الثورة الأخلاقية … !! –

في ماضٍ ليس ببعيد كانت الرشوة لا تصل إلى طالبها إلا عبر مراحل من الحذر و التخفي و ( الإختشاء ) ، و في الغالب لا تتم إلا عبر وسيط ربما أوصلها إلى المرتشي في بيته أو أيي مكان آخر غير مكان العمل ، مما يفيد قداسة مبدأ العمل و أدواته بما فيها الزمان و المكان ، الآن يطلب منك بعض الموظفين بكل بجاحة ( حقهم ) أو ( البقشيش ) لمجرد حصولك على مبتغاك و لو كان قانونياً و مستوفٍ للشروط و النظم ، و بلغةٍ أخرى فقد أصبح المجتمع العام و المجتمع الخدمي في الوظيفة العامة يعتبرون أن مرور أي معاملة بدون تعقيدات و لا واسطات و ( مغارز ) مصطنعة أمراً يستحق الإحتفال و بالتالي توزيع ( الحلاوة ) و البقشيش و الرشاوي ( بمعناها العاطفي و الإنساني ) .. و للحقيقة فإن كثير من السلوكيات المهنية التي كان السودانيين يستغربونها و يشمئزون منها إذا ما سافروا خارج السودان و وجدوها مستشرية ، أصبحت عندنا الآن مسلكاً طبيعياً و مقبولاً لا يستنكره أحد ، فطالبي البقشيش يستقبلونك في المطار بإلحاحهم المعهود و طريقتهم السمجة في إصطيادك عبر إحراجك و جرّ حقائبك عنوةً ، مع سؤالك عن كمية ما تحمله معك من نقد أجنبي ، هكذا و أنت سوداني من لحم ودم و لا شك في إنتمائك للبلد الذي وطئته قدماك ، فما بالك بما يعانيه الأجنبي في مطارنا و مرافقنا الأخرى ، و الحكايات و القصص تترى عن المستثمرين الأجانب الذي ولجوا إلى البلاد بناءاً على الشروط و المواصفات الخيالية للتسهيلات التي توفرها الدولة للمستثمر الأجنبي ، ليكتشفوا بعد إحتكاكهم بالواقع المرير أنهم وقعوا فريسة للخداع و الإستنزاف المادي بفعل الأتاوات و الرشاوي ، و أحياناً محاولة بعض الكبار الدخول كشركاء في المشروع المعتمد نظير تمرير التراخيص و الإعفاءات و غيرها من الإمتيازات ( المستحقة ) بالقانون لكثير من المستثمرين الأجانب و المحليين ، و بذلك أصبح عدم الحياء و البجاحة واحدة من أهم مواصفات عصرنا هذا و التي إن توفرت في شخصٍ ما فهو لا محالة واصلٌ إلى أعلى مراتب الثراء و النفوذ و السلطة ، فلا أحد يسأل من قريب أو بعيد أو حتى مجتمع محيط موظفاً في الدرجة السابعة وفي مصلحة حكومية و عمره المهني ثلاث سنوات عن عمارة بناها أو سيارةً فارهة إشتراها أو زوجةً ثانية أو ثالثة إقتناها ، إختلط الحابل بالنابل و الحرام بالحلال و الحق بالباطل و الدنيا لم تعد إلا قشور و مظاهر و شكليات ، الضائقة الإقتصادية و الكبت الفكري و السياسي و الثقافي إنتزعوا من ضمير المجتمع الركون إلى المضامين و كُره المشبوهات و نبذ الخارجين عن دائرة القيِّم و السلوكيات الإنسانية التي إتفقت حولها البشرية منذ أمدٍ بعيد و في مقدمتها الأمانة و النخوة و عزة النفس و الحياء ، نعم إن الحياء هو عماد الإعتداد بالذات و قيّمها التي تتبناها ، قلةٌ من الناس تكابد الأمرين في سبيل التمسك بقاعدة إحترام الآخرين لنزاهتهم و رجولتهم و حيائهم ، وهي في حقيقة الأمر في زمان ( البدع ) هذا تعوِّل عليها البلاد و كذا العباد في إعادة الأمور إلى نصابها عبر الثورة الأخلاقية المنتظرة و التي لا تقل أهمية و لا تأثيراً عن الثورات السياسية .
الجريدة