مقالات سياسية

أنتم كلّ ماتبقى من أمل

عبدالدين سلامه

مايدور الآن في بلادنا يدعو للدهشة والعجب ، فالنظام الذي اقتلعناه بشق الأنفس ، يحاور مدنيينا الذين نصبوا أنفسهم ممثلين لنا وارتضيناهم ، ومؤسسات الدولة المملوكة للشعب الغلبان يتم العبث بها من مختلف الأطراف رغم أنف الشعب ، ويختلط حابل أمورنا بنابلها ، فنقف حائرين متسائلين عن السرّ الذي جعل قادتنا يعلنون للشعب شيئا ويمارسون في الخفاءه نقيضه ؟؟

أكثر من عام مضى على عمر الثورة وكثير من مكتسباتنا وأشواقنا تتراجع ربما بسبب حداثة تجربة الحكم لمن حكم ، وإساءة فهم المعارضة لمن عارض ، وانتهال مختلف الأطراف المتنازعة من ينبوع شخصنة المواضيع الوطنية ، وشيطنة كل سوداني لمعارضه في الرأي والرؤية .
ليس هذا هو الوطن الذي حلم به شباب تحدّوا كلّ شيء ، ورموا أروحهم رخيصة وبكل رضا على أرض ميدان الاعتصام كما يتم رمي النقطة في ( شوبش ) ، وشوبش لغير الناطقين بها هي النقطة أو المال الذي ينثره الفرد على المغنية أو الراقصة أو العروسة والعروس أو المحتفى به ،كتعبير عفوي في ذروة البهجة وصفاء النفس وصدق المشاعر ونبل وتجرّد الانتماء .

وبالرغم من أن الجيش لم يحمهم ، والأمن والدعم السريع والكتائب الجهادية للنظام المقبورلازالت تلاحقهما اتهامات الفض ، إلا أنها في هياكلها من المفترض أن تكون ملكا لهذا الشعب الذي عمته حرب السوشال ميديا المسلطة عليه فجعلته يدمّر بيته بيده وأيدي الآخرين .
بغض النظر عن الأسماء والأشخاص الذين ينتمون الآن إلى قوات الشعب المسلحة ، فإن الهيئة بكاملها ملك للشعب السوداني ، وتاريخها لم يصنعه الحاليون وحدهم ، ولكن الشعب السوداني هو مالك تاريخ هذه القوات التي تملك على الأقل نفوذا نفسيا كبيرا في افريقيا والاقليم ، ومن ضمن إرثها مناهضة الاستعمار الذي كانت بطولاته نواة لتأسيسها وبناءها ، فهي المؤسسة التي تعنى ببسالة وقوة وعسكرية الانسان السوداني مثلما تمثّل وزارة الصحة مؤسسة تعني بكل مايخص ماضي وحاضر ومستقبل الجانب الصحي في الانسان السودان ، ويتنمذج الأمر في كل مؤسسات الدولية السياسية والخدمية والمجتمعية والرسمية والفنية والحياتية العامة.

مؤسسة بهذه الصفة حق لنا استنكار خطوتها بمقاضاة من يتعرض لها ، وكان الأولى أن يكون التقاضي لمن يتعرض لها بما يعرّض أمن البلاد للخطر ، لالمن يتعرّض لها بالانتقادات المختلفة ، فالمواطن الذي يكتب وينتقد هو صاحب الحق ، ومن ينتمون للقوات المسلحة مهما تباينت الآراء حولهم هم أبناء هذا الوطن ، وهم يعملون في مؤسسة يملكها المواطن ، ولايعقل أن يمنع العامل صاحب العمل عن إبداء الملاحظات أو إنتقاد مايختص بالوظيفة .
ذات الأمر ينطبق على جهاز الأمن والدعم السريع ، فجهاز الأمن كجهاز هو ملك للشعب ، وللشعب أن يغيّر فرد بفرد ، وقانونا بقانون وفق المصلحة الوطنية ، فما حدث في جهاز الأمن السوداني برغم ما للجهاز وعليه من آراء ، كان خطأ لايغتفر ، ولازال الوقت متاحا للتدارك قبل أن نبكي كشعب ينتطر أحلام سودان الغد الجميل ، على لبن نسكبه الآن بأيدينا ، فحل جهاز الأمن العراقي الذي بناه صدام حسين برغم ما ارتكبه من فظاعات ، ومعه حل الجيش ، لازال العراق يدفع ثمنه حتى الآن ، والسعيد من يرى في غيره والشقي من يرى في نفسه ، وليس ببعيد عنا توجد العديد من النماذج ، الحل الذي طال جيش وأمن الجارة ليبيا ، ماهي نتائجه ؟؟ وكلنا مع هيكلة جهاز الأمن ، لاتجريده من جميع سلطاته ، لأن تجريد جهاز الأمن من جميع سلطاته يعني تجريده من عمله ، وإحالته إلى جامع معلومات يحيله إلى ما يشبه صحفي التحقيقات أو معد أو مخرج برامج قضايا عامة .
تجريد جهاز الأمن من السلطات التي تتعدّى على حقوق وحرية المواطن وفق العدالة الاجتماعية المنشودة ، هو الفعل الأمثل الذي يشبه أحلام الثورة ، لأن بقاء الأشخاص وذهابهم واستبدال هذا بذاك ، أمر لابد منه ، ولكن المساس بقوة المؤسسة نفسها هو إضعاف لملك من ممتلكات الشعب ولايمكن السكوت عنه .

إستهداف جهاز الأمن وإضعافه جاءت نتيجته واقعا نراه بألم شديد ، فالبلاد في غيابه غدت مرتعا لمختلف أجهزة إستخبارات العالم التي ما كانت تتجرأ على ذلك لو كان بالدولة جهازا قويا يهتم بأمرها ، ولكنه حال المال السائب .
الحركات المسلحة التي تنتظر في جوبا تحقيق اشتراطات استلامها ثمن مناهضتها للبشير وتطالب بهيكلة الجيش والشرطة والأمن عبر استيعاب منسوبيها ، تدعو من حيث لاتدري لتكوين أجهزة مليشاتية لاوطنية شعبية ، فالأجهزة العسكرية والأمنية من الضروري أن تكون أجهزة وطنية محايدة لاتنتمي لهذه الجهة أو تلك ، وكنت أتمنى أن تتفاوض تلك الحركات على المفاصل البنائية والتنموية ، وتترك أمر الجيش للهيكلة بعقيدة وطنية لاتخضع للمحاصصة ، ولاتستوعب بشروط التقاسم بل بمعايير الأكاديمية العسكرية المتعارف عليها .

فالأجهزة الأمنية والعسكرية ومنذ الاستقلال ظلت الحكومات تنفق عليها ما يتراوح بين 60% – 80% من الموازنات السنوية العامة ، وهو واحد من الأسباب التي نمت فيها معاناتنا وتدرجت وترعرعت ، فلماذا نقوم بإضعافها وتحطيمها بعدما أنفقنا عليها كل هذا الانفاق وتحمّلنا بسبب الانفاق عليها ماتحملناه من معاناة ؟ .
وبعيدا عن ضغوط الاعلام المعجون بمخططات كثيرة لاتريد ببلادنا ولابثورتنا خيرا ، فإن المؤسسة العسكرية مثلما نكّلت بثوارنا بحسب اعتقاد الكثيرين ، إلا أن أفرادا كثيرون ينتسبون إليها قاموا بحمايتنا أثناء الاعتصام ، وأفرادا من جهاز الأمن سمحوا لنا بالنفاذ للميدان ، وغيرها من المواقف التي قام بها أفراد يتبعون تلك الأجهزة ، ثم أن هذه الأجهزة في النهاية مهما بلغ سوء منتسبيها فلا سبيل لإنكار أنهم أولاد هذه الأسرة أو تلك من أسر الشعب السوداني المغلوب على أمره ، وأنهم كغيرهم من الشعب السوداني ضحايا عوامل كثيرة دفعتهم لأي تصرف إنحرافي ، وغياب دولة القانون هو مشكلتنا الحقيقية التي أعاقتنا منذ القدم .
قيام المجلس التشريعي أهم من تعيين ولاة الولايات ، لأنه يضع الدستور ويرفض ويوافق ويملك صفة التمثل الشرعي للشعب ، فالبلاد الآن تحتاج القانون أكثر من احتياجها الخبز ، لأن غياب القانون لايمكن أن يوفّر خبزا ، وقوة القانون ستحدث وفرة في كل شيء ، وأمن البلاد مطلوب للاستقرار والانتاج والرقابة والتقنين ، وبناء وتسيير الدولة الفعلية ، فكفوا عن معارضتكم أيها المعارضين ، وكفوا عن مؤامرات بعضكم لبعض أيها الحاكمين ، وكفوا عن الابتزاز أيها المفاوضين ، وهبوا لبناء بلادكم بالتسامح والتلاحم في البناء والتعمير ورسم خارطة المستقبل الزاهر على أرض الواقع ياشباب الثورة فأنتم كل ماتبقى من أمل
وقد بلغت .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..