قصة الطوفان ماسأة أهل السودان

الشيخ فرح ود تكتوك يا سادتي – لمن لا يعرف ? هو حكيم سوداني، عاش في القرن السابع عشر أيام “السلطنة الزرقاء” التي سميت ايضا بدولة “الفونج” ، وكانت عاصمتها مدينة سنار الواقعة جنوب شرق السودان ، التي تعتبر من أهم وأكبر المدن علي النيل الأزرق.

المهم أن الشيخ فرح ود تكتوك كان قد اشتهر بالحكمة والشجاعة والفراسة والنظر الثاقب والقدرة علي التنبوء واستشراف المستقبل ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وعليه أصبح للشيخ فرح الكثير من الاقوال الخالدة التي برهنت ودللت علي حسن فراسته وقوة حدسه وصلاحه ، وبهذا أصبح أحد حكماء السودان المعروفين .

كان الشيخ فرح قد تنبأ بأن يصبح الكلام في أخر الزمن بالخيوط والسّفر بالبيوت ، والخيوط قصد بها أسلاك التليفون والبيوت قصد بها القطار ، ولم يكن التلفون ولا القطار قد اكتشف ساعتها ، المهم ان فراسة الشيخ فرح ود تكتوك قد تحققت ، وأصبح للبشرية قطار وتليفون .

وعليه يجب علينا كسودانيين أن نعرف للشيخ فرح قدره ، ونثمن أقواله ونحفظ للرجل مكانته الرفيعة ، فالبشرية التي فرحت ذلك اليوم باكتشاف القطار والتلفون ، كان قد سبقها رجل سوداني اسمه الشيخ فرح ود تكتوك ولكن أكثر الناس لا يعلمون .

ومن المؤسف والمفرح معا أن نعلم ان الشيخ فرح كان قد تنبأ أيضا بالحرق أو الغرق لمدينة سنار ، فقال ((سنار يا حرقه يا غرقه )) وفي كلا الحالين الحرق والغرق سواء ، ولعل الشيخ فرح قد قصد بقوله هذا أن سنار ستزول وتهلك أما حرقا واما غرقا ، ويصيبها الدمار الشامل والفناء كأنها لم تكن ، والجزء المفرح في هذه الفراسة انه ما يزال لدينا الوقت الكافي لأتخاذ التدابير اللازمة واخذ الحيطة والحذر قبل وقوع الفأس في الرأس كما يقال .

فإن صح ما نسبه الناس إلي الشيخ فرح بقوله سنار يا حرقه ياغرقه ، ومن شبه المؤكد أن نسبة ذلك القول للشيخ فرح صحيحة ، وعليه لزم التفكر والتدبر في قول الشيخ هذا ، فالشيخ فرح لا أظنه قصد تخويف أهله أهل النيل الأزرق ، أو اثارة الفزع في نفوسهم ، ولا أعتقد أنه قد رمي أو أراد أو أشار أو رغب في نزوح الناس عن مدينة سنار حاضرة النيل الأزرق أو هجرها ، بل لكأنه ينوه ويحذر من حدوث أمر جلل علي مدينة سنار وعلي النيل الأزرق مستقبلا يكون علي هيئة حريق هائل أو غرق مدمر ، والغرق أولي من الحرق منطقا ، لأن أسبابه موجودة ، كما ان الغرق أشد تأثيرا علي مداه ، فسنار مدينة علي النيل الأزرق ، والنيل الأزرق أكثر الأنهار قوة واندفاع وغزارة ، واثيوبيا كما تعلمون يا سادتي تبني عليه سد النهضة الأن ، وسد النهضة هذا مقرر له ان يحتجز 74 مليار متر مكعب من الماء في بحيرته خلف السد ، والسد هذا عمل بشري ، والعمل البشري ليس لديه عصمة ضد الخطأ ، بل ان نسبة الخطأ فيه واردة وكبيرة ، لأنه ببساطة اجتهاد بشري مبني علي علم بشري ، يقوم بتطبيقه وقياسه والتحقق منه بشر ، والجدير بالذكر أن المتغيرات المناخية والبئية والجيولوجية في منطقة السد غير مستقرة تماما ، عليه يصبح الوصول لنتيجة دقيقة ضربا من المستحيل طالما هناك متغير في المسألة المراد حلها وقت حلها ، من ناحية أخري يحذر العلماء ان نسبة الخطأ في المشاريع الكبيرة تكون كارثية .

هذا وقد أكد بعض العلماء من أهل الاختصاص أن سد النهضة هو أكثر سدود العالم عرضه للانهيار ، لأنه يحمل بذور ومقومات انهياره داخله ، فمعامل الآمن فيه منخفض للغاية كما ان المنطقة المشيد فيها السد تحفل بنشاط زلزالي كامن ، ولابد ان ضغط المياه والطمي ستؤثر علي تلك المنطقة ، وتطلق ذلك الضغط الهائل وتحرره وساعتها سينفجر السد لأنه سد خرساني وليس سد ركامي ، تخليوا معي يا سادتي 74 مليار متر مكعب من الماء تنطلق دفعة واحدة من جبل عالي علي أرض منبسطة ، بحيث يتضائل انفجار عدة قنابل نوويه امام انفجار سد النهضة ، ونغرق في طوفان يزيد ارتفاع الماء فيه عن 37 مترا ، وبما ان اثيوبيا تعلم هذه المعلومات أكثر منا فيمكنها متي ما زعلنا معاها أن تفتح علينا شوية موية بمقدار قنبلة نووية واحدة لنركع علي رجعلين ونتوسل إليها طلبا للرحمة ، الا يقال يا سادتي أن الحرب القادمة هي حرب مياه ؟!! .

كان يجب عدم السماح لاثيوبيا ببناء هذا السد حتي تكتمل الدراسات الفنية ، ويقطع العلماء من أهل الاختصاص برأيهم فيه ، لكن للأسف اثيوبيا استبقت الجميع ، ولم تراعي حرمة الجوار فشرعت فعاليا في بناءه ، وأوشك البناء أن يكتمل وإن هي إلا مراحل ونراي الكارثة امامنا ماثلة ، فهل من دليل أكثر من هذا علي سوء نيتها ؟! وبالمقابل هل من دليل يكذب فراسة الشيخ فرح التي توشك أن تحقق؟!.

من حق اثيوبيا طبعا أن يكون لها سد أو مجموعة من السدود التي تجعلها تحقق التنمية ولكن ليس سد بهذه السعة التدميرية ، والسؤال المهم ماذا لو انهار سد النهضة – لا قدر الله – وهو احتمال وارد ضمن احتمالين ، بل احتمال الانهيار أكبر من احتمال الصمود ، الا يجب علينا وضع تصور أو سيناريو محتمل لما يمكن أن يحدث ، واعداد خطة انقاذ لذلك .

بقليل من التفاؤل المفعم بالأسي سيجتاح السودان فيضان مدمر وسيل جارف لكنه أقل سُوءٌ من طوفان نوح الذي فار التنور فيه وغرقت الأرض كلها تحت الماء ، ويجب علينا أن نعرف ان فيضان سد النهضة لن يكون بمقدوره أغراق اثيوبيا ، بل يمكنه فقط اغراق أجزاء كبيرة وعزيزة من السودان المسكين ، لأن قوة اندفاع هذا الطوفان ستماثل قوة عدد من قنابل النوويه مجتمعه مما يزيل علي الفور كل أثر للحياة في طريق اندفاعه من مساكن وبيوت وكباري ومدارس ومستشفيات ، حيوانات كثيرة ستنفق ، وأشجار بلا حصر ستقتلع ، ونباتات بلا عدد ستفني ولن يكون بمقدور أحد تعويضها بلا تقاوي وستزهق أرواح كثيرة لاطفال وشيوخ ونساء وشباب ورجال ورضع ، فلا طامة أقوي من موت الفجأة ولا مصيبة أبلغ وأشد من الموت المباغت الذي لن يفرق ساعتها ان كان الغريق من العوام أو من علية القوم أو من أبناء علية القوم أو من حراس علية القوم ، أو حتي من اخلاط علية القوم ، الموت هو الموت ، والطوفان هو الموت ، لن يكون بمقدور أحد تحديد الاوراح التي فارقتها الحياة في وضع مثل هذا ؟!. ومن نجي من هذا الطوفان ليته ما نجا لأن الحزن والأسي سيقضي عليه كما الموت ولكن ببطء .

ستفني المدن والقري الواقعة علي ضفاف النيل الأزرق ، وتمحي كل أثارها ، وتغرق مدينة الروصيرص والدمازين وسنجة وسنار ومدني والخرطوم عاصمة الحكم ، ويصير الحكم لله كما كان وكما يجب أن يكون ، حتي المدن الواقعة في اقصي الشمال ، ستغرق ويموت من أهلها الكثير ، سيبلغ ارتفاع الماء علي الأرض اليابسة سبعة وثلاثون مترا ، أما سرعة اندفاع مياه هذا الطوفان فستبلغ مدي تنفجر فيه الأبراج والمباني الخرسانية وتتساقط فيه العمارات العتية ، ومن يظن انه يستطيع ان يأوي إلي جبل ليعصمه من الماء فلن يجد الوقت لذلك ، فلا عاصم ساعتها من الماء إلا الله .

عند انهيار السد ، وهو سد عملاق يسمونه في اثيوبيا “سد الألفية” ، سيغرق بلدنا السودان لا بلدهم اثيوبيا ، ويموت من اهل السودان الكثير لأنهم ببساطة أَنَاسَ طيبون وأغلبهم مساكين ، سيتقبل الناس الموت كما تقبلوا الحياة من قبل ، وسيسلمون أرواحهم بلا جزع لأنهم مؤمنون بأن الموت حق ، والطوفان حق ، وسد النهضة لاثيوبيا حق .

سيموتون الناس في جماعات كبيرة وصغيرة قبائل وأفرادا ، هكذا عاش السودانيين متحابين متآخين ومختلفين أيضا ، وهم اليوم يموتون كما عاشوا ، ولعل جبين العالم ساعتها يندى لهذه المأساة ، فهو شريك في ماسأة هذا الشعب المكلوم بشكل ما ، ويظل من نجا من الناس في العراء بلا مأوى كطير مبتل ، ويطول الليل لأيام وشهور ، وظلام حالك يحصارنا ويتربص بالناس ، وسيُفقد ناس ، ولا نعرف هل ماتوا فعلا أم نحن الأموات ؟! ، وسيجوع الناس بل كل الناس ولن توقد نار ، لأن الحزن هو النَارُ المُتَّقِدَةٌ في تلك الأيام، سيجوع الناس بلا شك في بلد قيل أنها بلد النيل ، سيجوع الناس لأن الجوع الكافر سرق كل الفحم المبتل الذي ابقاءه الطوفان للناجين ، لن توقد نار لأن الجوع تحول لسفاح يحمل سكينا ليطوف علي الأعناق ، لن تشعل نار علي أرض غارقه في رائحة الموت ، رائحة الطوفان .

نزار ود الحسين

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..