العميل يوسف اب دلاقين

تداعيات
هاهو ( يوسف اب دلاقين ) يحمل عبء هذيانه الممتد ، يتجول به في كل مكان ، تتداخل في هذا الهذيان شخصيات درامية ، يتقمصها ، يتحدث بطريقتها ، يصرخ بآلامها، يبكي، يضحك ،لكنه يجافي الصمت تماما ، لا يملك يوسف اب دلاقين الا ان يتحدث ، يتحدث و خطواته لا تستقر في مكان و لا علي حال ، يعبر شوارع و يمر بمقاهي و يدخل ازقة و يخرج منها الي اسواق ، يصادفك في كل مكان ، تراه يحمل هذيانه في شارع المك نمر ، يركض علي شارع الاربعين ، يهمد هذيانه الي همس غريب و خطواته تواقع شاطي النيل من حيث الموردة و حتي المسرح القومي ، نحتار نحن اصحاب الصنعة في مقدرته الهائلة علي التقمص و كأنه يقصدنا بذلك ، لم يمر يوم الا و كان يوسف اب دلاقين يمارس تنقلات هذيانه بين شخوص عالقة في ذاكرته امامنا و نحن جلوس امام مبني الفنون الشعبية ، حدثني صديقي الكائن الدرامي المتميز سيد عبد الله صوصل ان يوسف اب دلاقين قد ادمن الحضور و التواجد بهذياناته في نادي الزهاجة امام دكان عم عبدو المواجه لمدرسة المليك ، يمر هناك و يستخرج من بين نسيج هذياناته شخصيات درامية ، يتحدث بلسان إمراة مسنة ، يتقمص هذيانه منلوج شاب ، ينتقل الي صوت فتاة ذات دلال ، يعود الي صوت يخصه هو ، يتحول الي راو به من البذاءة ذلك النوع من شطط القول ، يروي حوادث و حكايات تفقد الترابط المنطقي ، يتداعي الي درجة العبث ، يضحك كي يمهد لبكاء ميلودرامي ، يروي حكايات تتسم بصور غرائبية عن خيانات زوجية ، عن شذوذ و إنحرافات اخلاقية ، يترنم احيانا بأغان لها بكلمات الابتذال علائق غريبة ، يفعل كل ذلك و هو متحرك هنا و هناك و لا يهمه وجود مشاهد او مستمع فهو يجترح فعله الدرامي هذا و كأنه يبحث عما يريحه من عبء منلوج نفسي كثيف .
مع يوسف اب دلاقين تعجز تماما ان تلتقط من هذيانه المبعثرهذا علائق يمكن بها ان تصل الي سبب مباشر لانفلاته عن الحياة العادية ، تعجز ان تعرف مثلا اين يسكن ؟، هل ينتمي الي اسرة موجودة ؟ ، هل هو من سكان المدينة ؟ ،هل هو وافد عليها ؟ ، كل ما في الامر ان يوسف اب دلاقين يوجد هنا و هناك ، يتواجد هكذا متجولا بهذيانه المعقد التفاصيل في كل مكان و بالاضافة الي انه يحمل معه عبء هذا الهذيان ، هذا العبء النفسي الذي يحرك خطواته في كل مكان يحمل ايضا عبء الملابس التي يرتديها ، يرتدي ملابس كثيرة حتي ان شكله كاد يتكور مع ملاحظة انه يرتدي نوع محدد من شكل الملابس فهو لا يرتدي سوي الجلابيب و العراريق و السراويل و يبدو للناظر اليه مع كمية هذه الملابس سمينا و لكن حركته تلك القلقة تفضح هذه السمنة المفتعلة و تحس به في حركته خفيفا الي درجة انه يملك قدرة ان يتحرك برشاقة و هوينتقل في نسيج هذيانه من شخصية يتقمصها الي اخري ، لايكتفي يوسف اب دلاقين بصوت تلك الشخصيات التي يتقمصها و لكنه يهتم و بحرفية ممثل مقتدر بتفاصيل حركة الشخصيات ، اشاراتها ، طريقة مشيتها ، نظرات عينيها ، يخشوشن في مشيته حين يكون في حالة رجل حمش و يتثني جسمه و يلين و هويخرج من بين هذيانه المعقد إمراة او صبية منحرفة ، كل تلك الحركة تفضح تلك السمنة المفتعلة الي درجة التكور و تحس ان وراء هذه الملابس الكثيرة و المتكدسة جسما نحيلا خفيف الحركة .
في يوم جمعة من صيف 1994م من القرن المنصرم ، تحركت ذلك الصباح من حي البوستة بامدرمان اقصد مبني الفنون الشعبية كي اكتب هناك احد نصوص التداعيات ، امام مدخل الفنون الشعبية وجدت ثلاثة من العساكر – العساكر متواجدون هنا في مبني الفنون الشعبية كقوة لحراسة المنطقة التي تحولت بقدرة قادر متسلط من مبني للفنون الشعبية الي منطقة عسكرية – وجدت ثلاثة من العساكر يمسكون بتلابيب يوسف اب دلاقين و يجرجرونه الي داخل المبني و هو يقاوم بعنف و لاول مرة اشاهد يوسف اب دلاقين خارج هذياناته و خارج شخصياته الدرامية منتميا و بإنتباه الي واقع اللحظة الراهنة و القاسية ، العساكر يدفعونه الي الداخل و هو يقذف نحوهم بشتائم لاذعة و لكنهم مصرون علي الامساك به ، إقتربت منهم سائلا :- ( في شنو يااخوانا ؟ )
جوبهت بصمت متعمد و لكن تحت إلحاحي بالسؤال اجابني احد اولئك العساكر قائلا :- ( الزول ده مصيبة )
( مصيبة ؟ ، كيف يعني ؟)
تم تجاهلي للمرة الثانية و يوسف اب دلاقين يشتم و يشتم و لاول مرة اتحسس الصوت الحقيقي الذي يخصه هو دون شخصيات هذياناته تلك
( ياخوانا ما توروني ، في شنو ؟ )
( الزول ده عميل )
( عميل ؟ ، ده يوسف اب دلاقين ، مجنون معروف )
( مجنون بتاع شنو ؟ ، بقول ليك ده عميل )
( عميل كيف يعني ؟ )
( ما بتعرف عميل يعني شنو ؟ )
( عميل لي منو )
( ده عميل للصادق المهدي )
( عميل للصادق المهدي ؟؟؟؟)
( يا استاذ ابعد عن الموضوع ده )
و قذف العميل يوسف اب دلاقين الي الداخل بشتائمه البذئية .
قررت ان لا ابعد عن الموضوع كما امرني العسكري بلهجة لا تخلو من تهديد ، فتحت المكتب هيأت اوراقا للكتابة و خرجت من المكتب لاجد اولئك العساكر قد إلتفوا حول العميل يوسف اب دلاقين ، إثنان منهم استطاعا ان يجلساه علي الارض مثبتا بذراعيهما و الثالث يفتش و بهمة عالية في ملابس يوسف اب دلاقين تلك الملتصقة علي جسمه لتخرج من هيئة ذلك العميل قطع كثيرة من اقمشة متكورة علي شكل ( صرة ) و اصابع ذلك العسكري تحلحل تلك الصرر بلهفة طماعة اذ ان كل صرة بداخلها اوراق مالية مختلفة الالوان و القيمة ، اوراق من فئة العشرة جنيهات ، مائة دينار ، خمسمائة دينار ، و لمحت ايصا ذلك الجنيه ابو عمة من بين اوراق نقدية قديمة عفا عليها السوق و الزمن و عيون العساكر تبرق بالطمع و الدهشة و العميل يوسف اب دلاقين يري اوراقه المالية و يصرخ و يحضور واعي :- ( و الله العظيم بعرق جبيني )
هي لحظة واقعية إعتدت علي ذلك الهذيان ، اصابع العسكري مواصلة فعلها الفاضح جدا تجاه ما يرتديه يوسف اب دلاقين من دلاقين ، تكومت و تبعثرت تلك الاوراق المالية علي الارض و يوسف يتكئ علي بكاء مر و جملة واحدة و متكررة ( والله العظيم من عرق جبيني ) ، كانت تلك الجملة قد بدأت تختنق حروفها بين بكاء العميل يوسف الذي كاد ان تتم تعريته من كل تلك الدلاقين و الاوراق المالية لا تفتأ تخرج من تلك الصرر المخيطة بعناية فائقة علي قطع الملابس المتكدسة علي ذلك الجسد النحيل القلق .
لم اترك العميل بوسف اب دلاقين الي ذلك المصير الذي قذف به الي واقع مميت افقده هذياناته مستعينا بضابط مناوب هميم خلصه من عساكره ليجمع العميل يوسف اب دلاقين ملابسه و ما تبقي له من اوراق مالية نجت من ايدي العساكر و يركض خارج المبني ، يركض العميل يوسف اب دلاقين نحو هذياناته الممتدة .
هذا يثبت بما لايدع مجالا للشك بأن الأمام الصادق المهدى يشكل بعبعا دائما للأنقلابيين والى اليوم
والدليل يوسف اب دلاقين الذى اعتقلوه بحجة انه عميل للصادق المهدى.تانى فى كلام ؟
قطعة أخري مميزة يضيفها الاستاذ يحي فضل الله لعقد اعماله الفريد، ومساهماته الفكرية المتعددة في شتي المجالات، هي قصة صيغت تفاصيلها بعناية وبخيال محترف وكتابة راقية تحترم العقل بذل فيها الكاتب جهدا في المراجعة والمقاربة والتنقيح والاختبار كذلك. الكاتب يحي فضل الله يتميز عن جميع من اقرا لهم، بأنه يقوم بتحويل شئ نلاحظه يوميا ونراه عاديا إلي تظاهره حكائية محكاة بعناية ولها مدلولاتها العميقة، فيجعلنا نتساءل ، كيف أننا لم نري ما رآه علي الرغم من أننا رأيناه ومر علينا آلاف المرات….. ذلك هو الابداع ويقول بعض الناس أن الإبداع يرتكز علي الموهبة والتي هي قسمة ونصيب، ولكن عند الكاتب يحي فضل الله عبارة عن شئ مختلف تماما، شئ لا يمكن ألا أن يكون حرفة صعبة تحتاج لأدوات فعالة يجب تغييرها وشحذها كل يوم… شكرا للاستاذ الكاتب والمخرج والممثل المسرحي والاذاعي والتلفزيوني والشاعر والصحفي يحي فضل الله، الذي اهدانا كل ذلك الابداع ، ثم ظلم وترك هذا الوطن مهاجرا في الغربة، لقد إفتقدناك افتقدك أبناء هذا الوطن التعيس كثيرا ونرجو مواصلة الكتابة من هناك “لانقاذنا” من براثن الضياع والموت في عصر هذا “الإنقاذ”
شكرا يااستاذ على هذه المتعة التي اهديتنا اياها أنت أديب عالمي والدليل على ذلك يوسف هذا يوجد في كل بقعة من هذا العالم العريض لكن من الذي ينتبه اليه نرجو المواصلة في هذا الابداع متعك الله بالعافية
السودان بقي فيه الاف من يوسف