الساسة ..وذبح العدالة في مراحل الانتقال

العدالة الانتقالية هي مقاربة لتحقيق العدالة في فترة الانتقال من حالة الديكتاتورية والقمع او النزاع الى دولة القانون ومن خلال تحقيق المحاسبة والتعويض عن الضحايا ، وبالتالي هي ليست نوعا خاصا من العدالة ولا هي ملاذ آمن لهروب المتورطين في الجرائم ضد الانسانية وانتهاكات التعذيب وغيرها بطرائق قانونية سهلة. لذلك هي مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية تتضمن الملاحقات القانونية لمعالجة الموروث من النظام السابق واشكال اخري من برامج جبر الضرر واصلاح المؤسسات العدلية ، وتكمن اهميتها في ان هذه الانتهاكات المنتظمة تؤثر مستقبلا علي المجتمع ككل وليس الضحايا فقط ، ويتربع في صدارة الاهمية عدم تكرار ما حدث من انتهاكات مرة اخري ، بيد انه في الحالة السودانية كان التكرار سيد الموقف. كما ان عدم تحقيق العدالة في فترة الانتقال يعتبر معوقا لتحقيق الاهداف التنموية نتيجة لغياب الثقة بين مؤسسات الدولة والمجتمع مثال لذلك استمرار جهاز امن البشير في الوجود رغم ذلك السجل الملئ بالانتهاكات الجسيمة. لذلك تأتي الدعاوي الجنائية ومساءلة المسؤولين عن تلك الجرائم في مقدمة الاستراتيجيات والاهداف الدائمة للعدالة الانتقالية.
منذ فجر الاستقلال وعقب استيلاء العسكر على السلطة في ١٧ نوفمبر ١٩٥٨ م وبعد ممارسة السلطة بسجل يحتوي انتهاكات عديدة ادركو مبكرا ان لا محالة سوف ياتي يوم المساءلة بما كسبت ايديهم فاسرعوا الى اصدار قانون المجلس العسكري لسنة ١٩٦٢م والذي اورد في الفقرة الاولى من المادة ٤٧ الاتي (أي حكم او امر او صنيع صدر في داخل السودان او خارجه في الفترة ما بين ١٧ نوفمبر ١٩٥٨م وحتي صدور هذا القانون لا يجوز الطعن فيه او اتخاذ اي اجراء قانوني مدني او جنائي ضده او بصدده امام اية محكمة كانت ، ما دام قد صدر بموجب القانون الدستوري رقم (١) الصادر في سنة ١٩٥٨ م بنية حسنة وبقصد تأدية الواجب او لحماية القانون والنظام او لحفظ الامن او غير ذلك مما تطلبه المصلحة العامة بواسطة شخص يشغل وظيفة في او يعمل بتكليف من القوات المسلحة السودانية او المجلس الاعلي للقوات المسلحة السودانية علي اية صفة عسكرية او بحرية او جوية او مدنية او بواسطة اي شخص اخر يستمد سلطته من شخص يشغل تلك الوظيفة او يعمل بتكليف من القوات المسلحة السودانية او المجلس الاعلي للقوات المسلحة السودانية). وبتلك المادة بنيت الجدران والاحصنة القانونية ضد العدالة والمساءلة من الجرم الاول وهو الانقلاب علي سلطة ديمقراطية منتخبة ناهيك عما تلي ذلك من انتهاكات جسيمة بصرف النظر عن اية مبررات تاريخية او سياسية حول الاستيلاء علي السلطة.
بعد ثورة اكتوبر ١٩٦٤م وتشكيل حكومة سر الختم الخليفة وفقا لدستور ١٩٥٦م المؤقت وفي التفاوض بين ممثلي الجبهة القومية المتحدة وكانو آنذاك محمد احمد محجوب ومبارك زروق وعبد الخالق محجوب وحسن الترابي والصادق المهدي ومن القوات المسلحة اللواء الطاهر المقبول واللواء عوض صغير والعميد يوسف الجاك ، وعند مناقشة موضوع محاسبة مرتكبي جريمة انقلاب ١٧ نوفمبر رفض ممثلو القوات المسلحة ذلك بل طالبوا بالمزيد وهو تضمين المادة ٤٧ المذكورة آنفا من قانون المجلس المركزي المؤقت ١٩٦٤م بعد تعديله وبذلك رفضوا قبول مبدأ المحاسبة الجنائية ، وبعد نقاش وافق مندوبو الجبهة القومية المتحدة علي طلب العسكر ما عدا عبد الخالق محجوب الذي كان رأيه ان المادة ٤٧ ذبحت العدالة ( عمر الفاروق شمينا صحيفة التيار ١٤ يوليو ٢٠١٩).
شهدت الفترة التي اعقبت انتفاضة مارس ابريل ١٩٨٥ اسوأ فترة انتقال تعقب ثورة علي الاطلاق ، وتمظهر ذلك في ضعف قوى الثورة وتشتتها هذا من جهة ومن جهة اخري يقابلها مجلس عسكري بقيادة سوار الدهب المنتمي لجماعة الاخوان المسلمين والذي شكل الحماية لها وجعلها تكسر عزلتها كتنظيم مشارك لنظام مايو لفترة طويلة. واستطاع عبر المجلس العسكري الالتفاف على مطالب التغيير وتصفية نظام مايو ومؤسساته وقوانينه القمعية ، وفي خضم ذلك لم يرد ذكر لما يختص بالعدالة الانتقالية والمحاسبة وسرعان ما اجريت الانتخابات العامة بعد عام واحد فقط قصد منها عدم تنفيذ مطلوبات تلك المرحلة كلها وفتح ابواب التمدد لعناصر الجبهة الاسلامية من التمدد وتهيئة ظروف صعودها الانتخابي بتغيير قوانين الانتخابات والتزوير .
ثم أتى انقلاب الانقاذ ١٩٨٩م بقيادة الترابي والبشير وزمرة الجبهة الاسلامية وامتد بقاءهم في السلطة ثلاثون عاما وكنتيجة حتمية لما سبق في الفترات سبقتها من عدم المحاسبة والافلات من العقاب توسعت ابشع صور الانتهاكات الانسانية من جرائم حرب وابادة وبيوت تعذيب وقتل المتظاهريين في الشوارع وكل ما يمكن ان لا يخطر ببال بشر من بشاعة وارهاب . وبعد ثورة ديسمبر المجيدة ٢٠١٨ م ورغم تضمين بند المحاسبة والعدالة من مهام الفترة الانتقالية الا انها لا تزال تراوح مكانها وتسير الاجراءات ببطء شديد جدا ، فمن بعد محاكمة الرئيس المخلوع في قضية الاموال التي لا تقارن مع حجم القضايا المتعلقة بجرائم القتل والابادة والتدمير وغيرها ، وكذلك عدم تنفيذ حكم الاعدام علي قتلة الشهيد الاستاذ احمد الخير حتي الان.
ثم بعد اقرار المصفوفة بين مكونات الحكومة الانتقالية مجلسي السيادة والوزراء وقوي اعلان الحرية والتغيير للاسراع بانجاز مطلوبات الثورة بما فيها العدالة ، خرج حزب الامة بقرار تجميد نشاطه في تحالف قوي الحرية والتغيير مطالبا ومهددا اما انجاز اصلاحات في التحالف ورؤاه او الخروج منه ، وفي ورقة اسماها الصادق المهدي رئيس الحزب عقد اجتماعي جديد يدعو فيها باشراك المؤسسة الامنية والعسكرية في العدالة الانتقالية وهو امر شديد الغرابة ويشير الي ان هناك امر ما يحاك ضد تحقيق العدالة ، الشئ الطبيعي هو ان تقوم المؤسسات العدلية رغما عما فيها من اعتلالات بسبب ساسة الانقاذ ان تقوم بالملاحقات الجنائية التي تراها وفقا لما يأتيها من شكاوي خلال الفترة من ١٩٨٩م حتي سقوط النظام وما تلاه من فض الاعتصام وغيره ، دون تدخلات من الساسة لتحديد مسارها او ايقافها او جعلها عدالة انتقائية (Selective Justice) او عرضة للمساومات السياسية ، فهل نحن ذاهبون الي نحر العدالة مرة اخري أم لقوي الثورة رأي آخر ؟.
محمد البشير احمد
[email protected]