مقالات سياسية

مغامرات محمد احمد في بلاد العجائب (٢-٢)‎

احمد الفكي

الخروج من جحر ارنب أليس وعالم عجائب السياسة السودانية لا يحتاج الي تغيير الشعب السوداني ولا الاحزاب السودانية ولا الخبراء الحقيقيين ولا المتوهمين، بل يحتاج الي تغيير قواعد اللعبة تماما ووضع نقاط للمراجعة والتحقق حتي لا نصدق حكم الفئران ولا نصائح القرود . الامر لا علاقة له بحظ الشعب السوداني ولا بجيناته، ولعلي لا اغالي ان قلت ان اغلب شعوب العالم وافراده يصنعون حظوظهم بايديهم بالابتعاد عن السبهللية وتصديق ان هناك وصفات سحرية سياتي بها هذا الحزب او ذاك وهذا الخبير او ذاك.

لقد استبشر شبابنا خيرا حين قبل السيد حمدوك بآن يرأس الحكومة الانتقالية ولما لا وهو “خبير اممي” كما اطلقوا عليه. انه يحمل درجة الدكتوراة من جامعة بريطانية عريقة وعمل بعدة منظمات عالمية يعرفها القاصي والداني وله سيرة ذاتية حافلة بالانجازات في تلك المنظمات.

وعلي هذه الخلفية استبشر به شعبنا خيرا حتي الذين لم يقتنعوا تماما بالتغيير وساورتهم مخاوفهم القديمة من احباطات التجارب السابقة. ولحسن حظ الرجل فهو يقود حكومة ثورة عظيمة وفي زخم ثوري عظيم وبعد أتفه رئيس واتفه نظام في تاريخ بلادنا. رئيس مطلوب لدي المحكمة الجنائية الدولية، رجل يكذب ويتحري الكذب. استهل عهده ببيوت الاشباح ووعد شعبة بجنة اللة علي ارض بلادنا التي انتهت الي دولتين وعرفت في العالم براعية للارهاب وجحيم يفضل شبابه الموت في زوارق الموت فرارا من جنة الكيزان.

لقد جاء الخبير الاممي علي هذه الخلفية وتلقفته مجموعة من المستشارين معظمهم من حملة الدرجات العلمية في مختلف ضروب المعرفة ولكنهم لم يستوعبوا درسا واحد من دروس ثورة ديسمبر المجيدة لسبب بسيط لانهم لم يتعلموا ان التعلم عملية مستمرة لا تنتهي بالحصول علي الدرجة العلمية. لقد كانت اول خطواتهم هي القاء اهم دروس ثورة ديسمبر في سلة القمامة والعودة الي ذات الطريق الذي اورثنا التهلكة في كل مرة سلكناه بعد كل انتفاضة او ثورة.

وعلي عكس ما يقول والد اميرسون “اسلك طريقك لوحدك واترك اثرا بدلا من ان تسلك الطرق التي سبقك اليها اخرون” شرع حمدوك وزمرة مستشاريه في سلوك ذات طريق الفشل التي سلكت قبلهم لا لشيء الا لانها سلكت من قبل ولخوفهم من تجريب وصفات الثوار البسيطة جدا والناجعة جدا لقيامها علي جسارة التجريب والاختبار والتعديل المستمرين. انه الكسل الذهني والطمأنينة لتجريب المجرب رغم معرفتنا الذهنية انه قد فشل من قبل وهي ذات الحالة التي اسماها البرت اينشتاين بالجنون. لقد كانت اول خطواتهم هي شق الصف والابتعاد عن الشارع وعن الثورة وشبابها الذين مهرها رفاقهم بدماءهم الطاهرة. ولا اظن انهم فعلوا ما فعلوا لانهم اشرار، بل لانهم لا يعرفون ولا يعرفون انهم لا يعرفون ما يفيد بلادنا ويرضي طموحاتهم كمستشارين استراتيجيين، فهرب السيد حمدوك من مقابلة افواج الشباب التي استقبلته عند عودته الي السودان من اثيوبيا واصر اصرارا لا يصدقه العقل علي عدم مخاطبة الشارع ولا الجماهير وانطلقت بدلا عن ذلك حملات التبرير بانه رجل مؤسسات وخبير يفضل العمل المكتبي والانجاز في هدوء. بل اصر من يغالطون انفسهم ويقبلون تصديق الاوهام علي الهجوم الشرس علي الصحفي عثمان ميرغني وانه كوز حتي يلقون باللوم عليه ويبررون عدم المام السيد حمدوك بتفاصيل المهام التي هي من صلب عمله كرئيس لوزراء حكومة.

لقد غيرت ثورة ديسمبر وهي تسقط البشير ومشروع هراءه الحضاري قواعد اللعبة ولم تغير لا القوي السياسية ولا الشعب السوداني ولا الحالة الذهنية التي نمارس بها السياسة. فما هي هذه القواعد التي غيرتها ثورة ديسمبر والدروس التي لم تستوعبها لا قحت ولا حمدوك ولا مستشاريه القدامي والجدد؟

١- الوحدة والاتفاق علي هدف مشترك
لقد تمكن شبابنا من اسقاط البشير بصياغتهم الواضحة للهدف الذي يريدون تحقيقة: حرية سلام وعدالة والثورة خيار الشعب. لقد برهنوا تماما ان انبل الاهداف دون المثابرة علي تحقيقها لا تعدو ان تكون احلام زلوط، فعملوا ليل نهار لتحقيق هدفهم باسقاط حكومة البشير. الوحدة حول الهدف كانت اول هذه الدروس. ثم المثابرة والصرامة والمرونة في تحقيق الهدف. في كل هذا كانت الشفافية سيد الموقف حتي وثق كل من له مصلحة في التغيير في مقدرة شبابنا علي صنعه والتفوا حولهم وخرجوا معهم.

وكما قلت واكرر لقد تم القاء هذا الدرس القيم في سلة مهملات قحت وحمدوك وخبراء حمدوك. استبدلت الشفافية بتعيين خبراء سريين مثل اول مستشار سياسي للسيد حمدوك يتحدثون باسم الحكومة الانتقالية ليل نهار تارة كعراب لها واخري كحاضن وثالثة كمفكر حتي اصدرت احدي الصحف المحلية وعلي صفحتها الاول صورة بعنوان رجال حول حمدوك وهي تحمل صور الشفيع خضر والشيخ خضر واخرين.

لقد تم تنصيب حمدوك رئيسا لوزراء الحكومة الانتقالية دون صياغة واضحة لشروط العمل بينه وبين قحت. وهي طريقتنا السبهللية جدا في “باركوها”، فترك الحبل علي غارب حمدوك يبحر اينما شاء فجهز الخبراء حقائبهم بين عواصم العالم في مطاردة الحركات المسلحة. نعم السلام مهم ولكن وبعد ستة اشهر من المحاولات الفاشلة في مفاوضة سماسرة السياسة من الحركات المسلحة بلا سلاح، لم تتوقف قحت ،لانها لا سلطة لها علي حمدوك الذي عينته، ولا حمدوك وشلة الخبراء لمراجعة امر السلام، ولاعادة النظر في ترتيب اولويات الوثيقة الدستورية وفي كل ذلك والدولار يواصل الصعود والجماهير تشتكي مر الشكوي من الغلاء وانقطاع التيار الكهربائي الذي يصل الي يوم كامل في بعض المناطق وانعدام الدواء والمواصلات.

بل امتد الامر لاسقاط حلول ما قبل الثورة علي واقع ما بعد الثورة لعجز حمدوك وخبراء حكومة حمدوك عن قراءة الشارع، فكانت “مساومة الشفيع خضر التاريخية مع الاسلاميين” حديث الشارع بدلا عن ضرب نظام الانقاذ وتفكيك ماكينته المالية التي تتامر ليل نهار علي الثورة.

٢- تصحيح المسار والتاكد من انك تسير علي الطريق الصحيح
لقد قامت قحت بمحاولات خجولة لتصحيح مسار حكومة حمدوك وهي محاولات تم الالتفاف عليها تارة بالوعود وتارة بالتصريحات عن “مصفوفة” وتارة بالاعلام المكثف كما يتم هذه الايام عن اجتماعات مشتركة بين حكومة السيد حمدوك والمجلس المركزي لقحت ثم عدد من التغريدات علي تويتر من حساب السيد حمدوك.

التعلق بالاسماء كمصفوفة وغيرها يؤكد انتظارنا لحدوث المعجزات كمن يرددون التراتيل ويرقصون لنزول المطر ويبذلون كل جهدهم في تجويد التراتيل والرقصات دون محاولات جادة في تغيير الواقع والاصرار علي المنتج المحدد لكل مرحلة. اجتماع طارئ لمناقشة المصفوفة واخر طارئ للمحفظة وثالث طارئ لان حمدوك قد تحدث مع الخارجية الامريكية وتغريدات لاجتماع اصدقاء السودان.

الذي لا يعرف هدفه النهائي والي اين يسير فكل الطرق ستوصله ولن تنفعه لا اموال اصدقاء السودان ولا كل مصفوفات العالم.
لقد ظلت احزاب قحت تتحدث عن ضعف حكومة حمدوك وتتفادي الحديث عن الفيل الذي يجلس في غرفتها. علي هذه الاحزاب وعلي تجمع المهنيين اعادة صفوفهم اليوم قبل الغد وعليهم الاسراع بصياغة واضحة تحكم علاقتهم بحكومة السيد حمدوك. اذا لم تتم هذه الصياغة وهذا الاتفاق نكون قد ضيعنا دماء شبابنا ووقت شعبنا وبرهنا كاحزاب اننا غير جديرين بثقة الشعب السوداني فينا.

يجب ان نتذكر انه ليس هناك ديمقراطية بلا احزاب. ولقد اثبت تاريخ حكومة حمدوك وقيادة حمدوك عجزا يغري كل الحالمين باجهاض هذا التجربة.

٣- الذكاء الجماعي وذكاء الخبراء
اريد ان اختم بان من خطط واسقط البشير هو العقل الجماعي لا هذا الخبير او ذاك. واهمية هذه المعلومة هي وهم الخبراء الذي بدا في عهد الانقاذ واستفحل حتي يومنا هذا. ومقاربتي لهذا الامر سيكون مدخلها انواع المشاكل التي قد ينجح الخبراء في حلها والتي سيفشلون بالتاكيد.

وحتي نوضح الامر فان مشاكل العالم يمكن النظر اليها من زاوية علاقة السبب والنتيجة الي قسمين كبيرين حيث عالم النظام الذي توجد فيه علاقة بين السبب والنتيجة مع تفاوت صعوبة ايجاد هذه العلاقة، وعالم اللانظام حيث يصعب ايجاد العلاقة بين السبب والنتيجة، او قد لا توجد اصلا. وبالطبع هناك منطقة لا نعرف نوع المشكلة التي نتعامل معها ولا الادوات التي يجب ان نستخدمها لحلها. واظن ان اغلب خبراءنا الميامين يعيشون في هذا الموقع دون التواضع والاعتراف بعدم المعرفة. اود ان اشير ان هناك خبراء سودانيين في شتي ضروب المعرفة وخاصة من الشباب الذين ادمنا عدم الاستماع اليهم.

مشاكل العالم المنظم تنقسم الي مشاكل واضحة والوضوح اصله في علاقة السبب والنتيجة. وطبيعة هذه المشاكل ان لها حل واحد وان لها طريقة معينة في الوصول الي الحل وان تكرار الطريقة ملايين المرات يؤدي الي ذات النتيجة. انه ابسط انواع المشاكل وهو لا يحتاج الي خبراء او متخصصين. واستراتيجية حل اية مشكلة في هذا المجال هي ان ننظر الي المشكلة وان نصنفها حسب الحل الذي توصلنا اليه من قبل وان نطبقه.

مشاكل السياسة لا تنتمي الي هذا المجال.
القسم الثاني من مشاكل العالم المنظم هي المشاكل المعقدة complicated وهي مشاكل توجد فيها علاقة بين السبب والنتيجة ولكنها علاقة معقدة وتحتاج الي خبرة الخبراء: اطباء، مهندسين، اقتصاديين الخ. انها مشاكل نتوصل الي حلها بالتحليل وبواسطة الخبراء المدربين. للاسف معظم مشاكل السياسة لا تقع في هذا المجال الا اذا قمنا بعزلها من اجل التوصل الي حل مبسط.

المصيبة ان مشاكل السياسة تقع في عالم اللانظام وغالبا في الجزء الاول منه وهو عالم التعقيد complexity. ان مشاكل هذا العالم يستحيل حلها بالخطط المسبقة غير المرنة والتي لا تتم مراجعتها باستمرار علي ضوء التنفيذ ثم المراجعة ثم التعديل علي ضوء ما توفر لنا من معرفة. ان هذا المجال هو مجال التعلم المستمر ومجال العمل الجماعي الذي يقبل تعدد الاراء واختلافها ثم اتفاقها علي حل يجمع عليه الجميع، يجربونه في جكات قصيرة ويعدلونه كل ما اقتضي الامر.

لقد عمل شباب الثورة بطريقتهم التجريبية وببراجماتيتهم بما يحتاجه هذا النوع من المشاكل فتمكنوا من هزيمة بطش البشير. لقد ادرك العالم الاول اهمية هذا التفريق فنجحت الكثير من الحكومات كالحكومة الالمانية ومعظم الدول الاسكندنافية وهولندا في الاستفادة من هذا التفريق في الاقتراب من اغلب مشاكلهم السياسية والمجتمعية.

ليت قحت تتحمل مسؤوليتها التاريخية وتصلح امر بيتها وتوثق علاقتها بحكومة حمدوك اليوم قبل الغد. وليت حمدوك يراجع اداؤه الضعيف واداء حكومته الاكثر ضعفا ويصر علي العمل الجاد مع لجان المقاومة ومع قحت وتجمع المهنيين ويترك اوهام تغريدات تويتر عن اصدقاء السودان وعن الرحلات الي الخارج وعن سنصمد وسنعبر وسننتصر.

للمزيد من القراءة عن المشاكل المختلفة وكيفية التعامل معها ارجو مراجعة https://cognitive-edge.com/ ومساهمات دايفيد سنودن وخاصة ورقته المنشورة في صفحة هارفرد علي الرابط ادناه

https://hbr.org/2007/11/a-leaders-framework-for-decision-making

احمد الفكي
[email protected]

‫2 تعليقات

  1. اود ان اقوم ببعض التصحيح الذي اعتذر عنه. “المصيبة ان مشاكل السياسة تقع في عالم اللانظام وغالبا في الجزء الاول منه وهو عالم التعقيد complexity.” ان الترجمة الادق ل complexity هي المركبة وليس المعقدة. قد يقول البعض بانها الاكثر تعقيدا ولكن الادق هي المركبة لان المشاكل المركبة لا تختلف عن المشاكل المعقدة اختلاف مقدار في عدد المتغيرات بل ان تفاعلها وتحول بعض النتائج الي اسباب والعكس هو جوهر الاختلاف.

  2. كل ما ورد فى مقال أحمد الفكى أعلاه ،
    كلام جيد ولا غبار عليه ،
    ولكن أي كلام أو أي معالجه لمشاكل السودان ،
    دون التطرق إلى المشكلة الكبرى ،
    التى يتفادى الجميع الحديث عنها ،
    وهي مشكلة وجود المجرم حميتى وتسلطه
    على منظومة الحكم فى السودان ،
    وتسلط مليشيا الجنجويد على الناس ،
    وكيف يُمْكِن فى ظل مثل هذا الوضع الشاذ ،
    الذى لا مثيل له فى دول العالم ،
    كيف يمكن تحقيق الحرية والسلام والديمقراطية ؟
    وكيف يمكن تحقيق الحكم الرشيد ،
    وتطبيق النظم الإدارية السليمه ؟
    وضمان سيادة القانون ؟
    وبتفادى الحديث عن هذه المشكلة الكبرى ،
    والكارثة التى تهدد حاضر السودان ومستقبل ،
    لن يُجْدِينا أي تنظير ،
    ولن يُجْدِينا الحرث فى البحر .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..