وعد حمدوك 2

هيكلة الاقتصاد المصاب بالعجز والأنيميا:
لا يخفى على أحد أن اقتصاد السودان بعد ثلاثين سنة من حكم الإنقاذ صار ضعيفاً وواهنًا بكل المعايير، ولا داعي للندب والشكوى والاسهاب في فتح صفحات الماضي الإنقاذي البائس، فالأسباب التي دعت إلى ذلك معروفة كلها، والأشخاص الذين خربوا وعاثوا في أرض السودان فسادًا معروفين، فكان بلوغ الحكم في تلك الحقبة المظلمة، للأسف، خطة مدبرة ومتقنة سلفًا، جاءت لنهب ثروات البلاد دون رحمة من قبل حفنة من الأشخاص باسم الدين. ويمكن أن نقول بأنهم مع كل أسف نجحوا على مدى ثلاثين عامًا، في مداهنة الناس وفي التملق والتدليس عليهم بآي التقوى الزائفة وغرر السجود المفتعلة وبكلمة الله أكبر، فعلوا ذلك هم وأهليهم ومن جاورهم إلى يوم الدين. فمن تابع اخبار لجنة التمكين في الأسبوع الماضي نراه قد وقف على منشآت فارهة وأملاك توحي بالثراء الفاحش مثلًا لبعض أفراد أسرة رئيس الوزراء السابق على عثمان. كيف يستطيع هذا الرجل أن يبني لابنه قصرًا بحوالي ستة ملايين دولار وجدير بأن نذكّر أن المشروع قد نفذته شركة صينية وقامت فيه بكل عمليات البناء. نعم، هو منزل لأسرة واحدة، عائلة ابنه المصون. وكل الأسرة تتمرغ في جنباتها الفردوسية بينما عامة أهل السودان يقبعون ويعيشون تحت خط الفقر والعوذ، أيعقل ذلك؟
وقد تطرق السيد حمدوك لقضية هيكلة الاقتصاد السوداني المنهار في حديثه للأمة، وقد أفصح عن الأدوات التي ستُفعّل للخروج به من ظلمات الإنقاذ إلى أنوار الحقبة الحمدوكيّة. ولقد قام د. حمدوك بتوجيه الاتهام على ما سماه بـ”الأيادي الخبيثة” بأنها تعمل لتعطل عجلة الإنتاج وتخرّب دولاب العمل الحكومي وتعثر سير عمل القطاع الخاص، مؤكداً أن “حكومة الثورة لن تتهاون في حسم تلك الجهات بما يقتضيه القانون والسلطة الممنوحة من قبل الوثيقة الدستورية”.
نعم الاقتصاد مشوّه بكل ما تحمل هذه المصطلحات من معان، وعلى الحكومة الحالية أن تسعى في تخليصه من الديون المتبقية (ما يقارب ٢٦ مليار دولار ونيّف بعد خصم الإعفاءات)، ثم عليها مراجعة مصروفات وإيرادات البلد لتقليل العجز الحاد في ميزان المدفوعات. وكل هذه الإجراءات ينبغي فيها التفاوض مع المؤسسات المالية الدوليّة المعنية (البنك الدولي – وصندوق النقد الدولي)، وقد جاء اتفاق بين الحكومة وهذه المؤسسات في غضون العام الماضي الذي اقتضى أن يدخل السودان بموجبه في برنامج إصلاح مدّته عام واحد، ينتهي في الثلاثين من يونيو الجاري، وبنهايته سيكون السودان مؤهلاً للإعفاء من ديونه المتراكمة ويكون اقتصاده قد وضع على قاعدة صلبة للانطلاق إلى آفاق الإصلاح بحق وحقيقة. وأن أعترف أن ما قامت به حكومة حمدوك في هذه الفترة الوجيزة شيء خرافي وفوق العادة فله الشكر في حق الشعب السوداني، وسنصبر إلى أن يأتي الله بأمره والفرج دون أدنى شك قريب، فالصبر والجلد هما السلوى.
برنامج الدعم الأسريّ:
إن سياط التدابير الجديدة يا سادتي ورغم قساوتها، بيد أنّها، على حد قول د. حمدوك، هي كما عملية الكيّ الذي يعالج به المرضى من الدمل. وأشار السيد رئيس الوزراء إلى أن حكومته وضعت سياسة واستراتيجيات محكمة لتخفيف آثار الإجراءات الاقتصادية التي طالت كل طبقات الشعب دون فرز، من بينها برنامج الدعم الأسري المعروف اختصارًا ب”ثمرات”، وهو يختص بتقديم الدعم النقدي المباشر لفئة تبلغ حوالي ستة ملايين نصف مليون أسرة، يعني نسبة ٨٠ بالمائة من السكان، والرصيد الذي وضع لهذه البرنامج الإصلاحي يقدر بحوالي ٨٢٠ مليون دولار، تمّ استخدام حوالي ١٥٪ منها، ويتوقع السيد رئيس الوزراء أن يرتفع الدعم إلى حوالي ٢ مليار دولار بعد دورته الأولى. وفي نفس السياق تعهد د. حمدوك بإصدار قرارات حاسمة من أجل تحقيق إصلاحات حقيقية ووازنة في قلب الجهاز المصرفي وبهيئة الجمارك ومصلحة الضرائب وتجديد ونفض الغبار من سياساتها التي أكل عليها الدهر وشرب وصارت في الحقيقة بؤرة للتأخر والرجعية والنهب. كما صرح بإصدار قرارات أخرى هامة تُعنى بإعفاءات جمركية وضريبية واسعة على السلع الضرورية ومدخلات الإنتاج الهامة، والسلع الرأسمالية، مع فرض ضرائب وجمارك مرتفعة على السلع غير الضرورية، وقد نوّه هاهنا إلى أن هذا النوع من السياسات سيساعد في توفير السلع الضرورية بأسعار تنافسية، ولن يمنع الحصول على السلع غير الضرورية بقيمتها الحقيقية، كما أنه سيشجع عجلة الإنتاج المحلي وسوق التوظيف.
من الأشياء الهامة الذي يجب أن تتضمنها الحكومة في سياساتها وفي إطار برنامج دعم الأسرة هو الدعم المتصل للعديد من السلع الاستهلاكية الهامة مثل الدقيق والزيت والسكر والخدمات الضرورية مثل الكهرباء والمياه والغاز والدواء. بالطبع نعرف أن كل هذه السياسات تحتاج لوقت وجهد كبيرين وأظن غالبية الشعب قد صرح بالوقوف مع الثورة والحكومة الانتقالية ضد الدولة العميقة ورجعية الإخوان المتأسلمين. نتمنى أن تكلل كل هذه الخطوات والسياسات الجيدة بالنجاح ليخرج الناس بالبلد إلى آفاق الإنتاج والعمل والجاد وتطوير المرافق العامة والخدمات العمومية والخاصة في كل أنحاء السودان ومن هناك يجب علينا جميعا بيد واحدة تحريك عجلة الإنتاج الفردي، الجماعي والجمعوي في ربوع السودان الواعدة والتي تكمن فيها طاقات لا يعلمها إلا الله، ويجب علينا تطوير مواردنا والخروج بها من نطاقها الضيق إلى آفاق أوسع وهذا سوف يكون سببا وجيها في حثّ رؤوس الأموال الأجنبية بأن تستثمر في السودان.
وختامه مسك:
إن قراءة وعد د. حمدوك يوحي بأن كل هذه السياسات والاستراتيجيات هي بمثابة مشرح طبيّ يسلك طريقه في قلب الاقتصاد المريض، ليخلع من صماماته الأعطاب والأورام التي جعلته هالكا ضعيفًا طيلة هذه العقود الثلاثة. والحكومة الانتقالية حسب ما أشار إليه د. حمدوك في طريقها لجلب المستثمرين للدخول في مشاريع ضخمة وعظيمة وفي الأول والآخر تتجه لإنشاء مشروعات ملّحة وهامة ذات أولوية قصوى لتحقيق الخطط التنموية القادمة، لا سيما في مجال البنى التحتية والطاقة والزراعة والموارد المائية والتعدين والاتصالات والمواصلات والسياحة بكل مجالاتها وأفرعها. يجب علينا أيضًا ألا ننسى في أنّ رفع ميزانية التعليم والبحث العلمي ذات أهمية قصوى في طريق النهضة المنتظر. حقيقة إن أمام السودان فرصا كبيرة لاحتواء الأزمات والتخطيط في طريق الحضارة والتنمية على أسس ديموقراطية حقّة وتحت مظلة سلام شامل يتضمن كل أبناء الوطن من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، دون تفرقة أو عنصرية. والكل مطالب في مسيرة البناء وفي المشاركة في المنظومة العالمية بجهدنا وثمار جنيناها بأنفسنا، والله وليّ التوفيق.
نقلًا عن المدائن بوست دوت كوم