شقاء العبور و النجاة

د. وجدي كامل
أسئلة عديدة وشتى تنهض وتصع العقل أمام الحيرة عندما تتصل بالجائحة الراهنة.
هل سيتغير العالم ويستبدل وجها ومضمونا ؟
هل ستتغير أساليب ونظم التجارة والاقتصاد بما تنكبته من خسارات راهنة وتنحدر الى اقل كفاءة ؟
هل ستتغير الثقافات ومنها الثقافات الاجتماعية وتثبت عادات التباعد، وتتبدد منظومات القيم السابقة؟
بل كيف سيبدو مشهد الإنسان ممزقًا وهو يتكبد مشقته الوجودية القائمة في كل الأضلاع والزوايا ؟.
السودان جزء من ذلك الكون العظيم الارتباك والجامح التحولات، وهو وفي مرحلته السياسية الانتقالية القاسية الحالية يعاني الامر أمرين.
امرعلى واقع التفاعلات العالمية بكل ما يجري ، وأخر على واقع، وإيقاع مأزقه في مواجهة أسئلة الانتقال من حكم احتكاري كان يتظر الى الخلف و تمكن من هدم كل الأبنية المادية وغير المادية ذات العلاقة بحداثة متوازنة ماضوية في الاقتصاد، والمجتمع، والثقافات السودانية.
ماذا من قدرات يا ترى بحوزتنا و بمقدورها مصارعة ومقاومة كل العوائق المحيطة والبانية على عظم حظوظه في العبور ؟
السودان وبما يتوفر له من قدرات فعلية ليس في مواجهة الجائحة الصحية فقط ولكن الجائحة السياسية والثقافية المجتمعية وليس أمامه وبين يديه سوى فرصة واحدة ووحيدة وهي تنظيم الإرادة الوطنية، وتوحيدها، وتقويتها باتباع وصفات اخرى للسير.
التخلص من عيوب المجتمع السياسي التاريخي الماثل تبدو كما المدخل المثالي الصحيح لإجراء الانتقال وبالتالي وضع البلاد على منصة جديدة يقف عليها بنيان جديد تشيده الأفكار الجديدة والتي ستعتمد والى الحد البعيد على اختيارات الأجيال والجيل الذي فجر الثورة وفاجأ المجتمع السياسي به ليواجه هذا الجيل أحابيل وحيل ذلك المجتمع السياسي القديم في التقدم لقيادة المرحلة حفاظا على تداعيات التغيير وعواصف التحول غير المضمونة العواقب لهياكله وتاريخ ثقافته المتكلسة العاجزة كانت عن النظر للمستقبل بتحوطات واحتياطات من الأفكار الخلاقة الباذخة.
الجائحة الصحية التي وقعت على جائحة سياسية واقتصادية وثقافية تمثل فرصة كبرى وذهبية ايضا لإنجاز الانتقال شرط العمل بالعلم ونتائجه في التفكير السياسي وليس ضرب الرمل والاحتماء من جديد بفلسفة الأساطير السياسية.
على الأجيال الجديدة تسلم مقاليد الامور والعمل التجريبي المتواصل والدائم للعثورعلى النموذج المطلوب للنهضة والذي لن يتاتي دون إعمال النقد بدقة وقوة على مادة الماضي وليس مجرد معاداتها ورفضها لأجل المعاداة والرفض.
الأجيال الجديدة مصطلح قد يثير الشك في مطلقه واطلاقيته ولكن ستصبح الكتلة غير الملتبسة بافكار الماضي السياسي بتخلقاته المتعددة وما تنطوي عليه من قدرات مهنية عالية وعلاقة بالتفاتة وفلسفتها وزخم في الكفاءة هي المناطة بإحداث التغيير وتأسيس سلطتها المعرفية والتطبيقية والانتصار على الجائحتين – جائحة الصحة وجائحة السياسة المخزية. ذلك لن يحدث دون خوض الصراع مع المجتمع والعقل السياسي القديم واحداث السجالات والحوارات مع منطوقاته وأشكاله في التفكير . لنستند ونتهيأ لمعركة الأفكار وليس دونها، ولنضع ميراث اتخاذ العنف جانبا ولنجعل سلاحنا العقل والمصلحة الوطنية بكل مستحقاتها منطلقًا للمستقبل. الان هل ثمة مقترحات بالإمكان تقديمها لتفعيل التحول ؟ نعم توجد مقترحات من مثيل الثورتين الاقتصادية والثقافية برغبة تقويض الماضي في ممكنات تشققه ولكن على أساس يستهدف تقويض الطبقة.
طبقة وسطى جديدة:
لعل من اهم مشكلات القضاء على ميراث ثلاثين عامًا من الحكم غير الرحيم عدم التفكيك النظري، التحليلي الكافي للظاهرة السياسية الاسلاموية التي حكمت ووظفت الإسلام كأداة للسلطة السياسية، والنهب الاقتصادي. بتعريف انها ظاهرة الانتقام المجتمعي والاقتصادي العنيف تجاه آلة الدولةوالمجتمع لما بعد الاستقلال.
سيظهر عاجلا ام اجلا ان إصلاح الخطأ وان اتخذ دعوات ايديولوجية سياسية عديدة لا بد من ان يبدا بتعطيل السلطة الغاشمة من منابعها الاقتصادية، والمفاهيمية الثقافية الموحشة التي اتصفت واتصلت بها بعمد ودون عمد.
فالقول يجوز و بعيدًا عن اي وصف ومسمى يذهب الى تبسيط الكارثة ان ما حكمتنا قرابة الثلاثة عقود كانت هي ذات سلطة الانتقام الاجتماعي او الانتقاميين الاجتماعيين القادمين من الضفة المعتمة للتطور الثقافي والاجتماعي بعد ان خبروا ضعف الدولة وأقاموا شجرة اقتصادهم الطفيلي على تربتها منذ ما بعد المصالحة الوطنية وطيلة النصف الأول من الثمانينات حتى اغتنى اقتصادهم الحزبي – اقتصاد الجبهة القومية الإسلامية في صيغته البنكية المتفاقمة.
ان فشلنا في خلق طبقة وسطى ترتبط بالإنتاج وتتخلق من تقاطعاته، طبقة متحضرة، متينة، متماسكة البنيان، ذات أثر عضوي في التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي قد ساهم في انتاج الأوضاع المعقدة المعاصرة لحياتنا وسمح بالاختراقات وأحيانًا استدعاء التكلس و النكسات الاجتماعية والسياسية المتمثلة في المزيد من التقسيم ونشر ثقافة الاستعلاء على أساس العرق و الاثنية والدين وادعاء التفوق الثقافي الامر الذي انتج للعديد من مظاهر الخيبة الوطنية ممثلة في الكوارث من فاقة وفقر و حروب أهلية.
لقد ساعد ذلك على انتاج البدائل الاسوء لمشروع الدولة الثيوقراطية وتطرف نزعاتها باسم الأصالة الدينية الإسلامية في نسخها المعتمة، غير المفعلة، وإغراق المنظومة او المجتمع السياسي في الفشل حتى أذنيه وحتى إذا ما عادت قوى الثورة والمستقبل الى السلطة ولو في أنظمة ثورية موازية لن تجرؤ على ابتكار الحلول الذكية والسيطرة على مفاتيح سؤال النهضة بيسر وسهولة تسهم في وضع الحلول والعبور التاريخي المهيب. ان بروز طبقة وسطى جديدة من علاقات إنتاجية حرة جديدة غير مرتبطة من التغذية الذاتية من الدولة هو
ما سيقود الى التأسيس لطبقة وسطى جديدة ذات بنيان صلد ولسان فصيح في التعبير عن افكار التطور، وهو ما سيكون الضامن الفعلي لاستمراريته و استدامته، وعدم ارتكاب الردة الحضارية للمجتمعات السودانية. ذلك لن يحدث دون استعادة زمام المبادرة لإنتاج حقبة جديدة من العمل على مادة الواقع بالمواكبة والتحديث للثقافة السياسية الاقتصادية على وجه الدقة بإعادة التخطيط والنظر الاستثماري الخلاق الجديد للموارد على قاعدة العدالة واحترام حقوق المواطنة في الاستثمار . ذلك للأسف لن يتم بتعديل وتحسين العقل السياسي الاقتصادي السائد الراغب في التغيير وكفى، ولكن بهدمه وإعادة تشكيله بواسطة العقل الثقافي الثاقب النظر لمستقبل جاذب وجدير بالحياة يقرا التطور في مظانه الخصبة وحلقاته الحية الحيوية بأعمال التفكير النقدي المعمق لما ساد من تجارب سياسية في علاقتها بالتفاعل والعمل بنتائج العلم و هندسة الذهنية القائدة على مواده ومنتجاته. المرحلة الانتقالية ستظل تكابد التأرجح بين الولادة الجديدة و اعادة انتاج القديم ما لم تضع أقدامًا على ارض من الأفكار الجريئة والقرارات الشجاعة في علاقتها الإيجابية بالمستقبل دون انحياز وتحيز لقوالب ونماذج جاهزة منجزة من ذي قبل.
دكتور وجدي سلام عليك يا رايع ،،قلم جميل مرهف من زمن مختلف واصل الكتابة ودايما راجين جديدك