الانقاذ سنوات الخصب والجفاف

حينما اطل الفجر بقسماته وازاح الليل البهيم استاره واخذت الشمس ترسل بشعاعها عبر الرقاريق والنوافذ صبيحة الثلاثين من يونيو1989 كانت بلادنا تتاهب الي تحولات مهولة في الفكر والسياسة والثقافة ومفاهيم الناس اطل ذلك الفجر علي اصوات الموسيقي والمارشات العسكرية تعلن عن مرحلة جديدة في تاريخ السودان الحديث بعد ان احكمت الحركة الاسلامية قبضتها تماما بتدبير ليلي علي كل مفاصل الدولة المازومة وازاحت من كرسي السلطة جماعة الائتلافات الحزبية وديمقراطية العدم لتجلس هي علي العرش 27 عاما تبدلت فيها كل الاحوال فلم يعد السودان هو ذلك السودان الذي ورثته الانقاذ من حكامه السابقين .
جاءت حكومة الانقاذ في ذلك التوقيت في لباس عسكري تخفي تحت استارها مشروعا اسلاميا ومولودا شرعيا للحركة الاسلامية ظل جنينا في رحمها منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي كما قالها الراحل الشيخ حسن الترابي في احدي حلقاته التوثيقية مع قناة الجزيرة فكانت فكرة المسرحية الشهيرة ( اذهب انت الي القصر رئيسا , واذهب انا الي السجن حبيسا) هي احدي محاولات التغطية علي هوية الانقلابيين الجدد في سبيل تمكينهم علي السلطة وتامين مشروعهم الاسلامي “الاممي” ولا ضير في ذلك لان الانقاذ صنعت لنفسها شعارات وادبا جديدا يتغني بقيمها وافكارها وثوابتها علي شاكلة ( امريكيا ..روسيا قد دنا عزابها ) .
فمضت سفينة الانقاذ تقارع الاهوال والمتاعب عبر سنوات عجاف فنالت من الويل والوعيد ما نالت خاصمها اهل الداخل واصحاب الملك المسلوب اما المنطومة الخارجية فانشغلت كثيرا بهذا النموذج الاسلامي فرسمت الخطط والمكائد والتحالفات والقرارات الدولية والاقليمية لعزل واحتواء ما اسمته بالاسلام السياسي الجديد في السودان فكانت المقاطعة الدولية ضد السودان في مرحلة ما بعد منتصف حقبة التسعينيات ولكن كانت هذه المقاطعة في اشدها في العام 1996 وهو العام الذي شهد تداعيات محاولة اغتيال الرئيس المصري الاسبق محمد حسني مبارك في العام 1995 وشهد كذلك اصدار اكثر من ثلاثة قرارات حظر ومقاطعة اممية ضد السودان لازلنا نتازي منها واورثتنا الفقر والحرمان والتراجعات الكبري في الاقتصاد الكلي للسودان وتزامن ذلك مع تازم قضية الجنوب وتطورات الحرب هناك .
بعدها حاولت الانقاذ البحث عن خيارات وتغييرات جديدة تمكنها من اضفاء شرعية دستورية علي حكمها وسلطانها علي السودانيين فعمدت علي صياغة دستور1998 وانشاء برلمان منتخب وتوسيع ماعون المؤتمر الوطني في محاولة لاعطائه بعدا قوميا بدلا من كونه كيانا اسلاميا خاصا بالحركة الاسلامية ولكن كان رجال الانقاذ يراهنون علي التفاف الشعب حول ثورتهم ساعدهم في ذلك ان الانقاذ انتهجت سياسة فرق تسد التي اضعفت بها خصومها من القوي السياسية والحزبية فتحقق لها ما ارادته خاصة حينما نشطت في استقطاب الاخرين الي صفها واغرتهم بالمناصب والمال والتسهيلات فانقسمت القوي الحزبية علي نفسها عشرات المرات فتكاثرت وتناسلت من بينها احزاب اميبية غير مكتملة التطور اطلق عليها المعارضين تهكما وسخرية مسميات من شاكلة “احواب الكرتون” والكمبارس “والجرتق” ولكنها لم تكن احزاب تملك كامل قرارها وارادتها فالتهمها المؤتمر الوطني في احشائه فزابت بداخله تماما .
ثم جاءت نيفاشا في العام 2005 وهي الوثيقة التي شطرت البلد الي شقين ولكنها في نظر الاخرين عار ولعنة تطارد الاسلاميين جيلا بعد جيل مهما كانت مبررات هذا الانفصال رغم ان طرفي الاتفاقية الحكومة والحركة الشعبية تعايشا في فترة الانتقال كافضل الفترات واكثرها استقرارا وثراء ورفاها لان الحرب التي كانت تاكل بنهم كل مقومات ومقدرات الاقتصاد السوداني قد توقف نزيفها وهي اكثر تعتبر اكثر الفترات التي تعرض فيها الحق العام الي هدر كبير في موارد الدولة لان مرحلة ما بعد الحرب توست فيها رقعة المنظومة الدستورية فالذين وضعوا السلاح جانبا اتجهوا الي بناء ذاتهم وممالكهم المالية والاستثمارية الخاصة في ظل عدم وجود اجهزة رقابية فاعلة تحمي الحق العام وتردع منتهكيه .
وكيرون هم اؤليك الذين يعتقدون ان الانقاذ بدلت ملامحها واسقطت الكثير من ديباجاتها القديمة وتعرضت مسيرتها الي كثير من عمليات الجرح والتعديل والتكييف مع كل الظروف ترجل من قاطرتها من كانوا يوما داخل كابينة القيادة وجاء اخرون عبر شرعية التحالفات والشراكات السياسية فركبوا ذات القاطرة دون ان يشاركوا في القيادة او تحديد مساراتها .
والانقاذ الان تتفيأ انسام الذكري 27 وفي خاطرها اشياء من الاحزان والجراحات والاوجاع ..تاتي هذه الذكري ومشروعها الاسلامي فقد عرابه ومفكره الشيخ حسن الترابي ..تاتي الذكري 27 والبلاد تتكي علي اقتصاد منهك ومشروعاتنا الاقتصادية الكبري لم تفلح في ان النمو المنشود في اقتصادنا الكلي اما قطاعتنا الصناعية والانتاجية القديمة والجديدة تحولت الي هياكل وجثث متناثرة في العراء بلا مبالاة وحتي الحوار الذي اهدرنا فيه اطنان من الاوراق والاحبار يقف الان حائرا في محطته الاولي ينتظر من يبعث فيه روحا وقوة وارادة , اما محيطنا الاقليمي والدولي وعلاقاتنا الدبلوماسية مع الاخرين لازالت في حاجة الي عمليات ترميم شاملة فالادارة الامريكية مثلا لم تشأ تتعامل مع النموذج السوداني عبر سياسة العصا والجزرة وهي سياسة قائمة اساسا علي مبدأ المصالح المرحلية .
ولكن اسوأ ما في تجربة الانقاذ ان مشروعها الاسلامي وبرنامجها الروحي لبناء مجتمع فاضل علي قيم الدين الحق والحكم الرشيد لكنه تبدد من بين يدها وهي في غمرة انشغالها بتصفية خصوماتها السياسية فلم تبالي الانقاذ وهي ماضية بذات النهج القديم ورجالها يتساقطون فرادي وجماعات حتي انه لم يعد هناك من يتذكر الانقاذ بشكلها ووجهها القديم , فباي جديد اذن يمكن تتنسم بلادنا هذه الذكري ..هل نتاسي علي الانقاذ التي تبدلت وتراجعت ؟ ام نحزن ونتاسي علي البوصلة التي فقدتها بلادنا وهي تائهة تبحث عن بوابات للخروج الامن ؟ .

[email][email protected][/email]
زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..