
في سوداننا، مثله مثل بقية الدول العربية والأفريقية والاسلامية، يكون دائما التفاؤل، وغيره من أشياء تنبئ عن نظرة مستقبلية مشوب بشيء ما.. فلا يكون مكتملاً، ذلك لأن الفعل الذى أدى إليه عادة لا يكون مكتملاً. من الأمثلة القريبة على ذلك ما حدث عند الاتفاق على تقاسم السلطة الانتقالية بين المدنيين والعسكر– ولا أقول الجيش– وكذلك الوثيقة الدستورية التي عبرت عن ذلك الاتفاق. فما يحدث حتى اليوم من شوائب في مسيرة الثورة يعود تماماً إلى عدم اكتمال الاتفاق والوثيقة. وهناك أيضاً تكوين الحكومة الانتقالية والعلاقة بين مجلسي السلطة وبينهما والحاضنة…الخ.الخ. وبما أن مقالنا اليوم عن حدث عظيم حدث بالأمس في جوبا يخص السودان الشمالي، فإن ما ينطبق على الأشياء سالفة الذكر لا بد منطبق عليه: اتفاقية السلام التى يعتبرها الجميع، وعن حق، القضية الأولى للفترة الانتقالية: متفائلون غاية التفاؤل بما تم التوصل إليه بعد جهد جهيد وطوال سنة بأكملها بين فريقين يقولان أنهما في الحقيقة فريق واحد وأن ما جرى بينهما ليس تفاوضاً وأنما تبادل للرأي! وبرغم أن مثل هذا الحديث لا يوصف إلا بأنه فصاحة من قائليه، إلا أنه يعبر عن حقيقة مفترضة بين جهتين تشاركتا الثورة ضد النظام الأسوأ في تاريخ العالم الحديث ويعبران، قولاً على الأقل، عن نفس الأهداف النهائية التي ستجعل من المستحيل العودة إلى الحرب بعدما اثبتت الثورة أن كلمة سلمية سلاح أكثر مضاء من البندقية. فإذا اضيف إليها “ضد الحرامية” أصبحت برنامجاً مكتملا! وهذا يعبر عن أول الانتقادات التي وجهت لتفاوض جوبا، فهو قد احتاج إلى أن يعقد خارج البلد– لماذا؟ واحتاج إلى وساطة وإن كانت من الأشقاء– لماذا؟ ثم أن من اشرف عليه، ظاهرياً على الأقل، من لا حق له في ذلك فاكتسب بعض الألق المطلوب لأمر في نفس يعقوب المحلي والخارجي!
قد تبدو هذه الانتقادات شكلية، وهي ليست كذلك وهناك بعضها الأكثر أهمية، مثل القول بأن أسلوب المسارات الذي اتبع بدون ضرورة، هو الذى أدى إلى ظهور مسارات لا علاقة لها بقضية السلام وليس لأصحابها جنود داخل السودان أو خارجه وأنها أحد الأسباب الرئيسة التي أدت إلى محاصصة المناصب وأطالت عمر التفاوض، بينما ظل أصحاب الوجعة خارج القضية. هذه بعض الشوائب التي ذكرت عن تفاوض جوبا وقد تكون منطقية في جملتها، ولكنها لن تؤثر على عظمة ما حدث، إذ أن ما حدث ليس بخارج عن نطاق القاعدة التي ذكرناها: عدم اكتمال النتيجة، لعدم اكتمال الأعداد الذي أدى إليها، بحسب ما جاء في نماذج الانتقادات أعلاه.
فإذا عدنا مرة أخرى لتأكيد هذه الحجة فإننا نقول للمتشائمين الذين ذهبوا لحد القول بأن ما حدث لا يستحق الاحتفال، بل واعتبره البعض منهم كارثة! وقد أوردوا ما يؤيد رأيهم من مثل الانتقادات أعلاه وزادوا عليها بما يؤكد من وجهة نظرهم أن نتيجة ما حدث في جوبا لم يكن إلا صفرا! نقول لهم أننا لو طبقنا نفس الأسس على نتائج الثورة بعد اتفاق تقاسم السلطة والوثيقة التي وقعها الطرفان لقلنا أنها صفر وربما تعدته إلى السلب. إذ أنه حتى اليوم لم يتم القصاص للشهداء والمحاكمات لدهاقنة النظام المباد تراوح مكانها، والأحوال الاقتصادية والمعيشية تتردى لأسوأ مما كان قبل الثورة، والعسكر يطلبون التفويض…الخ ..الخ ولكن كعادة المتشائمين فإنهم ينظرون للنصف الفارغ من الكوب، فهم لا يرون الوقوف الصلب لشباب الثورة ضد كل محاولات التراجع، ولا ما تقوم به قحت، برغم كل شيء، من وقوف ضد محاولات صندوق النقد وامريكا وبعض أعوانها الإقليميين لاتباع سياساتهم الاقتصادية، كجزء من لجم السعي إلى تحرر كامل عن هذه السياسات. وبالطبع فإن الالحاح الثوري الذي أدى إلى تعيين الولاة وما نتج عنه من تلاحم بين قوى الثورة وغالبية الولاة ونتائج مواكب جرد الحساب التي أدت إلى كسر الجمود في علاقة الحكومة بالحاضنة، ثم إلى موقف الدكتور حمدوك من قضية الشركات الأمنية والذي أدى إلى التفات جميع قوى الثورة إلى هذه القضية التي فيها حل المشكل الاقتصادي برمته، إلى غير ذلك من الايجابيات.
لذلك فان النظر للاتفاق الذي تم في جوبا برغم ما بذل فيه من مجهودات، وبرغم ما يمكن أن يوجه إليه من انتقادات، على أنه صفري النتيجة لا يصح، على الأقل مقارنة بقبولنا للشراكة والاتفاقية على الوثيقة الدستورية التي نتجت عنها. فمثلما لتلك ظروف وملابسات واعتبارات من مختلف الفرق التي ساهمت في الثورة باتفاق تام على ضرورة ذهاب الانقاذ ولكنها اختلفت بعد ذلك لاختلاف أهداف ما بعد إزالة النظام، فكذلك هناك نفس الظروف والملابسات والاعتبارات التي تجعلنا نقبل ما تم، وبمثلما تعاملنا مع تلك ولا نزال نتعامل، بنجاح هنا وفشل هناك، سنتعامل أيضاً مع هذه. فهكذا هو تطور الثورة، التي لا تتم بضربة واحدة وإنما من خلال جولات مثل جولات الملاكمة التي تحسب فيها عناصر الفوز والخسارة بالنقاط وحسب صبر وجلد وتكتيك المتصارعين. فما هي العناصر التي نظن أن توفرها سيضمن الفوز في أقل عدد من الجولات، إذ أن الفوز النهائي مؤكد مع ثورة ديسمبر متفردة الوعي:
أولاً: وقد اتضحت هوة الصراع بين المكونين المدني والعسكري، فإنه كان من الواضح جداً اتساع هذه الهوة في تصرفات الجانبين قبل وأثناء وبعد التوقيع على وثيقة السلام. ملخص ما وصل إليه الصراع هو العمل من كلا الجانبين على جذب العنصر الجديد الذي اكتسب كثيراً من القوة غير المستحقة، على الأقل لبعض عناصره، نتيجة التنافس بين المكونين على عناصر الجذب المذكورة. وهنا لا بد من الطلب إلى فصيلي القائدين عبدالعزيز وعبدالواحد لمراجعة موقفيهما ليكونا دعماً لقوى الثورة التي تتفق مع أغلب ما منعهم الانضمام إلى مفاوضات جوبا بتقدير مختلف ربما للتوقيت وربما أيضاً للوضع الذى تجد فيه السلطة الانتقالية نفسها من قيود دستورية وصراعات تكوينية.
ثانياً: وكما ذكرنا من قبل، فإن من ايجابيات مواكب “جرد الحساب” ما تم من عودة حكومة الثورة إلى حضن قحت، بالإضافة إلى أنه، في تقديري، فإن التعجيل بتوقيع اتفاق جوبا نفسه قد تم بدفع من هذه المواكب. وهذا ما يمكن البناء عليه لتمتين جبهة قوى الثورة بضم قوى الكفاح المسلح على أساس الموثق الجديد لقوى التحرير، الذي يعتمد الأهداف اً للثورة المتفردة والتي يدور حولها الصراع بين كل القوى المتفقة على تلك الأهداف وعناصر الهبوط الناعم وداعميهم داخلياً وخارجيا.
ثالثاً: اكمال مؤسسات السلطة بتكوين المجلس التشريعي وقد أنتهت أسباب تأخيره بما يضيف إلى عناصر القوة لدى الكتلة الثورية، خصوصاً بعد التجربة الناجحة في تعيين الولاة.
وأخيراً، فإن كل ما سبق من عناصر ستقود إلى إعلان النجاح النهائي لقوى الثورة، الذي لن يتم إلا إذا تمت خطوة الأساس التي هي وحدة قوى الثورة في مؤسسة قحت على أساس ميثاق جديد محدد المعالم والعلاقات بين عناصر الفترة الانتقالية. وهكذا تكون اتفاقية جوبا قد ساهمت بقدر كبير في دفع الثورة خطوات إلى الأمام، إذا تعاملنا معها بظروفها.
______
عبدالمنعم عثمان
الميدان 3693،، الخميس 3 سبتمبر 2020