مقالات سياسية

السودان … وفرة مقومات التنمية والمعادلة الغائبة

عيسى محمد

كثرة الموارد ووفرة مقومات التقدم الاقتصادي والرفاه الاجتماعي عنوان للسودان وتصفح سريع لصفحات سجله يظهر البون الشاسع بين العنوان ومحتوى سطور الواقع. أدرك البريطانيون قديما ما يحوي السودان من ثروات فاستعمروه وأملوا له مستقبلا واعدا فحثوا المستثمرين والباحثين عن الثراء على الهجرة إليه مع بعض رصفائه من دول مثل أستراليا وكندا، فكان الرصفاء قدر الآمال والتوقعات تطورا وثراء ويخذل ثالثهما الأمل فيتخلف. وإن أجملنا مقومات الريادة اقتصاديا واستراتيجيا يمكننا أن ذكر منها القيم الضابطة لحركة المجتمع وتفاعله والكوادر البشرية والموارد الطبيعية والموقع الجغرافي والمساحة وغيرها وللسودان حظ وافر من الجميع.

يحرص المجتمع السوداني على قدر من الانضباط القِيَمِي، ولو جزئيا، فالأسرة نواة يُعتنَى بها ويُحافظ عليها، صغيرة وممتدة، والأواصر بين أفرادها متينة راسخة قلّما يعتري التراخي رباطها. وتستند منظومة القيم على رصيد من تعاليم الدين والأعراف المحافظة والموروثات التي تُعلي الفضيلة والشهامة والتعاون والجد في العمل والبعد عن فاحش القول وسيء الفعل، ومقدار الحرص على منظومة القيم يحدّد الموقع الاجتماعي للفرد، وبقدر ما، مقدار نصيبه من التعامل المالي والفرص الاقتصادية وإن تتضاءل ذلك الحرص على منظومة القيم تلك وبهت أثرها في حاضرنا. وهي قيم إن فُعّلت حقا وصلت الأرض بالسماء والدنيا بالأخرة واستلهمت من الماضي التليد عبرا تؤانس الحاضر توجيها وإرشادا وتسقي للمستقبل غراسا يفيض بالخير الوفير.

يعتبر السودان متوسط الكثافة السكانية مع قدر لا بأس به من التعليم والتأهيل لمواطنيه. إذ يتجاوز عُمر كثير من مؤسسات التعليم العالي الحديث فيه قرنا من الزمان ومسيرة ممتدة من خريجين يُشهد لهم بالكفاءة مع رصيد متراكم من الخبرات والقدرات والتميز علما وثقافة وإبداعا. ولكن خلال السنوات الأخيرة شهد التعليم العام والعالي توسعا أفقيا على حساب النمو الرأسي متمثلا في جودة مخرجات التعليم وتكثيف نوعية التخصصات المرتبطة بحاجة سوق العمل ومتطلبات النهضة والنمو. وهنا تبرز الحاجة لربط خطط وبرامج وفلسفة التعليم بالاستراتيجية العامة للدولة واستثمار الموارد البشرية في خدمة أهداف الاستراتيجية تلك مع العمل على إيقاف نزيف الأدمغة المتمثل في هجرة الكفاءات النوعية للخارج وتهيئة بيئة جاذبة لها في سوق العمل المحلي للمساهمة في دفع عجلة التنمية والتطور. مع العلم أن وفرة الموارد وتنوع الأنشطة الاقتصادية يتيح لكل قطاعات العاملين فرص عمل كافية بغض النظر عن المؤهلات العلمية والمهنية التي تحصلوا عليها. فهناك الحاجة للعامل البسيط والماهر والفني والمتخصص والخبير لإدارة وتسيير مستويات العمل المختلفة. وطيف المهاجرين للسودان من دول الجوار القريب والبعيد وأخرى نائية، والإحصائيات تشير إلى مئات الآلاف، بل الملايين، والكثير منهم دون رصيد من تأهيل وخبرة، وتحوُّل هجرتهم العابرة إلى استقرار دائم وحرص على الحصول على مستندات مواطنة كاملة فيه وتَحُسّن أوضاعهم المالية واكتساب بعض المهارات بالممارسة لدليل على وفرة فرص العمل تلك.

وأرض السودان حبلى بمزيج واسع من الموارد الطبيعية، زراعية وحيوانية ومعدنية ومياها هاطلة وجارية وأخرى حبيسة باطن الأرض، وبحرا ممتدا ذاخرا بالخيرات، وشمسا ساطعة تجود طوال العام بطاقة لا تنفد، ورياحا سحّاءَ معطاءة حوامل غيث وجوالب خير ومصدرا آخر لطاقة نظيفة تتجدد، وأرضا شاسعا من مليوني كيلو متر مربع تدنو، وسهولا واسعة تمتد عامرة بيانع الثمار ووارف الظلال وخُضْر المروج ووفير الأنعام؛ سلة غذاء ملآ تكفي الدار ويفيض خيرها للجوار ونائي الديار.

ويتبوأ السودان موقعا جغرافيا مميزا شرق أفريقيا فيطلّ بساحل طويل على أهم ممرات التجارة العالمية، البحر الأحمر، ويحتل مركزا في قلب العالم الإسلامي ويمثل حلقة وصل وانتقال ومعبر تبادل تجاري وعلمي وثقافي بين أفريقيا وآسيا التي لا يفصله بينها سوى مياه البحر، وبين شمال أفريقيا عربي الثقافة وإسلامي الديانة وقمحي البَشَرَة ونصفها الأسمر جنوب الصحراء الكبرى متعدد الأعراق والثقافات والأديان ومن النصفين يأخذ بنصيبه لونا وثقافة وسمات وإرثا حضاريا.

والكم الوافر من مقومات التقدم والتطور والنمو من الطبيعي أن ينعكس إيجابا على السكان سعة في الرزق واستقرارا في الأمن وصلاحا للحال يُبرِز ما هم عليه من خير ونِعم، ولكن لسان الحال خلاف المأمول. يقول أهل الكيمياء أن المركبات تستند في تكوينها إلى معادلات تضبط أنواع ومقادير العناصر وبيئة التفاعل وإلا لم يكتمل التكوين. ولعل هذا ما ينطبق على حال السودان إذ لم يتوصل إنسانه بعد لمعادلة تضبط العناصر والمقادير المناسبة لمقومات التطور ويوجد البيئة الصالحة للتفاعل ليصل إلى مركّب متجانس. إذ يفرط في كمية عنصر ويقلّل ثانيا ويحذف ثالثا ويضيف آخر دون حاجة فينتج خليطا لا هُوية له، بل قد تُخلط مكونات خطأ ودون رقابة وإشراف ووسائل وقاية وسلامة فتتفاعل سلبا وتحدث حريقا وتلفا وخرابا، وقد يفسر ذلك الانفجارات المتتالية في مسيرة السودان والواقع المأزوم الذي يعيشه. ولا نشك أن في السودان خبراء وعلماء ومفكرين حادبين على مصلحته على قدر من الخبرة والحصافة والدراية والدُرْبَة والمعرفة بكيفية مزج تلك العناصر مع حرص على سليم النتائج وصحيح التكوين وصلاح البيئة ليكون ناتج التفاعل مركّبا نافعا ومنتجا مُعافا به ينصلح الحال ويَحسُن المآل.

فهلّا نتحلق بنظام ونتحاور بهدوء ونصغي باحترام لمن ملأ العلم رؤوسهم فثقُلت وانحنت تواضعا، وأدبهم فخفضوا أصواتهم وقارا، لكنّ ضجيج التنازع أضاع فحوى رسالتهم فلاذوا بالصمت. فإن يكن الكلام من فضة فالسكوت أحيانا من ذهب، وليس كل القول مندوب فلْنقُل خيرا أو لنصمت. ولندع لعفيف القول وجميل السمت وكريم الخلق ونافع العلم ونبيل القصد مساحة تتسع فألاً فتسكن النفوس ويخفت الصراخ، ونرتضي التفاوض الهادف والحوار الهادئ سبيلا لحلحلة عويص المشكلات وسُلّما نتسنَّم به شوامخَ ذُرى المجد؛ وليكن شعارنا “وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ” الانفال- 46. وما أبلغ هذا النص القرآني وهو ينهى عن التنازع ويحذر من مآلاته ويصف حالنا بعده! فهل نعتبر؟

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..