مقالات وآراء

التفضيل في القرآن

التفضيل في القرآن لا يعني أبداً التفضيل المطلق. وينطلق هذا البحث من فرضية تقوم علي أن حب الفخر في نفوسنا يعمينا عن معانٍ كبيرة وعظيمة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ وأن من خلال تطبيق منهج التواضع، في التدبر والتفسير، ستظهر لنا معانٍ ما كانت لتظهر لنا لولا ذلك، مصداقاً لمقولة لقمان الحكيم التي مفادها: “لكل شيء مطية توصل إليه ومطيتك إلى العلم التواضع”.
تعني “عبارة “فضّلَ اللهُ” أنه عز وجل قد أعطى فضلاً لعبد أو جماعة من عباده لم يعطه للآخرين، وهؤلاء الآخرون قد أنعم عليهم بأفضال أخرى فصاروا هم أيضاً بها مفضّلين. فإذا قرأنا قوله تعالى: “ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داؤود زبوراً”: نفهم أنّ الله أعطى داؤود كتاباً لم يعطه للأنبياء الآخرين، ولكن هذا لا يعني أن الأنبياء الآخرين محرومون من الفضل، فقد “فضّلهم” الله بكتب أخرى، هي التوراة والإنجيل والقرآن.
وينطبق الأمر نفسه على معنى تفضيل اللهِ الرجالَ والنساءَ بعضهم على بعض: أي أعطى كلا من الرجال والنساء من الأفضال ما لم يعطه للنوع الآخر، فكلا النوعين مفضل بأمر ومحروم من أمر آخر. وكل ذلك لحكمة: أنشكر ونصبر، أم نسخط ونكفر؟
وبالمِثل، عندما نقرأ أن الله فضل بني إسرائيل يجب ألا نفهم أبداً أنهم فضلوا تفضيلا مطلقاً، أي أنهم هم الأفضل على الناس كافة. بل يعني ذلك أن الله قد أعطاهم فضلاً يتمثل في التوراة وإرسال موسى عليه السلام وإنزال المنّ والسلوى، على سبيل المثال لا الحصر. فهذه كلها أشياء لم ينلها الأقوام الآخرون، ولكن هؤلاء الآخرون قد فُضِّلوا، هم أيضاً، بأشياء أخرى.
إذن فإن التفضيل بالمعنى الدارج الذي نفهمه في استخدامنا اليومي لا وجود له في القرآن. وأقول ذلك بلا أدنى تحفظ. نحن، في حياتنا اليومية، نفضل الأشياء تفضيلا مطلقاً: هذا أفضل من هذا، أي أنّ هذا دون هذا. لكن في القرآن الكريم نجد أن التفضيل ظرفي وسياقي. والسبب في ذلك بسيط: لا أحد يملك أي شيء، بل الفضل كله فضل الله يؤتيه من يشاء. فلا سبيل لك لأنْ تكون الأفضل مطلقاً بما لا تملك. فحتى وإنْ أعطاك الله فضلاً عظيماً لا يعني ذلك أنك الأفضل، لأنك، ببساطة، لست صاحب الفضل، بل الله هو صاحب الفضل عليك. وهكذا نستنتج أن إحساس العبد بأنه أفضل من الآخرين فضلاً مطلقاً، هو إحساس بالفخر، والفخر يناقض الإيمان بأننا لا حول لنا ولا قوة لنا ولا فضل لنا في شيء.
ولا نملك إلا نلاحظ بإعجاب كيف يأبى النبي صلى الله أن نفضله على إخوته الرسل حين يقول لنا: “لا تُفضِّلوا بين الأنبياء” و”لا تفضلوني على يونس بن متى”، أي لا تفضلوني عليه ناظرين إليه بانتقاص بسبب ذهابه مغاضباً والتقام الحوت له.
ويندرج قوله تعالى “تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ورفعنا بعضهم درجات” يندرج في نفس المعنى والسياق: فالله فضّل آدم بأبوة البشر، وإبراهيم بأبوة الأنبياء، ونوح بالأبوة الثانية للبشر، وداؤود بالزبور، وسليمان بالملك، ويوسف بتأويل الأحاديث، مثلما رفع أيوب درجة بالصبر، وإبراهيم بالخلة، وموسى بالكلام، وعيسى بالبينات، ونوح بطول مدة الدعوة، ومحمد بختم الأنبياء…الخ، صلاة الله وسلامه عليهم جميعاً.

وفي اتساق تام ومتوقع، نجد أن الرسول الكريم، عليه أفضل الصلاة والتسليم، يدعونا إلى عدم تفضيله على الرسل، مثلما يدعونا القرآن الكريم إلى عدم التفريق بين الرسل، سلام الله عليهم جميعاً. ولكننا، للأسف، جهلاً، نأبي أن نطيع النبي، وكأننا، من جهلنا لا عن عمد منا، نقول له: كلا، لن نطيعك، سنفضِّلك علي سائر الرسل، بل وسننتقصهم، وسننتقص أبانا وأباك آدم بأن نقول، مثلاً، عن آدم إنه كان طيناً وماء بينما كنت أنت نبياً، لنرفعك أنت ونحط من مقام أبيك، وأب الرسل جميعاً.
يقول الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم: لا فخر، ونحن نصر على الفخر. الله سبحانه وتعالى يقول لنا إنه لا يحب كل مختال فخور، بلا استثناء، ونحن نصر على الفخر والاختيال. إنه إصرار إبليس على الفخر والاستعلاء، وإبليس يريدنا أن نحذو حذوه، وندخل مدخله يوم القيامة.
حب الفخر، الذي يزينه الشيطان في أعيننا، يجعلنا عاجزين عن فهم قوله صلى الله عليه وسلم: “أنا سيد ولد آدم ولا فخر”.
فحين يريد أحدنا أن يتفاخر، يقول: “أنا كذا ولا فخر”. ولكنه، بالتأكيد، يقصد التفاخر، لكن فقط بطريقة “شيك”. وهذا النوع من الناس عندما يقرأ قول المصطفى صلى الله عليه وسلم “أنا سيد ولد آدم ولا فخر” يظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل كما يفعل هو: أي أنه ينفي الفخر ويأتيه. ونسي هذا المسكين أن الرسول الكريم عليه الصلاة والتسليم لا ينطق عن الهوى، وإنْ هو إلا وحي يوحي. فحين يقول “ولا فخر” ينفي الفخر تماماً: ينفيه إرادةً ونيةً وينفيه معنىً ودلالة.
وهكذا حين نصدق الرسول، صلى الله عليه وسلم، وننفى معنى الفخر وإرادته عن الحديث: يظهر لنا معناه العظيم، وتظهر لنا كلمة “سيد” بمعنى جديد لم نعهده من قبل: أنا سيد ولد آدم، أي أنا ملجؤهم، وشافعهم، وأنا الحريص على إيمانهم ونجاتهم من النار. تظهر لنا كلمة “سيد” بمعنى لا علاقة له بالسادة والكبراء والمتعاظمين والمتكبرين.
تظهر لنا كلمة “سيد” بمعنى الشخص الرؤوف الرحيم، المملوء بالمحبة، والإشفاق على الناس من الهلاك في الدنيا والآخرين. وبانتفاء الفخر، إرادة ومعنىً، في قوله صلى الله عليه وسلم “أنا سيد ولد آدم ولا فخر”، ينتفي ويختفي تماماً المعنى “الكاوبويي”، الذي نفضله نحن، لكلمة “سيد”.
وسدّا لكل هذه الذرائع، يحذرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بحديثٍ لا أرانا نأبه له كثيراً وهو قوله صلى الله عليه وسلم “السيد اللهُ تبارك وتعالى”. ولهذا لا نجد في الصلاة الإبراهيم المروية عنه صلى الله عليه وسلم لفظ “سيدنا”. وسبب ذلك أن الصلاة على النبي ليست تعظيماً، كما يتوهم الكثيرون، وكما نجد ذلك في قول بشار بن برد:
إذا ما أعرنا سيداً من قبيلةٍ///ذرا مسجد صلى علينا وسلما،
وإنما هي دعاء موجه لله سبحانه وتعالى أن يغمر رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بالرحمة، الرحمة التي تليق بمقام نبوته. ولذا وجب علينا أن نعلم أننا حين نصلي على النبي، صلى الله عليه وسلم، فإننا نقف، في واقع الأمر، أمام الله، السيدُ تبارك وتعالى، لنطلب الرحمة، لعبد الله ورسوله. ففي حضرة السيد تبارك وتعالى لا سيد إلا هو، وحده لا شريك لا له.
وعلى الرغم من أن الصيغة الثابتة للصلاة الإبراهيمية في الأحاديث الصحيحة تخلو من “التسييد/التسويد”، أي عبارة “سيدنا”، فإننا نصر عليها، ظانين أننا نفعل خيراً عظيماً، ونقدم بها هدية كبيرة إلى رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، غير مدركين أننا، في حقيقة الأمر، مثل ذلك الطائر الذي قدّم حشرة هديةً لسيدنا سليمان يوم العرض. فهل ينتفع سليمان عليه السلام بالحشرة وإن قبلها تواضعاً وأدباً؟ وإن كان الطائر معذوراً لبهامته، فما وجه العذر عندنا؟
نخلص من كل ذلك إلى أنه يجب ألا ننجرف إلى التفضيل والمفاضلة المطلقين بين رسل الله سبحانه وتعالى.
ومن المنطلق نفسه، يجب ألا نخصص قلةً من رسل الله فنقول إنهم أولو العزم، وكأن الآخرين، عليهم السلام، ليسوا بأولى عزم. فقول الله تعالى “فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل” يجب أن نفهمه على حقيقته: أصبر يا محمد كما صبر الرسلُ أولو العزم (ونفهم أن جميع الرسل أولو عزم).
مشكلتنا أننا نسقط سوء فهمنا، وعجمتنا، أو ما أسميه “عُجامنا”، على القرآن الكريم. وبذلك قد نفهم من النص القرآني فهماً ليس فيه. حرف الجر “مِن” في قوله تعالى “أولو العزم من الرسل” لا يفيد التبعيض، كما في قولنا “قليل من الملح”، بل يفيد الوصف والنوع أو الجنس. فقولنا “ثوبٌ من القطن” لا يعني أن الثوب بعض القطن، بل يعني أن نوع الثوب قطني، وليس صوفياً أو جلدياً. ومثله قولنا “رجل من العرب”، أي عربي. وهكذا ندرك أنّ عبارة “أولو العزم من الرسل” تفيد معنى عريضاً مفاده أنّ أولى العزم كُثُر لكن هنا، في هذا السياق، المقصودون بها هم الرسل من بين أولي العزم كافة من الصديقين والشهداء والأولياء والصالحين، وغيرهم من الصابرين والمتقين والمحسنين:
– “وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور”
– “واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور”
ويبدو أنّ بعض المفسرين، ظنوا، في إحدى غفلاتهم، أنّ آدم، عليه السلام، ليس من أولي العزم بسبب الآية التي تقول في حقه:
“ولقد عهدنا الى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما”. ونسي هؤلاء أنّ ما ينطبق على آدم ينطبق على بني آدم جميعاً، بلا استثناء: كل ابن آدم ضعيف ما لم يجد العون من مولاه عز وجل: “وخلق الإنسان ضعيفا”.
وبسبب عدم إدراك مغزى قصة خروج أبينا آدم من الجنة، يتحامل بعض الناس على أبي البشرية ويحملونه، وأمنا حواء، الخروج من الجنة، ناسين أنّ آدم أنما يمثل فطرتنا وضعفنا وهشاشة عزمنا أمام إغواء الشيطان وإغراءاته. والمفارقة أن أي واحدٍ منّا قد “يزعل ويمد بوزه طويلاً” إنْ وُصِف بضعف العزيمة!
هل يليق بنا أن ننتقص من أبينا آدم فنصفه بعدم العزم؟ ما بالكم بعبدٍ من عباد الله، هو أبو البشرية، وأبو الأنبياء والمرسلين جميعاً، وقد تلقى كلمات من ربه فتاب عليه وهداه ربه واجتباه واصطفاه؟
– “فتلقى ادم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم”
– “ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى”
– “إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين”
صدق الله الله العظيم
ونافلة القول أن من سوء الأدب القول على أبِي البشر وأبي الأنبياء جميعاً إنه ليس من أولى العزم.
ومن سوء الأدب مع الأنبياء والرسل أن نقلل من عدد أولى العزم فنقول إنهم خمسة فقط والحقيقة أنهم جميعاً من أولى العزم، سلام الله وصلاته عليهم جميعاً!
ومن سوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن نحاول أن نمدحه بتفضيله على إخوته، غير مدركين أن الشخص الكريم لا يحب أن تفضله على إخوته، ولهذا السبب نهانا الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم عن تفضيله على إخوته من الأنبياء: “لا تفضلوني على يونس بن متى”. فجميع الأنبياء إخوته؛ وآدم أبوه؛ وإبراهيم أبوه؛ فهل تظنون ذلك الظن الآثم إنه، صلى الله عليه وسلم، سيفرح منكم وأنتم تحطون من قدر أبيه وأخيه؟
وأخيراً، من سوء الأدب مع الله أن نقف أمامه، لندعوه أن يغمر بفضله ورحمته عبداً من عباده، لكن بدلا من أن نصف ذلك العبد بصفة تليق به، كالافتقار إلى الله مثلاً، نجعله سيدا، ناسين أننا أمام السيد تبارك وتعالى.

الريح عبد القادر

تعليق واحد

  1. الصلاة الإبراهيمية ثابت فيها ذكر عبارة سيدنا محمد وسيدنا إبراهيم كما ذكر آل محمد وآل إبراهيم ولا تناقض في ذلك بين الدعاء له واثبات السيادة له علينا. قال تعالى في سورة الأحزاب: “(إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰۤىِٕكَتَهُۥ یُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِیِّۚ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ صَلُّوا۟ عَلَیۡهِ وَسَلِّمُوا۟ تَسۡلِیمًا)[الآية 56].
    طبعاً هذا أمر الله تعالى بالصلاة على نبيه وعبده أما تنفيذ الأمر فمن عباده المؤمنين على نبيهم وسيدهم ليس بمعنى كونهم هم عبيده كذلك وإنما لتفضيله عليهم بكونه رسول الله لهم. ولا تتعارض للسيادة بهذا المعنى التفضيلي مع وضعية الصلاة عليه والدعاء للرسول النبي.
    فكلامك في موضوع التفضيل في القرآن وكونه غير مطلق كلام جيد ولكن إقحامك للصلاة الإبراهيمية في هذا الموضوع لا مناسبة له.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..