مقالات سياسية

”خليك مع الزمن” وضد العنصرية اْحتفي برمضان زائد جبريل

ياسر عرمان

المصانع التي انتجت رمضان زائد جبريل ؛أغلقت أبوابها وتوارت خلف سحب الغياب ، وأفل البلد الذي أنجب رمضان زائد قبل الشروق ، ولم يعد موجوداً في الخريطة مثلما كان ذاخراً باطياف البشر واللغات ،آخذاً من مساحة الكرة الارضية مليون ميل مربع! وذلك لأن رمضان زائد المولود في مدينة ملكال من أمٍّ من قبيلة الشلك أو الشلو( نياندينق خديجة عبدالله الجاك) وأب يمتهن التمريض من نواحي كردفان (زائد جبريل) وفي رواية أخرى من العباسية تقلي ، تلك المملكة التي صعد الى جبالها الامام محمد أحمد المهدي ثم قفل عائداً إلى السهل.

ولد رمضان في الثلاثينيات على ضفاف النيل وكان فارعاً ونيلياً جميلاً مثل النهر نفسه ،كان سودانوياً أضاف من أبداعه نكهة جديدة الى عبق السودانوية ، وكان يحمل جوازاً واحداً في رحلته القصيرة الى بلدان الخليج ، أما اليوم فانه يحتاج الى جوازين من بلدين جنوباً وشمالاً للقيام بتلك الرحلة نفسها.

جاء رمضان الى مسرح الحياة من ازدهار الطبقة الوسطى وبدايات الاستنارة وخروج المستعمر، ومن مدني ،مارنجان والموردة والعباسية وديوم الخرطوم وديوم بحري وجمال الموسيقى وسحر الايقاعات السودانية و الافريقية ومدرسة الخرطوم الوترية ، وأطلّ مع اطلالة الطبقة الوسطى وتاثيرها على الابداع وأخذ من سمات أحياء الخرطوم القديمة التي تحفل بقضايا التنوع ومعضلات البناء الوطني وجراح العنصرية ، تلك الاحياء التي قدمت اجيالا بعد أجيال للحركة الوطنية وللابداع واعطت ولم تبخل بالموسيقين والعازفين المهرة (عبدالفتاح الله جابو ورهطه) ودفعت بالنساء نحو التمريض والطب وكانت خالدة زاهر وقبلها بدايات العسكرية والضباط الوطنيين الشجعان وسجلت تلك الأحياء العظيمة اسماء ابنائها في أعلى سجلات المراسم الوطنية ، ومن تلك الاحياء ومن محيطها الاجتماعي خرج علي عبد اللطيف وحاجة العازة محمد عبداللة وعبدالفضيل الماظ وطلبة الكلية الحربية وزين العابدين عبدالتام وادهم وعبدالله ومحمد عشري الصديق وعبدالمنعم عبدالحي ، ولازالت اسئلة البناء الوطني وبناء مجتمع لاعنصري معلقة على مشاجب التاريخ وعلى نوافذه وعند أبوابه ، ومن شرفة التاريخ نهض جيلا جديد هاتفاً ( يا العنصري المغرور كل البلد دارفور).

يطرح واقع اليوم اسئلة كثيرة حول البناء الوطني ، وأي مشروع وطنياً نختار ويظل السؤال قائماً دون اجابة حاسمة كاشفة تضئ الطريق .سجل العم ستانسلاوس عبدالله بياساما (عبدالله كوجوك) في كتابه الشهير ( من عبد إلى وزير) أو ” كيف اصبح العبد وزيراً” الذي أرخ للعلاقة الحميمة والملتبسة بين دارفور وبحر الغزال مثلما هو التباس العلاقة بين ديم الزبير وبحر الغزال والزبير باشا، كان استانسلاوس صريحاً وهو الزعيم المبجل في بحر الغزال وفي السودان كله ،فحينما ذكر أحد القساوسة ان اصله يعود الى الرقيق كتب قائلاً ” أؤلئك الناس الذين يتخوفون من السؤال عما إذا كان الرجل الذي ورد ذكره في الكتاب هو شخصي ام استانسلاوس عبدالله بياساما اخر ولو انهم سالوني ذلك السؤال لاجبتهم بصراحة ولمضوا مقتنعين انني لا اخجل من القول انني كنت رقيقاً ، لقد تعهدت نفسي وربيتها وعلمتها ولذا فانني لا أخجل من قول الحقيقة ” وياله من قول بليغ ومؤلم ، كما ارخ لنضاله من أجل الفيدرالية بديلاً للانفصال ، ،والتي وُوجِهت بصلفٍ وتجريم، ومن المصادفات ان ستانسلاوس بياساما رحل في 28 ديسمبر 1985 ورحل رمضان زائد في 17 ديسمبر 1987 والرجلين رحلا وهما ينتميان الى ملكال وواو والسودان، وبعد عدة أسابيع ستمر الذكرى الرابع والثلاثين لرحيل رمضان زائد ،وكانت لكلا الرجلين رحلتهما مع اختلاف الدروب والانتماءات الاجتماعية والقبلية ولكن؛ قضية العنصرية في مجتمعنا لاتزال حية، مثلما هو صوت رمضان زائد الذي لايزال حياً و لم يغيب مع صاحبه ، فالحياة ايقاعات مستمرة لا تنتهي في رحلة رمضان زائد ، وما يزال الناس من امثالنا يستمتعون بابداعاته ويتأملون في رحلته وتعقيداتها الاجتماعية ،ويحلمون بان تحتفي بلادنا بتنوعها وبانسانها الذي هو مصدر الخير والثراء.

كان رمضان زائد صديقاً لعوض دكام وكان عوض دكام صديقاً للمدينة كلها ، سخر من عنصريتها وتسامى فوق جراحات العنصرية بالنكات ، ومثلما قدم العلاج والادوية للفقراء ، قدم النكات لمعالجة العنصرية لاسيما عنصرية الانقاذ المحشوة بالفاشية ، وتقول اشهر نكاته “ان أمرأة فقيرة حطت فوق رأسها عنصرية الانقاذ الممزوجة بالايات وبعض الاحاديث فاشتكت لعوض دكام وقالت له : ياعوض الجماعة ديل قالوا لي انك خادم فقال لها د. عوض دكام (يااختي ديل نبذوا خادم الحرمين الشريفين خليكي انتِ ) هل هي المصادفة ام حب الابداع والفكاهة التي ربطت بين رمضان زائد وعوض دكام ، ام للمعاناة الاجتماعية دور في ذلك؟ على الرغم من معرفتنا بان رمضان زائد تمتع بصلات متنوعة وخارج اطار التصنيف النمطي وامتدت علاقاته من عبدالعزيز داؤد الى الكابلي والدكتور خليل عثمان وحتى جعفر نميري ، وكان في قلب المدينة ومن أضوائها خرج من فرقة الخرطوم جنوب ومن ازقتها أستمد صلته الحميمة بالناس وتمكن مبكراً من الوصول الى الاذاعة في العام 1957 وتمتع برفقة ممتازة في الخمسينيات والستينيات ضمت محمد وردي والكابلي والجابري ومحمد حسنين و ذكي عبدالكريم والعازفين الكبار -عبدالله عربي وعبدالفتاح الله جابو وعلي مكي وعلي ميرغني ومحمدية ، وبالاجيال التي اتت بعده خوجلي عثمان والاخرين ، كان رمضان زائد متألقاً بالملابس الافرنجية وبالالوان الافريقية الزاهية ،أخذ من الصوفية بعض ايقاعاتهم ومن الشلك والنوير والدينكا الذين يشكلون نسيج مدينة ملكال وهي نموذجاً لتماذج القبائل النيلية دفْ وحرارة طبولهم.

وعلى أكتاف ( ليتني زهرٌ) لمبارك المغربي صعد الى القمة ، ومكنته خفة الدم والذوق من التفاعل مع الجمهور ، وترك بصماته في ذكريات ماضيك مع اسماعيل خورشيد ، وهويتو ليه مع جعفر فضل المولى ، وياناس مع محمود ابوالعلا، وعيني يا سبب الاذى مع عوض جبريل والعذاب قاسي واخر الجزاء، وبنات بحري وغصن الرياض المائد لعلي المساح، ولم يترك عازف الاوتار للتاج مصطفى واغاني التراث كالشيخ سيرو، وكان خفيف الروح والظل والانسانية وزع ابتساماته وضحكاته على الجميع ثم مضى .
في مؤتمرنا الأخير ناقشنا قضية العنصرية وضرورة أن تصدر قوانيين وعقوبات رادعة ، وان تشرب بلادنا من ضوء ثورة ديسمبر ترياقاً مضاداً للعنصرية ، وان نناضل جميعاً من اجل مجتمع لاعنصري ، نستمد ذلك من ادياننا وقيمنا ومن انسانيتنا ومن عدم مسامحة القانون للعنصرية واعتبارها جريمة في حقنا جميعاً .كان رمضان زائد أنسانا ، مليئٌ بالبهجة والقفشات والمرح ، واسوداً كأديم الارض واسم بلادنا والتي هي في اصلها اللغوي جمع للسود، وتمتع بالاداء المسرحي وتشرب من ايقاعات السودان المختلفة وتربع على عرش ايقاع التمتم ولم يفوته في ( الشيخ سيرو ) أن يعرج على ايقاع الدلوكة ، وكان مثل (هلال العيد) عند ظهوره في المسرح ، و”نحن وحبه ترعرعنا ونشأنا ندائد من الزمن القبيل” وفي هذه المقالة أود أن أؤدي صلاة شكر وامتنان لرمضان زائد وان أردد معه لازمته الشهيرة ” خليك مع الزمن ” ونضيف اليها وضد العنصرية.

‫6 تعليقات

  1. اقتباس:
    (في مؤتمرنا الأخير ناقشنا قضية العنصرية وضرورة أن تصدر قوانيين وعقوبات رادعة)
    نعم ما لم تقنن قضية العنصرية ومحاربتها لن تتقدم البلاد. وهي من القضايا المسكوت عنها. الردع والعقاب يأدب من لا أدب له. شكرا ياسر عرمان المشكلة والقضية شائكة جدا ولابد من علاج ولو الكي بالنار.

  2. يا سلام على هذا السرد الرائع، ويا سلام على سيرة الفنان المبدع رمضان زائد الذي مازلنا نستمتع بغنائه وصوته الرخيم وادائه ورقصه الرائع..
    … شكرا ياسر عرمان.

  3. والله سرد حد الامتاع يا اخي انت مكانك ما معانا مفروض تكون مندوب في الامم المتحده للدفاع عن قضايا الانسانيه والاجتماعيه.

  4. ماشاء الله تبارك الله جبت المعاومات دي كلها من وين مقال غني بالمعاومات التي كانت غايبه عننا عن هذا الفنان الجميل علبه الرحمة والمغفرة ولكن خريطة السودان من اكبر الأخطاء والخطأ الاكبر كل الذين حكموا السودان منذ الاستقلال المزعوم للاسف لم يوجد فيهم وطني واحد فقط لاستعياب الخريطة المشوهه والعمل على صهر كل المتناقضات القبلية والعرقية في بوتقة واحده ولهذا نشأت العنصرية والشعور بالدونية لعدم التنمية المتوازنة في باقي الاقاليم وزاد من الطين بله النخب الخرطومية اهتمت بسرقة موارد البلاد لمصالحها الشخصية والحزبية والاستيلاء على السلطة والمال والجاه اهملت وهمشت باقي الأقاليم وحرموا من جميع الخدمات وتركزت كل الخدمات في الخرطوم حتى لو اصبت بملاريا لابد لك ان تسافر للخرطوم لتلقي العلاج وهءا هو مكمن الخطورة ناهيك عن الخدمات الاخرى مثل التعليم واستخراج الوثائق الضرورية والسفر لخارج البلاد مما أدى لانتفاخ الخرطوم بالكتل البشرية وهذا هو ناتج من ادمان الفشل لادارة البلاد والعباد

  5. ذكرت استاذ ياسر اسمين من ضم مشكلي الثقافة السودانية فعوض دكام ولا زال صورة يافطة عيادته بشارع البلدية بحري بالطابق الثاني لا تفارق مخيلتي ورمضان زائد الذى حضرت احدي السهرات في التليفزيون السوداني في منتصف التامنينات وكان ضيف الحلقة مهندم باشتراكي ابيض بشوش ذي فلجة واسنان ينافسن اللبن في البياض داكن البشري مما شدني لمتابعة الحلقة حتي النهاية والغريب طريقة وفاتهم !!! القاهرة ومناسبات رسمية

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..