتى، بل شأن الأحياء.
في وادي الرمل، أمر السائق مساعدية اللّوري بتنفيس اللساتك.. رمى السواق بإطارٍ ضخم في حُفرة الرمال.. حجز به حوافها من الهيلان.. وبدأ المساعد يحفر بالكوريق..هل يستبق هذا المسكين الحوادث ليحفر قبراً لأحدنا، أم أن لهم كنز في هذه الفلاة..؟
لكن تلك الفلاة روَت عطشي..! مساعدية اللواري يعرِّفون الوادي بهذا الاسم- المَطسْ- لأن من يتباطأ عنده، يغطس في رماله.. نزل المساعد في الدائرة، وبدأ (ينكُت) في العمق.. بعد أن ناصف الحفرة طولاً، صار يرمي علينا بالثرى.. إنّه الماء، يرقد على عمق مترين أو أقل، تحت رمال دارفور الحزينة..!
أي حظٍ لهؤلاء المغبونين من حكايات (كانتربري)..؟
ظهر الجمَّام وامتلأنا بالرَّواء.. إن كان الله قد سقانا في هذا التيه، فلسوف يلهمنا الصبر على العيش في دولة الأحزان في بلاد السودان.. إن شاء يرزقنا ما يُثلج صدورنا، وإن لم يشأ فلا رادَّ لقضائه.
شربنا من مَطَسْ دارفور، الذي كان مجرىً للنيل في زمانٍ قديم. الآن ذاك الوادي هو ميدان الشِّفتة، أهل السلب والحلب، الذين يستمتعون بترقيص الرجال رقصة العروس.
استحممنا وتكاشحنا بالماء، وتركنا البئر التي حفرناها للهبوب.. قال البطل الوحيد في مسرح الصحراء.. قال السوّاق: المكان دا، ياما ماتوا فيهو ناس..
كان خبيراً بالصحراء.. ألقى علينا حكايات مُهشَّمة الأطراف، عن شياطين (تمارَواْ) له في الطريق.. نزلنا نحن الرُّكاب (مغتربو ليبيا الثورة).. نزلنا إلى أرض المعركة.. بعضنا يحمل الصّاجات، وبعضنا بالعيدان.. كنّا نزقّها تحت اللّساتِك واللوري يحبو في الهيَّالة حتى لا يسيخ في الرمال.. الأرض ضاق صبرها، وأهل دارفور حتى ذلك العهد، على تراضٍ مع عاصمة دولة الصَّحابة، لأنها وعدتهم بتطبيق الشريعة.. اشتغلنا مساعدية.. خدمنا اللّساتِك حتى ننجو من المبيت هُناك.. ففي كل مكان من هذه الدنيا، عسس..
قال السوّاق-بطل اللّاجدوى- إنه رأى في أحد أسفاره مارداً أثار العَجاج أمامه، وخاطبه بصوتٍ فيه (نخيخ) أن (يشتِّتْ) من ذاك المكان، وإلا..! استطردنا الأحاديثَ عن شياطين الجن، ونسينا إلى حين، أن شياطين الإنس ينتظروننا في حمرة الشيخ، في الخرطوم، وفي كل قارعة طريق..!

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..