الآيات المتشابهات المنسوخات

بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث عن الآيات المتشابهات في الأحكام وهي الآيات المنسوخات. كما أوضح العلماء المجال الذي أنزلت فيه المتشابهات المنسوخات وسبب ذلك. كما أوضحت السيدة عائشة بحديث بليغ استراتيجية تنزيل القرآن كما سنرى لاحقاً. وفي كتب علوم القرآن ومباحث علوم القرآن وأصول الفقه وعلوم أصول الفقه أوضح العلماء معالم المتشابهات المنسوخات ومعنى النسخ. وبالرغم من كل هذه الحصيلة من المعلومات لم يتم تجميعها مع بعضها البعض للوصول للناسخ والمنسوخ. لذا رأيت أن أوضح ما جادت به قريحتي في كل ما غاب عن الباحثين في علم المتشابه المنسوخ في هذه الورقة. وسوف يكون ذلك باختصار لأن البحث فيه طويل.
ومن أهم المعلومات هي: إن القرآن مكون من كتابين: كتاب الأخبار عن العقيدة وكتاب الأحكام. وكل من الكتابين يحتوي على آيات محكمات وآيات متشابهات. وهذا يعني أن القرآن يحتوي على نوعين من المتشابهات ونوعين من المحكمات وهو ما أشكل عل العلماء والباحثين. علماً بأن محكمات ومتشابهات كل كتاب مختلفات عن بعضهم البعض. وبما أن النسخ في الأحكام فقط سوف يكون التركيز على كتاب الأحكام.
عليه تشمل الورقة الآتي:
المجال الذي أنزلت فيه الآيات المتشابهات المنسوخات
أنواع الآيات المتشابهات
الهدف من تنزيلها
أسباب تنزيلها
معالمها
دليل مقترح لمعرفة الآية إن كانت المتشابهات المنسوخات أم لا
أولاً: مجال نزول المتشابهات المنسوخات
لقد أنزلت الآيات المتشابهات المنسوخات للنهي عن العادات والتقاليد السيئة وحب الشهوات اللاتي أدمنهن الناس في الجاهلية ولم يستطيعوا تركها من أول مرة كشرب الخمر وأكل الربا وأكل مال اليتيم وتعدد الزوجات وزواج اليتيمة دون رغبة فيها وإنما رغبة في مالها أو جمالها أو الاثنين معاً. فأنزل الله أحكام النهي عن كل ما أدمنه الرجال في الجاهلية متدرجات ليعالج بهن ادمان الناس كما يعالج الطبيب مدمن المخدرات تدريجياً ولله المثل الأعلى. فهن قد أنزلن إذاً في مجال الحلال والحرام والنهي فقط وذلك مستنبط من تحليل قول السيدة عائشة التالي الذي أوضحت به استراتيجية تنزيل الكتاب وهو: (إنَّما نَزَلَ أوَّلَ ما نَزَلَ منه سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ والنَّارِ، حتَّى إذَا ثَابَ النَّاسُ إلى الإسْلَامِ نَزَلَ الحَلَالُ والحَرَامُ، ولو نَزَلَ أوَّلَ شيءٍ: لا تَشْرَبُوا الخَمْرَ، لَقالوا: لا نَدَعُ الخَمْرَ أبَدًا، ولو نَزَلَ: لا تَزْنُوا، لَقالوا: لا نَدَعُ الزِّنَا أبَدًا،)
يشير الجزء الأول: “إنَّما نَزَلَ أوَّلَ ما نَزَلَ منه سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ، فِيهَا ذِكْرُ الجَنَّةِ والنَّارِ” إلى:
أولاً: وجود غير المفصل من السور(أي المحكم) الذي أنزل أولاً ولم يكن فيه ذكر الجنة والنار.
ثانياً:إن المُفَصَّل قد جاء توضيحاً وتبياناً لغير المُفِصَّل أي جاء تفصيلاً للمحكم. إذاً قولها هذا هو توضيح لما ورد من تحليل لمعنى الآية “1” هود: {الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}.
ثالثاً: إن المُفَصَّل هو سور كاملة لقولها” إن أول ما نزل منه سورة من المفصل” أي أن تفصيل الآيات المحكمات كان في سور طوال كسورة هود. وقولها هذا يؤيد قول الشعراوي: (لكن التفصيل الذي جاء لنا من القرآن أنه سور، وكل سورة هي مجموعة من الآيات.)
كما يؤيد قول مجاهد وهو:(أحكمت جملة، ثم بُيِّنت بذكر آية آية بجميع ما يحتاج إِليه من
الدليل على التوحيد والنبوّة والبعث وغيرها) .
والجزء الثاني:”حتى إذا أثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام” يوضح:
أولاً: إن أحسن الحديث هو أخبارعن العقيدة وقد أنزلت آياته أولاً محكمات أي مجملات المعنى غير واضحات الدلالة ثم تم تفصيلهن في سور طوال جاء فيهن ذكر كل شيء.
ثانياً: يخلو أحسن الحديث من الأحكام حيث أوضح قولها أن آيات (الحلال والحرام) لم تنزل إلا بعد اعتناق الناس للإسلام أي للعقيدة (بعد أن أثاب الناس للاسلام).
ثالثاً: الحلال والحرام المعنيان في قولها:(حتى إذا أثاب الناس للاسلام نزل الحلال والحرام) هما الحلال البَيِّن باللفظ الواضح (أُحِلَّ لكم) والحرام البَيَّن باللفظ الواضح (حُرِّم عليكم) أو (لا يَحِلُ لكم) لسهولة تطبيقهما حيث ورد في الحديث التالي: عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال1: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:”إن الحلال بَيِّن وإن الحرام بَيِّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات إستبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتعه، ألا وإن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب”. بمعنى أن أي حكم لم يرد فيه اللفظ الواضح (أحل لكم) أو الحرام البين (حرم عليكم) فهو مشتبه يجب لجتنابه لأنه يوقع صاحبه في الحرام.
أما الجزء الثالث:( ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لن ندعو الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا:لا ندع الزنى أبداً) فيوضح كثيراً من الأمور وهي:
أولاً: إن هنالك أشياء قد تدرج فيها الحكم فلم ينهي الله عنها من أول مرة لإدمان الناس لها ولعدم مقدرتهم التخلي عنها من أول مرة. إذاً هي المتشابهات التي ذكرها عبد الوهاب خلاف بقوله: (فقد اقتضت سنة التدرج بالتشريع، ومسايرته المصالح، نسخ بعض الأحكام التي وردت فيها ببعض نسخاً كلياً، أو نسخاً جزئياً…والنسخ في اصطلاح الأصوليين: هو إبطال العمل بالحكم الشرعي بدليل متراخ عنه، يدل على إبطاله صراحة أو ضمنياً، إبطالاً كلياً أو إبطالاً جزئياً لمصلحة اقتضته، أو هو إظهار دليل لاحق نسخ ضمناً العمل بدليل سابق.)
وهذا يعني أن التدرج حدث باباحة الأمر أولاً ثم التدرج في الحكم إلى أن انتهى بالنهي المطلوب.
ثانياً: إن المشتبهات في الحكم اللاتي ذكرن في حديث النعمان بن بشير هن الأخر المتشابهات (الآية 7 آل عمران) وهن المتشابهات في شيئين يصعب التمييز بينهما والشيئان هما الحلال والحرام اللاتي أنزلن الله في حب الشهوات اللاتي لايستطيع الناس أن ينتهوا منهن من أول مرة فجاء حكمهن تدريجياً كما قالت السيدة عائشه في الخمر والزنى. أي جاء حكمهن إباحة مؤقتة بفعل أمر غير مطلق لأنه مقيد بشرط يصعب استيفاءه. فظهر حكم الإباحة وكأنه حلال وهو ليس بالحلال البيِّن الواضح بلفظ “أحل لكم” وتقييد الإباحة بشرط يصعب استيفاؤه أظهر حكم الإباحة وكأنه حرام وهو ليس بالحرام البيِّن الواضح بلفظ “حرم عليكم” فاشتبه على الناس الحكم هل هو الحلال أم الحرام. وهو تعريف المتشابه الذي أورده عبدالوهاب خلاف بقوله: (والمتشابه لغة: مأخوذ من التشابه وهو أن يشبه أحد الشيئين الآخر، والشبه هو ألا يتميز أحد الشيئين من الآخر لما بينهما من التشابه عيناً كان أو معنى.) وذكر القلب في حديث النعمان هو أساس العمل بالمتشابهات أي حب الشهوات وزينة الحياة الدنيا.
لقد أوضح الله كل ما جعله على الأرض زينة (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها) في آيات متفرقة. فأوضح أن المال والبنون زينة وهم فتنة وأوضح الرسول صلى الله عليه وسلم أن النساء فتنة وأوضح الله أن الخيل والبغال والحمير زينة وان الأنعام زينةز وقد جعل الله كل هذه الزينة فتنة أي ابتلاء وامتحان لمعرفة أيهم أحسن عملاً أي أيهم أقوى إيماناً بأقدار الله وقسمته للخلق من تلك الزينة. فلا يطلب المرء الزيادة على ما قسمه لكل مخلوق منها أو تغييرها لأن ذلك جحوداً وكفراناً لنعمه وعدم شكر له. وبالتالي يعمل إبليس جاهداً لإغواء الخلق للإزدياد من تلك الفتن فلا يبتغيها إلا الذين في قلوبهم زيغ بعد النهي عنها والاكتفاء بما قسمه الله والصبر عليه. (كما حدث لأبوينا)
هذا وقد جمع الله تلك الزينة التي هي فتن في الآية 14 آل عمران: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ} وسرد الله لنا القصص عظة وعبرى وهدى. فقص علينا قصة سيدنا يوسف وإخوته آية للسائلين وكيف نزغ إبليس بين الإخوة من أب ببث الغيرة بينهم وقص علينا قصة سيدنا سليمان وانشغاله عن ذكر الله بخيله المسومة وقصة قارون مع المال وجحوده لنعمة خالقه وقصة سيدنا داؤود مع المرأة وانشغاله بها عن ذكر الله وقصة أبونا آدم مع الحرث (الأكل من الشجرة) لنتعظ من إبليس وإغوائه لتلك الشهوات التي نهى الله عنها تدريجياً.
ثانياً: الأنواع
لقد توصلنا من تعريف العلماء إلى أن المتشابه والظاهر والمنسوخ مسميات لنوع واحد من الآيات. إذاً يمكن القول بأن الظاهر نوع من أنواع المتشابه المنسوخ. وبالتالي تنقسم المتشابهات المنسوخات إلى نوعين: نوع مبهم الحكم بالرغم من أن مفردات آياته واضحات المعنى ونوع آخر مبهم الحكم لأن مفردات آياته غير واضحات المعنى أي فيها لبس واشتباه في فهم معناها.
النوع الأول: مفرداته واضحة المعنى
لقد أنزل في الشهوات التي لا تحتاج إليها استمرارية الحياة كشرب الخمر وأكل الربا. وقد أنزلت آيات الخمر والربا الأوائل فيها لبس في فهم حكمهن بالرغم من وضوح معاني الآيات. فاشتبه على الناس الحكم هل شرب الخمر حلال أم حرام لعدم وجود الحلال البين أو الحرام البيِّن. ولهذا هن من متشابهات الآية 7 آل عمران. وبما أن آيات الخمر وآيات الربا التي أنزلت أولاً قد نسخ حكمهن تدريجياً، فهن إذاً من الآيات المتشابهات المنسوخات فلا يتبع حكمهن ويعمل به إلا الذين في قلوبهم زيغ وضلال بالرغم من النهي الأخيرعن العمل بحكمهن.
النوع الثاني: مفرداته غير واضحة المعنى
لقد كان في فهم حكم آيات الظاهر لبس، نتيجة إلى اللبس في فهم معاني مصطلحاتها. فمعنى مصطلحات آيات الظاهر المتبادر إلى الذهن يؤدي إلى معنى يفهم من سياقه حكم غير الحكم المقصود أصلاً. فلا يتضح حكم الآية المقصود إلا بعد إيجاد القرينة الخارجية من القرآن كما أوضحه صبحي الصالح ومحمد خضير. وبعد إيجاد القرينة يتضح معنى الآية ويقود لمعرفة حكمها المطلوب الذي أراده الشارع. وقد ضرب صبحي الصالح للظاهر بالآية 3 النساء أي آية تعدد الزوجات. كما ضرب بها السيوطي ومحمد خضير وعبدالوهاب خلاف مثلاً لوجه من أوجه المتشابه.
ثالثاً: الهدف
إن الهدف من المتشابهات هو اولاً إمتحان الخلق في مدى الإيمان بالأقدار خاصة أقدار الخير وذلك بالنهي عن تغييرها أو الزيادة عما قسمه الله للمؤمن منها بل يجب قبولها والصبر عليها شكراً لله وحمداً له صموداً في وجه الشيطان.وثانياً هو علاج الرجال من الادمان. وثالثاًرفع الظلم من الضعفاء حيث كان الرجال يتعدون على حقوق الضعفاء من النساء والأطفال واليتامى والعبيد نتيجة ادمانهم لحب التكاثر من زينة الحياة وتفاخرهم بها.
رابعاً:تهيئة المناخ الصالح لكل المخلوقات لعبادة الله وحده برفع الظلم وسيادة العدل والمساواة بإزالة حكم الغاب.
رابعاً: أسباب تنزيلها
من أهم أسباب تنزيلها هو وجود إبليس الذي عاهد ربه أن لا يجد أكثر خلقه شاكرين
بأن يغويهم ويمنيهم بحب زينة الحياة الدنيا فيجحدوا ما قسمه الله لهم ويلهثوا وراء الازدياد منه أو تغييره من ناحية ومن ناحية أخرى ليبث بينهم العداوة والبغضاء ويقعد لهم صراط الله المستقيم. لهذا أنزل الله الأحكام التي تنهي عن حب الزينة الذي كان سبباً في ظلم الضعفاء والتعدي على حقوقهم. فكان تنزيل النهي التدريجي والنسخ النهائي هو الطريقة المثلى التي مكنت الرجال من الوصول لحقيقة تضارب حب الزينة مع عبادة الله فيتهيأوا من تلقاء أنفسهم لتقبل النهي.
ملحوظة: لقد ترك الله الرسم أي تلاوة المتشابهات في المصحف بالرغم من نسخ الحكم لأن المتشابهات المنسوخات هن امتحان للخلق على مر الأزمان وإلى أن تقوم الساعة لتمييز الخبيثين الذين يتبعون الشيطان ويعملون بالمتشابهات (الذين في قلوبهم زيغ) من الذين سيصمدون في وجه الطاغوت مكتفين بما قسمه الله لهم (الراسخون في العلم أي الإيمان) فإذا أزيلت من المصحف فلن يكون هنالك امتحاناً.
خامساً: المعالم
يمكن الوصول لمعالم المتشابهات المنسوخات من تحليل آيات الخمر والربا وبعض آيات الظاهر. ومن المعالم يمكن وضع دليل لمعرفة الآية إن كانت متشابهة ومنسوخة أم لا.
3-1 تحليل بعض الآيات المتشابهات
أولاً: تحليل آيات الخمر
لقد أوضح الحديث التالي سبب نزول الآية 43 النساء وهو1: عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي بن أبي طالب، قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً فدعانا وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منا، وحضرت الصلاة فقدموا فلاناً، قال فقرأ: قل يا أيها الكافرون ما أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فأنزل الله { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ }. فانتبه الصحابة إلى أن آداء الصلاة يتعارض وشرب الخمر. لذلك سأل سيدنا عمر الرسول صلى الله عليه وسلم فيها وطلب منه أن يبين لهم حكماً قاطعاً في الخمر، مما يدل على أن في هذه الآية غموض ولبس في فهم المقصود من حكمها فنزلت الآية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (219) البقرة فأوضح الله لهم في هذه الآية أن في شرب الخمر إثم كبير ومنافع للناس. وبالرغم من الإثم لم يكن بها نهي صريح للخمر. فسأل الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم عما إذا تم النهي عن الخمر أم لا. مما يدل على أن اللبس في الحكم ما زال موجوداً فنزلت الآية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (90) المائدة موضحة مضار الخمر أكثر وأكثر وأنها من عمل الشيطان الذي يريد أن يفرق به الناس بإيقاع العداوة والبغضاء بينهم ويشغلهم عن ذكر الله. واستمر الصحابة يستفتون الرسول صلى الله عليه وسلم في الخمر إلى أن جاء النهي في الآية التالية: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} (91) المائدة
وقول ابن عباس الآتي يوضح أن آيات الخمر الأوائل متشابهات منسوخات وهو: عن ابن عباس قال2:”يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى” [النساء: 43]، و”يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس” [البقرة:219] نسختها التي في المائدة. “إنما الخمر والميسر والأنصاب”. فلم يكن في الآية الأخيرة الناسخة إباحة للخمر كما في سابقاتها.
ثانياً: معالم آيات الخمر
لم يذكر في هذه الآيات لفظ “أُحِلَ لكم” أو”حُرِّم عليكم” مما يجعلها تخرج من دائرة “الحلال البيِّن” و”الحرام البيِّن”. فظهر شرب الخمر فيها وكأنه حلال وهو ليس بالحلال الواضح. وجاء فيه ما يوضح تعارض شرب الخمر مع الفرض وهو الصلاة مما ظهر حكمه وكأنه حرام وهو ليس بالحرام البيِّن.
جاء الحكم في الآية 43 النساء بصيغة “لا تفعلوا” مما جعل البعض يفهم منه أن هذا نهي عن الصلاة في حالة شرب الخمر. ونتيجة لإدمانهم لشرب الخمر، رأى فريق أن الصلاة قد سقطت عنهم. وفهم فريق ثالث أنهم يمكن أن يقيموا الصلوات الخمس ثم يسكرون بعد صلاة العشاء. وفهم الصحابة أن في أحكام الخمر تمهيداً للنهي عنها.
عند إرجاع الحكم للمحكم وهو الأمر بإقامة الصلاة{ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ وَٱرْكَعُواْ
مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ} يتضح أن السكر أي شرب الخمر غير مرغوب فيه لأنه يتعارض وأداء الفرض.
استفتي الصحابة في حكم تلك الآيات رسول الله صلى الله عليه وسلم فسكت.
تنزل الآيات بعدها موضحة قبح الخمر ولعب الميسر لقوله تعالى: (يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأَنصَابُ وَٱلأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) 90 المائدة
بعد أن علم الناس أن الخمر ولعب الميسر رجس من عمل الشيطان تهيؤا لتحريمها
الذي أنزل في الآية:{إِنَّمَا يُرِيدُ ٱلشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ فِي ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَعَنِ ٱلصَّلاَةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} 91 المائدة
أوضحت الآيتان 90 و91 المائدة أن الشيطان هو العامل الأساسي في فتنة الناس أي إغوائهم لشرب الخمر ولعب الميسر ليعصوا ربهم فينشغلوا بالملاذ والشهوات عن ذكر الله وعن الصلاة. بالاضافة إلى أن الشيطان يريد أن يوقع بينهم العداوة والبغضاء. إذاً الآيات: 43 النساء و219 البقرة و90 المائدة متشابهات غير واضحات الحكم في الخمر. أي في أحكامهن تشابه بين حلال شرب الخمر وحرامه.
يسكت الرسول صلى الله عليه وسلم عن إجابة الأسئلة في كل مرة حتى تنزل آية متشابهة أخرى توضح لهم قبح العمل بالاباحة أكثر وأكثر.
تنزل الآية الأخيرة فتحرم أو تنهي أو توضح حكم النهي بأي صورة من الصور. فنزل النهي عن شرب الخمر بصورة واضحة وقاطعة في الآية 91 المائدة بقول الله تعالى: (فهل أنتم منتهون) فقال الصحابة الآن انتهينا يا رسول الله.
الآية الأخيرة التي أوضحت الحكم المطلوب هي الآية المحكمة والناسخة التي يجب أن يعمل بحكمها. أما كل ما أنزل قبلها من آيات في الخمر ولم يكن بها نهي واضح فهي الآيات المتشابهة في الحكم وبالتالي هي المنسوخة اللاتي لا يعمل بهن.
بعد النهي عن الخمر يوسوس الشيطان للإنسان بأن حكم إباحة شرب الخمر ولعب الميسر هو حلال اتباعاً للمتشابهات لما في آياتهما من إباحة وعدم نهي واضح فيتبعه الذين في قلوبهم زيغ ابتغاءَ الفتنة وهي إحدى الشهوات التي جعلها الله اختباراً وابتلاءً وذلك ابتغاءَ تأويله أي ما يزينه لهم الشيطان من حسن عاقبة شربهم للخمر أي حسن ما سيؤول له
حالهم فيسقطون في الفتنة أي في الاختبار بسقوطهم في شرك الشيطان وحباله.
ثانياً: تحليل آيات الربا
تدرج حكم النهي عن الربا كما تدرج الحكم في النهي عن الخمر. حيث أوضح الله للمؤمنين أولاً موقف اليهود من الربا بقوله تعالى: :{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (161) النساء حيث كانت عظة وعبرة وتهيئة لهم للنهي عنه. وبعد أن أوضح الله موقف اليهود من الربا أنزل الله الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (130) آل عمران
لم يكن في هذه الآية نهي واضح وصريح لعدم أكل الربا وإنما كان النهي لعدم أكل الربا أضعافاً مضاعفة. أي أن بها إباحة بأكل القليل من الربا(لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة) وذلك لحداثة عهدهم بالإسلام وإدمانهم لحب شهوة المال. ففهم البعض أنه يمكن أكل الربا ولكن لا يحق لهم مضاعفته إن لم يقضى الدين في وقته. أما المؤمنون حقاً فقد شعروا بأن الربا غير مرغوب فيه.
بعد الآية 130 آل عمران أنزلت الآيتان التاليتان: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (275-278) البقرة
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة « وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدميّ هاتين, وأول ربا أضع ربا العباس» ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف, كما قال تعالى: {فله ما سلف وأمره إلى الله} مما يدل على أن آيات الربا الأولي منسوخة.
ثانياً: معالم آيات أكل الربا
أنزلت الآيات في التكاثر من إحدى الشهوات أي زينة الحياة وهي شهوة المال.
تدرجت الآيات في النهي عن أكل الربا.
أنزلت الآية 130 آل عمران بالنهي أولاً عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة. فظهر فيها
وكأن أكل الربا حلال إن لم يكن أضعافاً مضاعفة. ولكنه لم يكن بالحلال البَيِّن بلفظ (أحِلَّ
لكم).
عند الرجوع للمحكم يتضح أن الربا يتعارض مع التصدق بالأموال الذي هو أمر من أوامر الله. فالمحتاج يجب مساعدته بالصدقة والزكاة لا أن تؤكل أمواله بمضاعفة الربا إليه. ولهذا جاء الأمر في نهاية الآية 130 آل عمران ب”اتقوا الله لعلكم تفلحون” وقد علمنا أن معنى التقوى هو طاعة الله ومعصية الشيطان. فاتقوا الله تعني: أطيعوا الله واعصوا الشيطان لعلكم تفلحون. مما يدل على أن الشيطان هو الذي يغوي بني آدم لأكل الربا ويمنع التصدق. ولهذا جاء التمهيد للنهي عن أكل الربا أولاً بتوضيح صراط الضالين (اليهود) وصراطهم هو معصية الله عندما نهاهم الله عن أكل الربا ونهاهم عن طاعة الشيطان.
عدم مضاعفة الربا شرط يَصْعُب استيفاؤه لأن مضاعفته هي التي تغطي للناس
مخاطر تحصيل أموالهم، وأن الربا يتعارض مع حكم الفرض وهو التصدق. فظهر الحكم وكأن أكل الربا قد حُرِّم. ولكنه ليس بالحرام البيّن لعدم وجود نص واضح (حُرِّم عليكم) مما أخرج الحكم من دائرة الحرام البيّن. وبهذا اشتبه على الناس حكم الربا المطلوب.
أكل الناس الربا لفترة ليست بالقصيرة فأنزل الله لهم إنذاراً تمهيداً لتحريمه وهو:(فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَٱنْتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى ٱللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
أُنزل النهي عن الربا أخيراً وبصورة مباشرة في الآية:{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ ٱلرِّبَٰواْ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } 278 البقرة
أنزل النهي مسبوقاً بالأمر بالتقوى مرة أخرى تذكيراً لهم بالشيطان والحذر من اتباعه. وقد كان بعدم أخذ ما تبقى لهم من الربا وتركه بقوله تعالى(وذروا ما بقي من الربا) ثم أوضح لهم أن ذلك إمتحان لتوكيد الإيمان وتحقيق الهدف من الرساله لقوله تعالى (إن كنتم مؤمنين)
الآية الأخيرة محكمة ناسخة لحكم الإباحة الذي ورد في الآيات المتشابهات التي أنزلت قبلها. وبالتالي يصير حكمها الحكم النهائي الذي يعمل به وهوعدم أكل الربا.
بعد النهي من أكل الربا يغوي الشيطان الضعفاء “أي يفتنتهم” بأن يجعلهم يسقطوا في الفتنة باقناعهم بأن أكل أموال الربا حلال أي يغويهم بالعمل بحكم الإباحة في المتشابهات ثم يزين لهم عاقبة أكل الربا بأنها السعادة عن طريق كسب الأموال الكثيرة. فيتبعون حكم الإباحة ابتغاءَ الفتنة ( حب زينة المال عن طريق الربا) وابتغاءً لعاقبته أي ما سيؤول له حالهم (تأويله) وهي السعادة بكثرة المال فيربون في أموالهم. ولكن سرعان ما تنقص أموالهم وتقل نتيجة عدم تقواهم وهي معصية الله واتباع الشيطان فتظهر لهم العاقبة التي لا يعلمها إلا الله. وقد أوضح الله ذلك بقوله (يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَٰواْ وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَٰتِ) وجاء معنى هذه الآية في الحديث التالي: عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:” إن الربا وإن كثُر فإن عاقبته تصير إلى قل”
2-3 الدليل المقترح لمعرفة المتشابهات المنسوخات
يتكون الدليل المقترح من أسئلة وأجوبه من معالم آيات الخمر والربا كالآتي:
هل كان حكم الآية في إحدى الشهوات التي أدمنها الناس في الجاهلية؟ نعم
هل جاء حكمها بصيغة الأمر “إفعل” فظهر الحكم وكانه حلال وهو ليس بالحلال البين لعدم وجود النص “أحل لكم” نعم
هل كان حكم الأمر غير مطلقاً لأنه مقيد بشرط يصعب تطبيقه فظهر وكأنه حرام، ولكنه ليس بالحرام البين لعدم وجود النص “حُرِّم عليكم”؟ نعم
هل يتعارض حكم الآية مع أحد الأحكام المحكمة؟ نعم
هل عمل الناس بحكم الآية لفترة من الزمن؟ نعم
هل تشابه على الصحابة حكمها هل هو حلال أم حرام؟ نعم
هل استفتى الصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم في الآية ؟ نعم
هل أنزلت آيات بعد الآية المتشابهة موضحة أن العمل بها فيه إثم ومضار؟ نعم
هل تم نسخ حكمها جذرياً في الآية الأخيرة فصار حكمها لا يعمل به؟ نعم
هل ورد حكم الإباحة مرة أخرى في الآيات التي أنزلت للإفتاء؟ لا
3-4 آيات الظاهر
بما أن السيوطي قد صنف الآية 3 النساء من المتشابه وصنفها صبحي الصالح من الظاهر، فسوف يتم البحث عن القرينة التي تخرج معناها من ظاهرها ثم تحليل معاني ما أُنزل بعدها من الآيات لتحديد معالمهن ومقارنتهن بمعالم آيات الخمر والربا. فإذا تطابقت المعالم تصير الآية 3 النساء من الظاهر المتشابه المنسوخ . ومن ثَمَّ يطبق عليها الدليل المقترح للتأكد من صحة نتائج التحليل.
لقد اختلف العلماء في كثير من مصطلحات الآية 3 النساء. ومعاني المصطلحات التي اختلفوا فيها هي: معنى “تعدلوا” في قوله: “فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ” ومعنى الخوف في قوله: “وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ” ومعنى “ألا تعولوا” في قوله: ” ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ”. كما اختلفوا في العدد المباح من الزوجات هل هو تسع نسوة أم أربع أم واحدة. وبهذا تعتبر الآية 3 النساء من الظاهر المتشابه نتيجةً للاختلاف في فهم مصطلحاتها وفي فهم حكمها. إذاً البحث عن القرينة ضرورة لتخريج معنى الآية 3 النساء عن ظاهره فيؤكد أو ينفي الرأي
بأنها من المتشابه المنسوخ.
3-5 القرينة التي تصرف الآية 3 النساء من ظاهر
أ- القرينة المقالية
لقد كان اختلاف العلماء في المصطلحات التالية : ” فإن خفتم”، “ألا تعدلوا” و”ذلك أدنى ألا تعولوا”. ففي معنى “خفتم” قال بعضهم تيقنتم وقال آخرون ظننتم. فاليقين يدل على حدوث الشيء والظن يدل على الشك في حدوث الشيء. وكذلك كلمة ألا تعدلوا التي بنى العلماء تفسيرها على معنى “فإن خفتم”. وأيضاً معنى تعولوا الذي جاء تارةً بمعنى تميلوا وتارةً بمعنى تظلموا وتارة أخرى بمعنى تكثر عيالكم. فالبحث عن مراد الشارع من هذه المصطلحات بإيجاد القرينة من آيات القرآن الأخرى أمر ضروري لتوضيح مراد الشارع من الآية 3 النساء.
أولاً: فإن خفتم
إن لفظ الخوف لفظ مشترك: فالخوف من الشيء يمكن أن يكون قبل حدوثه، أو بعد حدوثه ويمكن استنباط نوع الخوف المقصود ينظر في الآيات التي ورد بها مصطلح الخوف في الآية: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} (34) النساء
لقد أوضح العلماء معنى “واللاتي تخافون نشوزهن” بالآتي… قال ابن عباس: تخافون بمعنى تعلمون وتتيقنون. وقال أبو منصور اللغوي: النشوز كراهية كل واحد من الزوجين صاحبه”. فقول ابن عباس يشير إلى أن ظرف الزمان “بعد” هو الذي يوضح المطلوب من الخوف لأن التيقن والعلم لا يتأتيا إلا بعد حدوث النشوز. والدليل على ذلك، عدم وجود المنطق في التدرج في إصلاح وضع الناشزات إلى أن تصل نهايته أن يضربن ويستدعى حكم من أهلها وحكم من أهله لمجرد الخوف فقط من نشوزهن.
وكذلك الحال في الآية: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} (128) النساء جاء معنى الخوف فيها بالآتي: “وإن علمت امرأة من زوجها ترفعًا عنها. وعند التمعن في هذا المعنى نجد أن كلمة “خافت” قد استبدلت بكلمة “علمت” مما يدل على أن المقصود بالخوف في القرآن هو الخوف بعد حدوث الشيء والتيقن منه إذ لا يعقل أن تتنازل المرأة عن حقوقها أو جزء منها ثم يوعظ الرجل بالتقوى ثم يصل الأمر إلى أن يتفارقا لمجرد خوفها من أن ينشز منها زوجها.
ثانياً: ألا تعدلوا
إن أصل الفعل تعدلوا هو تعدلون لأنه من الأفعال الخمسة. وقد دخل عليه حرف الجزم “ألا” في الآية 3 النساء فحذف حرف النون. وقد ورد اللفظ ألا تعدلوا مشتركاً حيث أنه يمكن أن يكون العدل بالشئ أو العدل عن الشئ. ولتوضيح مراد الشارع سوف يتم تحليل الآيات التي وردت فيها كلمة تعدلون. والآيات هي: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ} (1) الأنعام
{قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} (150) الأنعام
{وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (159) الأعراف
{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} (181) الأعراف
{أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (60) النمل
ففي الآية (1) الأنعام يستقيم الكفار بربهم الشيطان الذي يعبدونه فيشركون بالله ، بالرغم من أنه خالق السموات والأرض وجاعل الظلمات والنور
وكذلك الآية 150 الأنعام أوضحت أن الذين لم يؤمنوا بآيات الله هم الذين يعتدلون بكفرهم ثابتين عليه لا ينحرفون منه نحو الحق فلا فائدة منهم. أما الآيتان 159 و181 الأعراف فقد نصتا على أن المؤمنين من قوم سيدنا محمد ومن قوم سيدنا موسى هم الذين يعتدلون بهدي الله الحق ويستقيمون به أي أن المؤمنين يعتدلون ويستقيمون بهدي ربهم الله فهم إذاً يعتدلون به بعيداً عن طريق الشيطان، والكفار يعتدلون بربهم الشيطان بعيداً عن طريق الله. وقد أوضح ابن كثير معنى الصراط المستقيم بقوله:”لقد سئل الرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصراط المستقيم. فرسم خطين مستقيمين أمامه وقال: هذان الخطان هما الصراط المستقيم. ثم رسم خطين مستقيمين عن يمينهما وخطين مستقيمين عن شمالهما وقال: إن الخطين اللذين عن اليمين وعن الشمال هما طريق الشيطان”. وهذا المعنى يشير إلى أن الإنسان إذا مال يميناً أو يساراً عن وضعه الذي كان فيه وهو العمل بحدود الله يكون قد مال من الله إلى الشيطان. ومن هذه المعاني نجد أن كلمة تعْدِلوا أصلها تعْتدِلوا بمعنى تستقيموا بحدود الله. وما يؤكد ذلك معنى الكلمتين “يعدون” و”لا تعدوا” اللتان وردتا في الآيتين التاليتين: {واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (163) الأعراف {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} (154) النساء
فالفعل يعْدُون في الآية 163 الأعراف أصله يعتدون لما ورد في معنى الآية: “واسألهم يامحمد توبيخاً “عن القرية التي كانت حاضرة البحر” مجاورة بحر القلزم وهي آيلة ما وقع بأهلها “إذ يعدون” يعتدون “في السبت” بصيد السمك المأمورين بتركه فيه…”
وكذلك الفعل لا تعدوا في الآية 154 النساء أصله لا تعتدوا كما ورد في معناه : “والأصل فيه تعتدوا أدغمت التاء في الدال”
من كل هذه المعاني نصل إلى قاعدة لغوية وهي: “إذا وقع حرف التاء في الأفعال الخمسة بين عين ساكنة ودال مكسورة أو مضمومة يمكن حذفه”
عليه يكون معنى “ألا تَعْدِلوا” في الآية 3 النساء هو “ألا تعتدلوا”. وبالتالي يكون عدم الاعتدال هو عدم اتباع حدود الله. وفي هذه الحاله عدم الإعتدال هو عدم الوفاء بالعقود والعهود لقوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } 91 النحل
ولهذا وصف الله الراسخين في العلم بأنهم أولوا الألباب ووصف أولي الألباب بأنهم:
{ٱلَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ ٱللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ ٱلْمِيثَاقَ} 20 الرعد وعقد الزواج من أقوى العهود والمواثيق التي أخذها الله على عباده لأنها أبرمت بكلمة “لا إله إلا الله” لقوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَٰقاً غَلِيظاً} 21 النساء
وبهذا نصل إلى أن المقصود ب”ألا تعدلوا” هو “ألا تعتدلوا بحدود الله و”ليس “ألا تقسموا بالتساوي” كما يعتقد الناس، بالرغم من أن القسمة بالتساوي كانت حكماً مطلوباً بجانب الاعتدال في فترة إباحة المتعة بالنساء. ودليل ذلك حديث السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: “كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعدل ويقسم” أي أنه مستقيم معتدل بحبها وبالوفاء بعقدها وفي نفس الوقت كان يقسم للأخريات معها بالتساوي في المبيت والنف
ثالثاً: ذلك أدنى ألا تعولوا
لقد ورد المصطلح ذلك أدنى في الآية : {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} (108) المائدة
جاء في تفسير الآية الآتي:” ذلك الحكم عند الارتياب في الشاهدين من الحلف بعد الصلاة وعدم قبول شهادتهما, أقرب إلى أن يأتوا بالشهادة على حقيقتها ومعناها إن هذا الحكم هو أقصر الطرق للإتيان بالشهادة الصادقة. وكذلك الآية:{تُرْجِي مَن تَشَاء مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَن تَشَاء وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} (51) الأحزاب
جاء معنى ذلك أدنى فيها هو ذلك أقرب إلى أن يفرحن ولا يحزنَّ, ويرضين كلهن بما قسمت لهنَّ. وجاء معنى ذلك أدنى في الآية:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} (59) الأحزاب
ذلك أقرب أن يميَّزن بالستر والصيانة, فلا يُتعَرَّض لهن بمكروه أو أذى. أي هو أقصر الطرق للتعرف عليهن فلا يؤذين.
لقد أوضح تفسير ابن كثير معنى ألا تعولوا تارة بمعنى ألا تكثروا عيالكم وتارة بمعنى
ألا تجوروا وتارة أخرى بمعنى ألا تميلوا.
فجاء معنى{ذلك أدنى ألا تعولوا} في تفسير القرطبي كالآتي:”أي ذلك أقرب إلى ألا تميلوا عن الحق وتجوروا؛ عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما”ز بذا أوضحت القرينه أن المقصود من كلمة “تعولوا” في الآية 3 النساء هو كل معانيها وهي: ألا “تجوروا” وألا “تميلوا” وألا “تكثروا عيالكم”. لأن الجور(ظلم) والميل ضلال لأنه ضد العدل الذي هو أمر من أوامر الله) وكثرة العيال فتنة تشغل عن ذكر الله. ولهذا قصد بها كل المعاني التي توضح قبح العمل بحكم الآية 3 النساء. عليه أوضح الله سبحانه وتعالى أن المرأة الواحدة والواحدة فقط هي أقصر الطرق التي تحقق عدم الجور وعدم كثرة العيال وعدم الميل بقوله تعالى:{ ذلك أدنى ألا تعولوا}. وأقصر الطرق هو الطريق المستقيم وبمجرد وجود إمرأة ثانية يعوج الطريق ويحدث الميل مع الشيطان والله أعلم.
ب- القرينة الحالية
إن القرينة الحالية كما أوضحها الخضري هي التي توضح الحال أي الوضع قبل حكم الآية وبعد حكمها. والقرينة الحالية للآية 3 النساء هي: أن الزواج من المرأة قبل نزول الآية كان للمتعة أي للتمتع بها إما بمالها أو بجمالها أو بحسبها ونسبها. ولهذا وردت الإباحة المؤقتة لتحقيق هذه الأهداف الأربعة لإدمان الرجال لها (أي هو سر الاباحة بأربع نسوة). ثم تغير الحال بعد ذلك بأن يكون الهدف الأول والأخير من الزواج من المرأة هو الدين حيث جاء في الحديث: تنكح المرأة لأربع لجمالها ولمالها ولحسبها ونسبها، فاظفر بذات الدين تربت يداك. أي أن المرأة كانت تنكح أساساً من أجل أسباب أربع وكل هذه الأسباب تفنى وتزول وما يدوم ويبقى هو السبب الديني ونهايته كلها فوز وخير. والدليل على ذلك الحديث التالي: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:(لا تزوجوا النساء لحسنهن، فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن، فعسى أموالهن أن تطغيهن، ولكن تزوجوهن على الدين ولأمة خرماء ذات دين أفضل) وعَرَّف الخرماء بالمشقوق أنفها. وهذا يعني أن لا يكون الزواج من أجل المتعة أي التمتع بإحدى الشهوات الأربع التي يحققها الزواج، وإنما يكون من أجل الدين فقط والقصة الآتية التي يستدل بها الرجال على أن التعددية من أجل المال حلال هي خير سند على جدوى الزواج من أجل الدين فقط وهي: جاء رجل متزوج للرسول صلى الله عليه وسلم يشكو فاقته. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تزوج”. فتزوج الرجل بثانية. فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يخبره بأن فاقته قد زادت بعد أن تزوج. فقال له تزوج. فتزوج الثالثة فصار أكثر فقراً. فجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال له تزوجت الثالثة وزاد فقري فماذا أفعل؟ قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: تزوج. خرج الرجل من الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول: تزوجت ثلاث مرات دون جدوى وليس لي رغبة في الرابعة ولكن هذا أمر من رسول الله والله لن أخالفه بل سأتزوج طاعةً له فقط. فتزوج الرابعة من أجل الدين أي من أجل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ولم يتزوجها من أجل المال كما كان الحال مع زيجاته الأخر. فجاءت الرابعة إليه بالخير ووسع الله له في رزقه. فزواجه من أجل المال زاده فقراً وأما زواجه من أجل الدين فقد أكسبه رزقاً.
والآيات التي تصف المؤمنون المفلحون ما توصل إليه البحث وهو أن الزوجة الواحدة كافية لاستمرارية الحياة وما زاد عنها هو تعدي على حدود الله وهي:{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} (5-7) المؤمنون حيث جاء تفسير” فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ” كالآتي: “فمن طلب التمتع بغير زوجته أو أمَتِه فهو من المجاوزين الحلال إلى الحرام, وقد عرَّض نفسه لعقاب الله وسخطه” وتفسير هذه الآية يوضح أن المقصود هوعدم إبتغاء زوجة ثانية أو إمرأة ثانية من أجل التمتع بها. فالمؤمنون المفلحون هم الذين يكتفون بالزوجة الواحدة أو ما ملكت اليمين فلا يعتدون بذلك على حدود الله لأنهم منشغلون بعبادة ربهم وبطاعته إلا إذا اقتضت المصلحة الدينية غير ذلك مع الإستقامة بحب الأولى والوفاء بعهدها وبالتالي لا يظلمون أحداً ولا يظلمون أنفسهم.
3-6 آيات الإفتاء
لقد استفتى الصحابة رسول الله في الآية 3 النساء كما أوضحه الحديث التالي:عن عروة ابن الزبير قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله الآيات التالية: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلْوِلْدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَٰمَىٰ بِٱلْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً}{وَإِنِ ٱمْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَٱلصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ ٱلأنْفُسُ ٱلشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} {وَلَن تَسْتَطِيعُوۤاْ أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ ٱلنِّسَآءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ ٱلْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَٱلْمُعَلَّقَةِ وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ ٱللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً}{وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} {وَللَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ وَكِيلاً} {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا ٱلنَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ ذٰلِكَ قَدِيراً}{مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَكَانَ ٱللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} 127-131 النساء
وبعد أن أفتى الله الرجال في حق اليتيمة في الآية “127”، أفتاهم في حق النساء الأخريات اللاتي جاء فيهن (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث…) في الآيات “128-131” النساء. ففي هذه الآيات معاني عميقة حيث أوضحت أن النشوز وهو عدم الاعتدال مع الأولى وفاءً لعقدها والميل عنها لأخرى يؤدي لعدم القسمة بالتساوي في المبيت والنفقة. وبهذا يتضح جلياً أن معنى “ألا تعدولوا” هو ” ليس القسمة بالتساوى. فكيف تكون القسمة بالتساوي هي التي تؤدي إلى حكم التنازل عن القسمة أو بعضها؟!!! فالنشوز هو الميل وهو عدم العدل أي الاعتدال الذي يؤدي لعدم القسمة بالتساوي. والحكمة من الصلح إن الله يطلب من الرجل أن يصلح ميله ويريد المرأة أن تكون مع الرجل في فترة الاصلاح ولهذا استبدلت بنود الزواج الأساسية (المبيت الكامل والنفقة الكاملة) ببنود الصلح وهي التنازل عن شيء من المبيت أو النفقة أو الاثنين معاً. والمرأة هي التي تحدد بنود الصلح حسب ما يناسبها. وعلى الرجل اصلاح ميله ووضعه المعوج كي تستقيم الأسرة مرة أخرى. ولكن إذا لم يستطع اصلاح ميله عليهما الفراق وأن يبقى مع من أحب وبهذه الطريقة يكون مع إمرأة واحدة وهو ما ورد في الآية 3ز النساء وبهذه الطريقة تم المنع عن التعدد بأكثر من واحدة. فكل ما مال عن التي هو معها عليه مفارقتها فهل سيكون هنالك تعددية أو أسرة مستقرة؟
3-7 توجيه أسئلة الدليل المقترح للآية 3 النساء
هل كان حكم الآية في إحدى الشهوات التي أدمنها الناس في الجاهلية؟ نعم
هل جاء حكمها بصيغة الأمر “إفعل” فظهر الحكم وكانه حلال وهو ليس بالحلال البيِّن
باللفظ “أحل لكم” نعم
هل كان حكم الإباحة غير مطلق لأنه مقيد بشرط يصعب تطبيقه فظهر وكأنه حرام، ولكنه ليس بالحرام البين لعدم وجود النص “حُرِّم عليكم”؟ نعم
هل ورد في الآية ما يوضح صعوبة استيفاء الشرط الذي قيد حكم الإباحة؟ نعم
هل يتعارض حكم الآية
«الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم»!
أيه رأيك في دي يا مولانا