مقالات وآراء سياسية

في الذكري (٥٦) علي اول مجزرة قام بها الجيش بعد الاستقلال.

بكري الصائغ

مقدمة:
(أ)-
اواصل السرد والحكي عن ثورة اكتوبر ١٩٦٤ المجيدة التي مازلنا نحتفل بذكراها السادس والخمسين ، واكتب اليوم عن اول مجزرة قام بها الجيش لاول مرة في تاريخه بعد الاستقلال، وقعت المجزرة في يوم الاربعاء ٢٨/ اكتوبر ١٩٦٤، ومازال الناس حتي اليوم يطلقون اسم “ساحة الشهداء” علي الميدان الجنوبي الواقع (خلف القصر الجمهوري القديم)، وهو المكان الذي وقعت فيها احداث يوم ٢٨/ اكتوبر وخلفت العديد من القتلي والجرحي.
(ب)-
حتي عام ١٩٧١ كان الاسم المعروف والسائد عن المؤسسة العسكرية هو “الجيش السوداني”، وقام جعفر النميري بالغاء هذا الاسم واستبدله بالاسم الجديد “القوات المسلحة” تمشيآ مع قرار الجامعة العربية الخاص بتوحيد اسماء الوزارات في  كل الدول الاعضاء بالجامعة.
(ج)-
واذا ما عدنا للوراء وقبل استقلال السودان عام ١٩٥٦، نجد ان “قوة دفاع السودان” منذ تاسيسها عام ١٩٢٥ لم ترتكبت مجازر او قمعت مظاهرة الا في حالتين فقط ، المرة الاولي وقعت في عام ١٩٢٤ عندما تصدت قوات بريطانية لضباط  وجنود سودانيين ينتمون ل”قوة دفاع السودان” تمردوا علي القيادة العامة، ودارت بينهم معركة ضارية بالاسلحة الثقيلة، ظلت المعركة بقيادة عبدالفضيل الماظ ابن الثامنة والعشرين دائرة في عنف من مساء الخميس ٢٧/ نوفمبر١٩٢٤ إلى يوم الجمعة ٢٨،   ونفدت ذخيرة الثوار فتفرقوا، والتجأ عبد الفضيل وحده غير آبه بمصيره إلى مبنى المستشفى العسكري “مستشفى الخرطوم للعيون أو النهر آنذاك” واحتمي به، وبقي عبد الفضيل وحده محاصراً بجحافل الجيش الإنجليزي وعندما عجزوا تماماً عن القضاء عليه أمرهم المأمور بضرب المستشفى بالجُلة ـ ُشبيهة بالدانة ـ عبر «الكشافات المتعظمة» بالطائرة من فوق.  وبعد نصف يوم آخر من المعركة نُفِّذت التعليمات ودُكَّ المستشفى على رأس البطل وقد سقط الحائط عليه مُحدثًا كسرًا فى السلسلة الفقرية للرقبة. وعندما تم الكشف بين الأنقاض وجدوه منكفئًا على مدفعه وقد احتضنه بكلتا يديه وخاف الإنجليز من الاقتراب منه ظناً بأنه مازال حياً لأنه استشهد وهو ممسك بمدفعه.
(د)-
المرة الثانية، عندما تمردت الاورطة (١٨) التابعة ل”قوة دفاع السودان” في مدينة توريت، في يوم   الاحد ١٨/ أغسطس ١٩٥٥، ودخلت احداثها التاريخ السوداني تحت أسم (حوادث الجنوب)، ففي هذا اليوم تمردت الفصيلة (اورطة 18) التابعة لقوة دفاع السودان، وثاروا المتمردين علي قيادة معسكرهم ، واغتالوا غالبية من كانوا بها من جنرالات وجنود ومدنيين، ثم زحفوا باسلحتهم وعتادهم الحربي الخفيف الحمل الي داخل المدينة توريت، واغتالوا كل من هو ليس جنوبيآ، وبلغت جملة الضحايا في اليوم الاول نحو (١٢٠) شمالي ، و(٤٠) اوروبي اغلبهم كانوا من التجار اليونانيين والرهبان الايطاليين، وقعت هذه المجزرة وقبيل اربعة شهور فقط من استقلال السودان عام ١٩٥٦ بتدبير مخطط من قبل الحاكم العام البريطاني في الخرطوم بهدف اثبات ان السودان ليس اهلآ بعد للحصول  علي استقلاله الكامل والخروج من التاج البريطاني، وانه مازال سودان ضعيف يعج بالفوضي العارمة ، وكثيرمن اجزاءه لا ينعم بالاستقرار والهدوء.
(هـ)-
خلال الفترة من اغسطس ١٩٥٥ وحتي اكتوبر١٩٦٤، وقعت مجازر رهيبة ودامية في جنوب البلاد خاصة بعد انقلاب الفريق/ ابراهيم عبود وطالت اكثر من (٥٠٠) الف جنوبي، ولكن كل هذه المجازر كانت غير موثقة او مدونة ولم يسمع بها اكثر سكان السودان في الشمال بسبب الرقابة علي الصحف المحلية وعلي المراسلين الاجانب، وحتي اليوم ورغم مرور اكثر من (٦٥) بداية الحرب في الجنوب لا توجد اي ملفات عن هذه المجازر الكثيرة التي يعرفها فقط سكان الجنوب، والضباط والجنود الذين قاموا بها، وترفض وزارة الدفاع في الخرطوم السماح للمؤرخين والكتاب الاطلاع علي الملفات والاوراق والقصصات القديمة رغم مرور فترة طويلة علي وقوع هذه الاحداث!!

١-
وادخل الي موضوع المقال:
(أ)-
بعد استشهاد الطالب طه القرشي في يوم ٢٠/ اكتوبر ١٩٦٤، تطورت الاحداث بصورة سريعة بعد قيام  قوات الشرطة باستخدام الرصاص الحي لتفريق المتظاهرين الذين امتلأت بهم شوارع العاصمة المثلثة وسقوط عشرات الجرحي والقتلي، ولم يكن من حل اخر امام احزاب الوطنى الاتحادى والامه والاخوان المسلمون والشيوعيون الا ان يجتمعوا ويتفقوا علي رأي واحد لانقاذ البلاد من كارثة حكم عبود، وفي يوم الاحد ٢٥/ اكتوبر ١٩٦٤، اجتمع رؤساء هذه الاحزاب ومعهم صفوة من مشاهير الكتاب والصحفيين واساتذة جامعة الخرطوم، واجازوا القرار الصادر من المحكمه العليا ب” الاضراب السياسى” و”العصيان المدنى”، وتواصلت المظاهرات بمشاركه الجميع وبدات البيانات المؤيده تترى من العاملين فى كل الوزارات والمصالح.
(ب)-
وفى نفس اليوم (٢٠/ اكتوبر ١٩٦٤) اعلن وزير الداخليه/ محمد احمد عروة حظر التجوال، مهدداً باطلاق النار على من يخالف الاوامر، سخر المواطنون من الحظر ولم يلتزموا به .
(ج)-
فى يوم الاثنين 26 اكتوبر ظهر انقسام واضح لم يخفي عن الاعين داخل القوات المسلحه قاده بعض الضباط الذين اعلنو انحيازهم للثوره، وكان فى مقدمه هؤلاء العميد/ الباقر والعميد/ مزمل غندور واخرين .
(د)-
لم تتوقف المظاهرات في الشوارع ثلاثة ايام بلياليها، بل زادت اكثر ضراوة وحدة بعد وصول حشود من مدني وعطبرة وكسلا، ومما زاد من حرج السلطة الحاكمة، ان مستشفي الخرطوم استقبل اكثر من (٤٠) جثة بجانب اكثر من (٤٠٠) مصاب بعضهم بطلقات نارية.
(هـ)-
هناك رواية معروفة تروي عن قصة ظهور شعار”الي القصر حتي النصر” لاول مرة، ان احدي الممرضات العاملات في مستشفي الخرطوم  بينما هي منهمكة في معالجة جرحي من اصيبوا برصاص الشرطة في مظاهرات اكتوبر ١٩٦٤، وقعت عيناها علي جثة شقيقها مسجاة علي “كنبة”، فهتفت وهي تغادر المستشفي الي “القصر حتي النصر”.
٢-
(أ)-
استمرت المظاهرات الهادرة تملأ  كل شوارع مديرية الخرطوم وباقي مدن السودان شارك فيها كل القطاعات الشعبية، وفي يوم الأربعاء ٢٨ اكتوبر١٩٦٤تحركت الجماهير من أمام نادي أساتذة جامعة الخرطوم بشارع الجامعة واتجهت قاصدة  القصر الجمهوري للمطالبة بتنحي الجنرال ابراهيم عبود وحاشيته من العسكر وهم يهتفون قائلين:(الي القصر حتي النصر).
(ب)-
وصلت المظاهرة الهادرة الي الجهة الجنوبية من القصر، وتدافعت الجماهير الثائرة بقوة بهدف الدخول الجمهوري حيث كان هناك اجتماع الفريق/ عبود مع اعضاء المجلس العسكري، ولما اصبحت المسافة جد قليلة لا تتعدي ال(١٠٠) متر ما بين المتظاهرين وضباط وجنود الجيش المرابطون في مقدمة سور القصر، عندها اطلق الجنود النار الكثيف علي المتظاهرين، فجرح أعداد كبيرة من المواطنين وتوفي عدد من الشباب المشاركين في مقدمة المظاهرة فسقطوا في ما يسمي اليوم ب “ساحة القصر” حيث التقاء شارع القصر مع شارع الجامعة، وتم نقل للجرحي الي قسم حوادث مستشفي الخرطوم فيما نقلت جثامين الموتي الي مشرحة المستشفي.
(ج)-
هذه الحادثة هي التي قصمت ظهر المجلس العسكري، وبدأت اولي علامات الانشقاق بين عبود واعضاء مجلسه ، ويقال عن عبود وقتها ، انه واثناء اجتماعه مع القادة العسكرين واعضاء حكومته في القصر، سمع اصوات المتظاهرين وهي تهتف ضده، فتوجه الي النافذة ورآي الآلوف التي تطالبه بالتنحي، فسال: “ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺩﻱ ﻣﺎﻻ؟!!”،.. ﻓﻜﺎﻥ ﺍﻟﺮﺩ ﺑﺄﻧﻬﻢ “ﻣﺎ ﺩﺍﻳﺮﻳﻦ ﺣﻜﻮﻣﺘﻚ ﺃﻭ ﺭﺋﺎﺳﺘﻚ”!!، ﻓﺮﺩ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻔﻮﺭ ﻭﺑﻨﻔﺲ الطيبة المعروف بها: طيب وين المشكلة؟!!ﻣﺎ ﺩﺍﻡ ﻣﺎ ﺩﺍﻳﺮﻧﻨﺎ..ﺍﻧﺤﻨﺎ ﻗﺎﻋﺪﻳﻦ ﻟﺸﻨﻮ ﻭﺍﻧﺤﻨﺎ ﺟﻴﻨﺎ ﻋﺸﺎﻧﻢ؟!!”.
٣-
واعلن عبود في يوم ٣٠/اكتوبر ١٩٦٤عن تنحيه التام من السلطة، وحل المجلس العسكري العالي، وحل الحكومة، وتسليم السلطة ل”جبهة الهيئات ” الممثل الشرعي للشعب.
٤-
ما وقع في يوم ٢٨/ اكتوبر ١٩٦٤، تعتبر بكل المقاييس اول مجزرة ارتكبها الجيش السوداني في شمال السودان في فترة ما بعد الاستقلال، فلم نسمع منذ تاسيسه عام ١٩٢٥، ان قام بارتكاب مجزرة او تصفية مواطنين في الخرطوم او باقي المدن الكبيرة في السودان باستثناء مناطق جنوب البلاد التي تعترضت لمجازر لم تتوقف حتي بعد اتفاقية السلام عام ٢٠٠٥!!
٥-
والغريب في امر المجزرة التي وقعت في “ساحة الشهداء” يوم ٢٨/ اكتوبر ١٩٦٤، ان لا احد من المواطنين، او المسؤولين الكبار (القدامي والجدد)، والقادة العسكريين يعرف علي وجه الدقة عدد   الذين قتلوا في هذا اليوم؟!!، ولا توجد احصائية دقيقة باعدادهم والجرحي!!
٦-
بعد نجاح ثورة اكتوبر، تضاربت ارقام الصحف المحلية حول عدد الذين اغتيلوا في ساحة القصر، فكان هناك الرقم (٢٠٠) قتيل!!، جريدة “الايام” افادت ب(١٧٠) شهيد!!
٧-
الشيء الملفت للنظر في موضوع  شهداء” يوم ٢٨/ اكتوبر ١٩٦٤، اننا نعرف الكثير عن هذا اليوم، ونعرف مئات المجازر التي وقعت في الفترة من عام ١٩٥٥وحتي المذبحة الاخيرة التي وقعت قبل ثلاثة ايام مضت (٢٣/اكتوبر ٢٠٢٠) بين الفلاتة والمساليت، في منطقة “قريضة” راح ضحيتها عدد من الأرواح وحرق منازل وممتلكات النازحين بمعسكر أم عسل للنازحين ، ومنازل المواطنين بقرية الدكة ومنطقة أبيض، ونعرف مجازر دارفور، وبورتسودان، وكجبار، ومعسكرات “كلمة” و”زمزم” ، و”تابت”…ولكننا لا نعرف اسم مجزرة واحدة وقعت في الجنوب، رغم ان الضحايا هناك فاق عددهم (٢) مليون قتيل!!
٨-
واخيرآ، ما كان يمكن لهذه المجازر المروعة ان تقع، وكان يمكن للجيش ان يبقي بعيدآ لا يتدخل في الشآن السياسي الذي تورط فيه، وكان يمكن ان يكون من احسن واروع جيوش المنطقة، جيش وطني بحق وحقيق خالي من الاثم والعدوان والطغيان، ولكن بمجرد ان عمل بنصيحة حزب الامة عام ١٩٥٨، وقام بحماية نظام الانقاذ ثلاثين عام ضاعت فيها ارواح لا تحصي ولا تعد…اصبح جيش صعب ان يعود الي سيرته الاولي ايام الانضباط والولاء للوطن.
٩-
قوة دفاع السودان
(أ)-
المعارك بين قوة دفاع السودان و الجيش الإيطالي كسلا 1940
https://www.youtube.com/watch?v=6vbDo2SAjjc
(ب)-
للمرة الأولى | ما هو الدور الذي قامت به قوة دفاع السودان في الحرب العالمية الثانية؟!!
https://www.youtube.com/watch?v=Oe7KMEWf8P4
(ج)-
ائمة الشرف لشهداء ثورة اكتوبر ١٩٦٤…
https://ko-kr.facebook.com/ssuuddaannee/posts/2058479414195084/

بكري الصائغ
[email protected]

منطقة المرفقات
معاينة فيديو YouTube المعارك بين قوة دفاع السودان و الجيش الإيطالي كسلا 1940

 

‫2 تعليقات

  1. تاريخ، وحقائق قيِّمة ومفيدة، وتنطوي علي عِبَر لمن يعتبر !!!!!

    بس إسم أول شهيد في ثورة أكتوبر المجيدة، هو “أحمد القرشي طه”، من بلدة القَرَّاصة علي
    النيل الأبيض، وليس طه القرشي، صديقنا الذي “زرناه” عندما كان مريضاً بالمستشفي !!!!!!!!!!

    لك الود والتحية !!!!!

  2. من المجاذر فى شمال السودان حادثة عنبر جودة وما سبقها من احداث وايضاً حملة طرد الامبررو الذين تمت مطاردتهم ورمت ابقارهم بالرصاص وكل ذلك فى عهد حكومة ازهرى الاولى

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..