
حكومة حمدوك لم تفشل لأن الفشل هو النتيجة التي يتم إعلانها عند اليأس والتوقف ، ولكنها لازالت تجتهد ما استطاعت وتتحدى كل الظروف لتعبر ببلادنا إلى بر الاستقرار والنهضة ، حالها حال العدّاء الذي لانستطيع الحكم على هزيمته إلا بعد نهاية المباراة ، فالحرب سجال وتغيير المواقع تقدما وتأخرا مرهون بظروف المعركة ، ومعركة حكومة حمدوك معركة تهبّ رياحها من كل الاتجاهات ، فبالاضافة للنظام السابق وتابعيه ومخربو الداخل ، تجابه الحكومة ضغوطا من شركائها في الحكم ومن حاضنتها الأساسية ، ومن دول المحاور وغيرها وغيرها من ضغوط لاتنتهي ، ورغم ذلك لازال ربّان السفينة مصمما على العبور حتى بعد محاولة إغتياله الشهيرة.
وما حدث اليوم في بلادنا من اضطراب غير مسبوق في سعر عملتنا الوطنية مقابل العملات الأخرى واحد من صور تلك الحرب الشرسة على الحكومة ، والهتافات التي سمعناها من ثلة قليلة تمركزت بجوار الهاتف الذي تم التصوير منه في زيارة حمدوك الأخيرة لسنجة ليست سوى مظهر من مظاهر تلك الحرب المستعرة بلاهوادة.
حتى الظروف الطبيعية التي مرّت بها الحكومة ليست سهلة ، فقد منيت بجائحة كورونا ، ومن ثم الفيضانات التي لازالت تهدد حياة الكثير من المواطنين ، وخواء الخزينة وخيانات الداخل والإبتلاء بشعب لم ينل من الصبر الكثير.
ما يحزن المرء في وطننا أن الكثيرون لايستطيعون التمييز بين الحكومة والوطن ، فالتاجر الذي يريد محاربة الحكومة عبر مضاربات العملة ، إنما يؤذي المواطن ويؤذي نفسه ، فهو أيضا سيكتوي ومعه أهله وأقاربه بكل إفرازات تلك المضاربة ، ومن يخرّب أي مفصل أو مورد من موارد الدولة لايحارب الحكومة ، ولكنه يحارب الشعب ، فالحكومة مهما طال أمدها ستزول وتحل محلها حكومة أخرى ، وكرسي الحكم لايختلف كثيرا عن كرسي الحلاق الذي لايستقرّ لأحد ، ولكن الوضع الأمني والاستقرار والوضع الاقتصادي ، هي الأشياء التي تبقى ويتم تداولها بين حكومة وأخرى.
بلادنا تهرول نحو المجهول بسرعة مريعة ، ولكنها بأية حال لن تتراجع عن مباديء الثورة التي مهرها الشباب بدماء غالية لم يتم القصاص لها بعد ، ولابد أن تكون فترة مابعد الفيضان هي فترة وضع نهاية لتحقيقات فضّ الاعتصام ، لأن ماسيترتب عليها من نتائج ، سيشكل بداية التحوّل الحقيقي لسودان الثورة ، أما مادمرته الكوارث فشعبنا قادر على تعويضه ، ويكفي أنه تلقّى امتحان الفيضان العسير هازئا مبتسما وراضيا بقضاء الله وقدره ، وتلك هي نقطة قوتنا الحقيقية التي تجسّد عظمتنا كشعب ، وهي عظمة يعرفها غيرنا ونجهلها في أنفسنا ، ولجهلنا بها لم نستدعيها أو نستخدمها في مختلف قضايا بلادنا فحدث ماحدث.
لننطلق جميعا من أصلنا .. من عاداتنا وتقاليدنا وطبعنا السوداني السمح الذي خلق بيننا التعايش في تسامح منذ الأذل للدرجة التي لاتكاد تجد فيها سودانيا لايحمل صلات حقيقية بكثير من أجزاء السودان في آن ، ويكفي ما احتواه إرثنا من مصطلحات القلد والنفير والصلح وغيرها من المصطلحات التكافلية التي تؤكّد بأننا شعب اتحاد لاتنافر .
وطننا شاسع المساحة وكثير الخيرات ، وسيكفينا جميعا لو اجتمعنا فيه بالحب والتكاتف ، والصراعات الحادة التي نشهدها في خارطتنا السياسية كانت ستكون مبررة في وطن تضيق فيه الخيرات والمساحات والفرص ، ولكن الوضع عندنا مختلف جدا.
المنطق يقول أننا أهدرنا أكثر من عام من عمر الثورة في صراعات جوفاء وجدل سياسي بيزنطي ، ولم نحقق أقل مانطمح إليه، ولكن لازال الوقت أمامنا لو كنا فعلا نؤمن بكل مانطرحه ، فالجميع يتحدث عن سودان أشبه بالمدينة الفاضلة وتنم أفعاله ومواقفه عن وطن يمضي نحو النّقيض ، وعلى ساستنا جميعا إدراك أن خلاص وطننا الحقيقي بأيدينا نحن السودانيين لا بأيدي غيرنا ، وأن الهرولة نحو مختلف المحاور وعدم تغليب المصلحة الوطنية العليا هو ما أفرز كل تلك العثرات التي منينا بها في الفترة السابقة ، وعليهم جميعا سودنة القضايا الخلافية بيننا ، وإلا فسيجدون أنفسهم كالجالس على كرسي الحلاق وقد إنتهت حلاقته.
وقد بلّغت
عبدالدين سلامه
[email protected]