
عقدت اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير مؤتمرًا صحفيًا في الفاتح من سبتمبر صبت فيه جام غضبها على الموازنة المعدلة للعام 2020، حيث أعادت من خلاله موقفها الرافض لهذه التعديلات وللمنهج الاقتصادي الذي يدار به الشأن الاقتصادي للبلاد بشكل عام. في هذا المقال القصير سنورد نقاط التحفظ التي أبدتها اللجنة من خلال مؤتمرها الصحفي، وسنقوم بالتعليق عليها. كما سنستعرض البدائل التي طرحتها اللجنة ومن ثم التعقيب عليها.
ابتدرت اللجنة المؤتمر الصحفي بالرفض التام للموازنة المعدلة للعام 2020 والمطالبة باستبدالها بالموازنة التي أعدتها هي، بحجة أنها لم تعرض عليهم كلجنة منبثقة من الحاضنة السياسية للحكومة. في هذا الزعم، نقول أنه من المعروف أن القنوات والمراحل التي تمر بها الموازنات هي ان تقوم وزارة المالية باعداد مسودة الموازنة وفق موجهات الحكومة، ومن ثم تقوم الحكومة التنفيذية بالموافقة عليها بعد استشارة من تشاء، ومن ثم تعرض على المجلس التشريعي للمصادقة عليها بعد إبداء ملاحظاتها واعادتها للمالية للتنفيذ كقانون. ما جرى في هذا الصدد هو أن الموازنة وتعديلاتها تمت اجازتها من مجلس الوزراء ومن ثم صادق عليها الاجتماع المشترك بين مجلسي الوزراء والسيادة، وهو الأمر الطبيعي في ظل غياب المجلس التشريعي. أما المطالبة باستبدال الموازنة بأخرى أعدتها هي، أي اللجنة، وبعد دخول الموازنة شهرها التاسع لأمر في غاية الغرابة، إذ أن اللجنة هي جهة استشارية فقط و ليست جهة دستورية، عطفاً على أنها لم تجد الاجماع حتى من القوى المختلفة التي تدعي حضانتها للثورة.
عن رفض اللجنة تخفيض سعر الصرف من 55 جنيه إلى 120 جنيه مقابل الدولار في الموازنة المعدلة، فإن الحقيقة هي أن التخفيض المقصود هنا هو حساب القروض الأجنبية فقط بهذا السعر، وليس هو تخفيض مباشر لقيمة الجنيه بهذه الطريقة. إن عرض هذه الحقيقة بهذا الشكل تنقصه الأمانة والمهنية وفيه تضليل لمشاهد المؤتمر. و الحقيقة إن هذا التخفيض تم بسبب انخفاض تقديرات القروض الأجنبية في النصف الثاني من الموازنة، مقارنةً بالموقف في النصف الأول وكان امرآ معقولاً في ذلك الوقت لردم الهوة الواسعة بين السعرين الرسمي والموازي.
بخصوص اعتراض اللجنة لزيادة الدولار الجمركي، أو بالأصح تخفيض قيمة الجنيه مقابل الدولار الجمركي من 55 جنيهًا إلى 120 جنيه مقابل الدولار. والدولار الجمركي هو ما يدفعه المستورد من رسوم بالعملة المحلية بما يوازي الرسوم الدولارية المفروضة عليه مقابل السلع المستوردة. في الواقع، إن ما تم هو تخفيض قيمة الجنيه أو زيادة الدولار الجمركي تدريجياً وصولًا إلى سعره الحقيقي خلال سنتين، وليس كما ذكرته اللجنة باْن الزيادة هي 30% شهريًا. وهذه مبالغة متعمدة من اللجنة، لان زيادة 18 جنيه في الشهر الأول الى سعر 55 جنيه تكون بنسبة 30% فقط في الشهر الاول، أما زيادة 18 جنيه في الشهر التالي ستكون بالطبع بنسبة أقل، وهذا تضليل آخر متعمد. على كل، فإن الزيادة التي حدثت هنا هي مقبولة برأينا في سياق السعي نحو سَوق سعر الصرف تجاه سعره الحقيقي بالتدرج. إذ لا يعقل أن يظل سعر الصرف 55 جنيه مقابل أكثر من 200 جنيه في السوق الموازي.
اللجنة أعلنت أيضا رفضها لفرض ضريبة القيمة المضافة على الوقود بحجة ارتفاع سعره. ما حدث في هذا الشأن هو أن الحكومة قامت بفرض هذه الضريبة بعد ان تم فتح الباب أمام القطاع الخاص لاستيراد الوقود بكميات غير محدودة، وهذا أمر طبيعي، إذ لا يعقل ألا تفرض هذه الضريبية على سلع يستوردها القطاع الخاص وبكميات مفتوحة. والغريب في الأمر أن اللجنة نفسها وفي المؤتمر ذاته طالبت بإلغاء الاعفاءات الجمركية!
أما مطالبة اللجنة بضم الشركات العسكرية والأمنية لوزارة المالية، فإنه رغم وجاهة هذا الطلب وضرورته لاستقرار الاقتصاد، إلا إن الأمر ليس بهذه السهولة في ظل الوضع السياسي الحالي، إذ ان الوثيقة الدستورية منحت الشق العسكري دون المدني سلطات واسعة جعلت تحت يديه الكثير من النفوذ يصعب معها مصادرة شركاته. إن تحقيق هذا الهدف يحتاج إلى فعل سياسي كبير يصعب توفره في ظل التشرذم وعدم التوافق الذي يسود ساحة القوى السياسية المدنية. والأوفق في هذه المرحلة برأينا، هو إخضاع هذه الشركات على كافة القوانين واللوائح التي تنظم النشاط الاقتصادي في البلاد من التزام بدفع الضرائب وتوريد حصائل الصادر، وذلك شأن الوضع في بعض الدول دون التسبب في خلق تشوهات في المنافسة وتكريس للاحتكار، على أن يتم معالجة الامر دستورياً لاحقاً.
في شأن مطالبة اللجنة بإرجاع بعض شركات القطاع العام للإشراف على التصدير، فإن تاريخ إدارة المؤسسات العامة في السودان حافل بالفشل والاخفاق في القيام بهذا الدور. إن ذاكرة الشعب السوداني تحفل بالعديد من التجارب غير المشرفة بشأن مثل هذه المؤسسات التي شابها الفشل والترهل والفساد، ودونكم قصص شركات مثل الأقطان والحبوب الزيتية والصمغ العربي وسودانير وغيرها. والأجدى في شأن إدارة امر الصادر هو إعادة هيكلة وزارة التجارة ورفدها بالخبرات العالمية في مجال إدارة الصادر والتي تمكنها من القيام بدورها في ترقية الصادرات، اذ انه من المعيب أن نشهد اخفاقات يومية ومتكررة في الإشراف الفني على تصدير سلع تعتبر أولية ومضمونة العائد، وبالتالي التسبب في ضياع نقد أجنبي معتبر في ظروف لا تحتمل مثل هذا الاهمال.
في منحى آخر طالبت اللجنة بالعمل على جذب مدخرات المغتربين، وهنا نود تذكيرها بأنها، أي اللجنة، وفي هذا المؤتمر وغيره من المناسبات، ظلت تعارض وبشدة كل الإجراءات التي من شأنها جذب هذه المدخرات. إذ أنها رفضت سياسة ردم الهوة التدريجي بين سعر الصرف الرسمي والموازي، والذي كان من ضمن أهدافها جذب مدخرات المغتربين وخلق محافظ استثمارية جاذبة ومرنة بالعملة الأجنبية. اذن اللجنة تطالب بابقاء سعر الصرف على 55 جنيه مقابل الدولار وفي نفس الوقت تطالب بجذب مدخرات المغتربين!.
وبعد، فإذا كان هدف اللجنة هو إعانة حكومة الثورة في تحقيق الاصلاح الاقتصادي المنشود والخروج بالبلاد من المأزق السحيق الذي وصل إليه، فيجب عليها أن تقوّم طريقتها في النصح والإرشاد، وأن تقوم بتقديم مقترحات عملية وعلمية قابلة للتطبيق بدلاً من الاستماتة والإصرار على بعث وانفاذ افكار مذهب سياسي واقتصادي لم يكتب له النجاح عبر التاريخ، وقديمًا قيل: لك نصحي وما عليك جدالي آفة النصح أن يكون جدالا.
شريف اسماعيل بنقو
[email protected]