الميوعة الرومانسية تخيم على المسلسلات اللبنانية

تصر الدراما اللبنانية التي تعرض حاليا على الشاشات المحلية على الركون إلى صيغة خارج الزمان والمكان، وعلى تركيب سياقات رومانسية مصطنعة تقحم في السياق العام، وتفرض نفسها عليه سواء كانت البنية العامة تحتمل ذلك أو لا تحتمله. لا تقدم هذه الرومانسية الفظة قصة حب في سياق واقعي يمكن أن يحيل المشاهد إلى واقع أحواله، بل تعمد إلى تقديم صيغ ليست منفصلة عن الواقع فحسب، بل مناقضة له.

تبرز في لبنان في الآونة الأخيرة ظاهرة نقل المسلسلات التي كانت قد عرضت سابقا، ومحاولة لبننتها مثل مسلسل ?متل القمر? المأخوذ عن المسلسل المكسيكي ?ماريمار? والذي سبق أن عرض مدبلجا باللغة الفصحى، وها هو يعرض حاليا في نسخته الناطقة بالعامية اللبنانية تحت عنوان ?متل القمر?.

تركز الدراما اللبنانية على البطل الفرد، وتعنون المسلسل باسم شخصية البطل، ولا تحاول التعبير عن حالة، أوعن موضوع، أو عن قضية. هذا الشكل من التناول الدرامي بات مخلا قياسا إلى التطور الكبير الذي لحق ببنية العمل الدرامي في المنطقة وفي العالم، والذي صار قادرا على منافسة الأعمال السينمائية.

أهم الكتاب يتنافسون على تقديم القصص الجديدة التي تحمل غالبا إحالات سياسية واجتماعية، ويتنافس كبار المخرجين على تقديم رؤية إخراجية مبهرة، جعلت الدراما حالة مميزة تحظى باهتمام ومتابعة الملايين من المشاهدين في كل بقاع الأرض.

لا يطلب من الدراما اللبنانية اللحاق بتيارات الدراما العالمية ومنافستها، نظرا لعدم القدرة على منافسة التمويل الكبير الذي تشترك فيه أحيانا عدة دول، ولكن يطلب منها فقط تقديم قصص مناسبة تتصل بالشأن اللبناني أو العربي، وترتبط باهتمامات المشاهد العادي، وأن تعرضها ضمن منطق إخراجي معقول لا يسود فيه هذا القدر من التشتت وغياب التركيز.

تغييب الاجتماعي عن الدراما اللبنانية أمر غريب في لحظة وجود مناجم من المواضيع والأزمات، التي يمكنها إذا ما أدرجت في سياق نص جيد، وتوفرت لها البنية الإخراجية المناسبة، أن تشكل مادة لأعمال تستوفي كل شروط الدراما القيمة والناجحة، من هنا نستنتج أن هذا التغييب للاجتماعي عن سياقات الدراما اللبنانية، إنما هو تغييب مقصود.

في مسلسل ?سمرا? الذي يعالج مسألة مكتومي القيد، وهي مسألة ذات أبعاد اجتماعية وسياسية مهمة، يتم إظهار هذا الموضوع الأساسي بوصفه مجرد خلفية لقصة الحب الرومانسية التي تعيشها البطلة كثيرة العشاق. يتم التعامل مع المسألة الاجتماعية الخطيرة بوصفها مجرد ?عائق غرامي? ليس إلاّ، وتتخذ الدور الذي كان يؤديه الحساد والعوازل في الحكايات الشعبية المألوفة. تفرغ المسائل من أبعادها العميقة لصالح الخواء والبهرجة، فيظهر المسلسل كأنه استعراض لأزياء مبهرجة وجميلة، ولكن المشكلة الحقيقية، والذي كان يفترض به تقديم رؤية عميقة ومختلفة عنها، تبقى خارج عناية صناع المسلسل، وتظهر بوصفها عنوانا فرعيا بائسا، تتفوق عليه تلك الرغبة العارمة في تقديم مشاهد الغرام، واستعراضات الأثاث والأزياء.

الدراما اللبنانية مطالبة فقط بتقديم قصص مناسبة تتصل بالشأن اللبناني أو العربي، وترتبط باهتمامات المشاهد العادي

مسألة أخرى شديدة الأهمية تحرص الدراما اللبنانية المعروضة حاليا على تصويرها في مسلسلات مثل ?متل القمر? و?سمرا?، تتعلق بالتفسير الذي تقدمه لكيفية الوصول إلى السعادة.

تنبني لعبة الدراما على التناقض بين عالمين: عالم الغنى الباذخ، وعالم الفقر المدقع، وتحرص على تصوير هذه الثنائية بوصفها نوعا من القدر الطبيعي، الذي لا سبيل لمناقشته ولا الاعتراض عليه.

تتفنن في تصوير أثاث البيوت الباذخ، ومظاهر الغنى الفاحش وفي عرض الديكورات، والتحف، والملابس، وغير ذلك من علامات الثراء في مقابل مظاهر الشظف، والبؤس وسوء الحال. الفكرة التي تقدم في نهاية المطاف تربط إمكانية وصول البطل الذي يكون غارقا في الفقر والمعاناة إلى السعادة عبر تخريجة ما، تنقله بسحر ساحر من طبقته الفقيرة إلى حالة الثراء، إما عبر اكتشاف نسب مجهول يربطه بأب ثري أو أسرة غنية، أو عبر علاقة ما بشخص من علية القوم تقوم وظيفته بنقل البطل إلى حالة السعادة، وتمكينه من الانتصار على خصومه، وتحقيق كل ما كان يصبو إليه.

خبث هذه المعالجة يتبع سياقا كان سائدا في المرويات القديمة كألف ليلة وليلة مثلا، حيث تنقلب أحوال الصياد الفقير حين يلتقي بالخليفة الذي كان يتنزه متخفيا على الشاطىء، فيقرر إغداق النعم عليه ونقله إلى حالة الهناء والبهجة. هذا المنطق يسلب من الشخصيات القدرة على الإمساك بزمام قرارها ومصيرها، ويتحالف مع بنية السلطة التي كانت قائمة وتلك التي تسود حاليا، حيث يقدم نماذج سلبية تنتظر أن تمن عليها الفئات العليا بالسعادة التي لا تستطيع الحصول عليها انطلاقا من قدراتها الذاتية، ولا من خلال تعزيز صفات إيجابية تملكها.

السعادة هي هبة الملك أو السلطان أو الحاكم الذي من الممكن أن يكون البطل قريبا له، ويمكن الحصول عليها كذلك في حال استحسن أمير، أو فارس، أو ?بيك? ما البطلة الفقيرة، فيهبها السعادة كهدية مجانية مقابل أن تحبه وتخلص له إلى الأبد.

هذا هو خطاب الدراما اللبنانية الحالية، وهو خطاب لم يعد كافيا القول إنه ممجوج، بل يعكس استسهالا فظيعا حتى في عملية الترويج لأبدية البنى القائمة وطبيعتها. الجمهور ليس بهذه السذاجة التي يفترضها منتجو هذه الدراما المعادية للهم الاجتماعي.

تكفي إطلالة سريعة على التعليقات وردود أفعال الجماهير على وسائل التواصل الاجتماعي، للكشف عن أن الجمهور بات يتلقاها بوصفها مادة للسخرية، وربما يكمن سر وجودها واستمرارها في هذا البعد بالتحديد.

تعليق واحد

  1. نقد درامي مميز من خبير
    والحال ينطبق علي الدراما السودانية ..فقر من كل النواحي في الفكرة وفي التنفيذ ..سيناريوهات دائماً بائسة وتمثيل عقيم بحق ..لا بهرجة لا اثاث ولا حتي ملابس جيدة..في رمضان الفائت العملاق محمد نعيم سعد ظهر في مسلسلين مختلفين بلباس هندي واحد علي أساس انه درامي سوداني درس في الهند..كيف رضي لنفسه هذا الانزلاق وكيف رضي مخرج جيد مثل ابوبكر الشيخ بالبهدلة دي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..