مقالات سياسية

نحن … والشيوعيون

علي دهب عبد الجابر

آثار مقالنا السابق حفيظة كثير من إخوتنا الاسلاميين. وكبر عليهم التسليم بما ذكرته. وكادوا يكونون علينا لبدا. ربما لان كاتب المقال من صميم الصفوف القاعدة للحركة الإسلامية. من البسطاء الطيبين الذين كانوا اذا استنفروا نفروا. وكانوا يمثلون لطاعة ولي الأمر بنفس طيبة. وكانوا يعفون عند الغنم.

وربما لو كان كاتب المقال عضوا في المكتب القيادي للحركة او ممن اشتروا بانهم مستنيرون ومثقفون لاستحسنوه ولابدوا إعجابهم برجاحة الارآء التي حواها لان الاعتقاد الذي كان سائدا وسط صفوف الاسلاميين هو أن الحكمة والفهم والنظر الثاقب كله (فوق) في القيادة. أما البسطاء في الصفوف القاعدة فما لهم وللتفكير والتحليل. إنما هم جنود اتباع ينفذون وهم صامتون ما تقضي به عبقرية القيادة. ومن كان يحب أن يمتع نفسه بممارسة قدر من الشورى وإبداء رأي مستقل عن رأي الشيوخ (اللي فوق) فإن ذلك لم يكن محل ترحيب.

كانت بعض الردود على المقال انفعالية وغير موضوعية. وكان اكثر ما آثار حفيظة المنتقدين الكلام عن الشيوعيون بشئ من التعاطف.

الشيوعيون عقدة متواصلة في نفوسنا. استحوذت فكرة الادهم على خلايا ادمغتنا. خبأنا كراهية الشيوعيون والنفور منهم في جوانحنا وغذينا هذا الشعور السلام بدمنا حتى طغى على خارطة شعورنا. ثم ضربنا على مفهوم الحاد الشيوعيون في عقولنا سياجا من الدوغمائية المهيمن. فلم يعد هناك من يجرؤ على مراجعة هذا الفهم. ملحدين.. يعني.. ملحدين.
هذه النظرة الدوغمائية للشيوعيين يعود تاريخها الي بدايات نشوء التيار الإسلامي في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن الماضي.

عند دخولهم معترك الحياة السياسية وجد الإسلاميون ان الشيوعيون سبقوهم الي الساحة وشكلوا وجودا مؤثرا لاسيما وسط الطلاب والعمال. ولما كان الإسلاميون والشيوعيون ايدولوجيا على طرفي نقيض فأن معطيات المنافسة السياسية فرضت على الاسلاميين ان يتذرعوا بكل حيلة لدفع هذا الخصم اللدود من طريقهم وتشويه صورته في أعين الجماهير. ولم تكن هناك وسيلة اكثر فعالية لتحقيق هذا الهدف من حكاية الإلحاد هذه. فأن إثارة هذه التهمة والترويج لها في بيئة مسلمة كفيل بأن (يطفش) الطير من الشيوعيون فضلا عن الناس. هكذا ظننا.

وكان الدافع لهذا سياسيا محضا ولا صلة له بالغيرة على الدين. وهذا الموقف من الشيوعيون ظل دائما من البينات الصارخة على أن الحركة الإسلامية تعمد دائما الي استغلال الشعور الديني لتحقيق كسب سياسي. وأصبح هذا التكتيك ديدن الحركة الإسلامية تلجأ اليه كلما حزبها امر. وما رفع راية الجهاد في إطار حل مشكلة الجنوب الا مثال اخر لذلك. فإن مشكلة الجنوب مشكلة سياسية منذ بدايتها ولا صلة لها بالدين. لقد كان ذلك استغلالا سيئا لقيمة من قيم الدين من أجل يحقيق كسب سياسي. وجون قرنق الذي رفعت ضده راية الجهاد وكان يوصف بأنه عميل صهيوني أصبح فيما بعد النائب الأول لرئيس الجمهورية في الحكومة نفسها التي رفعت في وجهه راية الجهاد. انه تقديم المصالح السياسية على المبادئ.

الشيوعيون مسلمون وليسوا ملحدين. ولا يشكلون اي خطر على الإسلام ولا على أهله. ولكنهم يمثلون قوة سياسية لها وزنها. ولهم اسهام في الحراك الوطني منذ ما قبل الاستقلال. ولهم اتباع من الجماهير يتميزون بدرجة من الوعي السياسي يتفوقون فيه على غيرهم من جماهير الاحزاب الطائفية. وفيهم نخبة من المثقفين والاكاديمين من مختلف التخصصات إنتاجه الأدبي والثقافي وكتاباتهم في السياسة والتاريخ لا ينكره الا مكابر.

وهم بحكم فكرهم المناقض لفكر الاسلاميين يشكلون الخصم السياسي الأول للاسلاميين.. وهذا هو سر (الريدة) اذا صح التعبير!

والمجتمع لا يكترث بتهمة الإلحاد التي يشقى الإسلاميون كثيرا لالصاقها بالشيوعيين ولا يلقى لها بالا. ويتعامل مع الشيوعيون باعتبارهم فئة من غيرهم من المسلمين ولا فرق. وأفراد الشيوعيون يتزوجون من غيرهم والآخرون يتزوجون منهم واذا مات الشيوعي صلى عليه الناس ودفنوه في مقابر المسلمين. ومن شهد جموع المشيعين الغفيرة لجنازة المرحوم محمد ابراهيم نقد عليه رحمة الله لعلم ان مكانته كبيرة بين الناس وكان احمد بن حنبل يرى ان حجم المشيعين دليل على مكانة المتوفي في المجتمع وكان يقول عن خصومه… بيننا وبينهم الجنائز. وقد شهد جنازته في بغداد جمع من الناس لم يعرف مثله.

والذي يؤكد ان موقف الاسلاميين المعادي للشيوعيين إنما املته ضروريات التكتيك السياسي ان الترابي رحمه الله لم ير بأسا من زيارة الشيوعيون في المركز الرئيسي للحزب بالخرطوم في نوفمبر ٢٠٠٧. وعندما ودعه المرحوم محمد ابراهيم نقد قال له: (أهو عرفت الدرب ابقى زورنا طوالي)

وعلق الترابي رحمة الله عليه بقوله:
الذين يحسبون ان هؤلاء الشيوعيون غير مسلمين مخطئون ان الحزب الشيوعي الآن أصبح الحزب الاقرب إلينا.
وقال الأخ ابراهيم السنوسي في حوار أجرته معه صحيفة اخر لحظة في ديسمبر ٢٠١١:
الشيوعيون الان لم يعودوا الذين كانوا في روسيا يقولون ان الدين خرافة. انهم الان يصلون معنا وينادون بمبادئ عامة اتفقنا معهم حولها وعندما زج بنا في السجون كانوا يصلون معنا.

وفي ابريل من العام ٢٠١٨ اجتمع صلاح قوش بعدد من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي على رأسهم محمد مختار الخطيب وصديق يوسف واخرون واخبارهم بأن النظام ينوي الانفتاح على المعارضة. وقد أصدر الحزب الشيوعي بيانا بهذا المعنى.

فهؤلاء الذين ذكرنا هم قادة الاسلاميين ومواد تهم للشيوعيين فأين الإلحاد الذي اقض به الإسلاميون مضاجع الخلق.
ليس هناك أجمل من الإحسان الي الآخرين وقبلهم. فهل يستطيع الإسلاميون تجاوز الضغائن التي خلفتها سنوات الصراع الطويلة والتخلص من مشاعر الريبة والشك تجاه الآخرين. والتخلي عن فكرة الحاد الشيوعيون آلتي عفا عليها الزمن كما ذكر الاسلامي الحصيف الاخ خالد التجاني في إحدى مقالات. اعتقد ان كل ذلك في حيز الإمكان. وربما تؤكد القصة الجميلة التالية ما ذهبنا اليه.:

في أيام محاولة يوليو ١٩٧٦ كان القيادي توفيق عثمان صالح مطلوب بشدة لدي سلطات أمن مايو. وكان الاسلاميين المقربين منه يجتهدون في اخفائه وعلى رأسهم ابراهيم محمد الشهير بابراهيم خردة رحمه الله.

كان ابراهيم خردة صديقا حميما للشيوعي المعروف عبد الرحيم محمد عبد العزيز.
أخبر ابراهيم خردة صديقه عبد الرحيم بأنهم لا يجدون مكانا لإخفاء الأخ توفيق عثمان صالح من سلطات الأمن. قال له عبد الرحيم بدون تردد:

جيبو هنا عندي.. ما ممكن ناس الامن يفتكروا انو شيوعي داسي ليهو اخو مسلم.

ومكث توفيق عثمان صالح الإسلامي مختبئا في منزل الشيوعي محمد عبد الرحيم ثلاثة أشهر تمكن بعدها من التسلل عبر الحدود الي تشاد ومنها إلى ليبيا.

جمال هذه القصة وروعتها لا يحتاجان الي تعليق. فهل نستطيع نحن تجاوز اهواءنا الحزبية والشخصية من أجل الوطن الكبير.
ولنا عودة.

علي دهب عبد الجابر

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..