حُلم افريقيا (أفروتوبيا)i فيلوين سارii

تقديم وعرض فادية فضة و د. حامد فضل الله \ برلين
يقع كتاب فيلوين سار، أستاذ الاقتصاد والمؤلف والموسيقي السنغالي الصادر في برلين من القطع المتوسط، في اثني عشرة فصلاً، استحوذ على 175 صفحة. عناوين الفصول حسب الترتيب:
فكري يا افريقيا. ضد التيار. شعار الحداثة. المسألة الاقتصادية. علاج الذات، تسمية الذات. ستتحلى الثورة بالذكاء. السكن في المنزل الخاص. الابحار .الوهم الافريقي. تشكيل الممكن: مدن افريقية. هذا هو التقدم الحقيقي: أن يجد المرء وقتاً لنفسه. دروس حمرة الفجر. كما توجد بجانب عناوين الفصول، هناك العديد من العناوين الفرعية في المتن. سنقوم هنا بتقديم عرض مكثف للكتاب.
يقول الكاتب في التوطئة “إن التفكير في القارة الإفريقية بأسرها مهمة صعبة، فالمرء يتعامل مع الأوضاع المعقدة، والكليشيهات، والشكوك الزائفة مثل الضباب، التي تتجاوز الواقع. لقد تم الوصف المتشائم لأفريقيا منذ عام 1960 ومنذ بزوغ الاستقلال، بلا توقف، على أنها القارة التي بدأت بداية خاطئة ومنذ ذلك الحين جاءت التنبؤات عن مستقبل إفريقيا قاتمة، تتبع بعضها بعضًا مع الصدمات والأزمات التي اجتاحت القارة“. ويرى إن خطاب اليوم حول إفريقيا تهيمن عليه وجهتي نظر مزدوجة:
الإيمان بمستقبل مشرق من ناحية، والفزع والخوف، بالنظر لوجود الفوضى حاليا، من ناحية أخرى.
ويواصل في فقرة أخرى “أن الكلمات الأساسية مثل “التنمية“، “الانطلاقة الاقتصادية“، “النمو“، وفي بعض الحالات، “مكافحة الفقر“، هي المفاهيم الأساس لعصر المعرفة السائد. ويرجع هذا أولاً وقبل كل شيء إلى الحُلم الذي كان الغرب يصدره في جميع أنحاء العالم منذ القرن الخامس عشر، بفضل تفوقه التقني الخاص، وإذا لزم الأمر، باستخدام النبوت والمدفع. لكنه فاز في معركة حاسمة قبل كل شيء من خلال زرع فكرته عن التقدم البشري في التخيل الجماعي للآخرين. لذلك يستوجب طرد الاستعمار من هذا المكان، لإفساح المجال لإمكانيات أخرى.
عندما يتحدث فيلوين سار عن “النمو“، يكرر تقريباً ما جاء في السطور السابقة، بقوله: الازدهار والتقدم والإيمان والمساواة هي المفاهيم الأساسية لعلم الكونيات الغربي، والتي تشكل وتفسر واقعها و تصدرها إلى الشعوب الأخرى من خلال أسطورة “التنمية“.
إضافةً إلى ذلك، “تم تشجيع الأفارقة على إعادة إنتاج نموذج مُجهزْ مسبقًا للمجتمع، لا يوجد فيه مكان لثقافتهم المحلية أو يُقيمْ بصورة سالبة. ولقد تم بذلك تجاهل الحقيقة، بأن التنمية الغربية كانت اقتصادية و كانت قبل كل شيء مشروعاً ثقافياً نشأ في كون معين. لقد أدى انتقال الأسطورة الغربية للتقدم إلى تدمير الشخصية الأساسية للفئات الاجتماعية الأفريقية، وكذلك شبكات التضامن القائمة وسياق معانيها. وأدى ذلك، خاصة إلى إدراج السكان في نظام قيم لا يخصهم“.
“من ناحية، أصبحت هذه الأسطورة البيئية مهيمنة من حيث أنها عرضت المفاهيم الغربية عن أغراض المغامرة الاجتماعية في أفريقيا، ومن ناحية أخرى كانت تميل دائمًا إلى إدراج نفسها في جميع الممارسات الاجتماعية. لكن أصبح اليوم من الضروري بالنسبة لغالبية الدول الإفريقية أن تطور مشروعاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً قائماً على ثقافتها الاجتماعية الخاصة بها ويخرج من عالمها الأسطوري، وبعدها الخاص بها. هذا يثير مسألة الجدلية الخاصة والعامة في المجال الاقتصادي والاجتماعي. إن تلبية الاحتياجات الأساسية للفئة الاجتماعية عن طريق مفهوم مناسب هو مهمة عامة مشتركة بين جميع المجتمعات. إن الإجراءات العملية، وإجراءات تحديد الاحتياجات وتسلسلها الهرمي، من أجل إنشاء مقياس قيمة، هي عديدة ومختلفة مثل المجتمعات نفسها“.
يتعلق الأمر، بالانتقال إلى تطوير نقد فلسفي وأخلاقي وسياسي للأيديولوجية التنموية. أن التنمية على الطريقة الغربية هي شكل ظهر تاريخيا بهدف تلبية احتياجات المجتمعات الغربية. وكذلك التحرر من حكم العقل الأدائي عن طريق التوقف عن إطاعة إملاءات النظام الاقتصادي السائد (التنمية، والانطلاقة الاقتصادية، والاقتصاد، والنمو غير المحدود، والاستهلاك الشامل). إن أزمة الاقتصاد العالمي التي نعيشها اليوم تعبر عن حدود هذا النظام من خلال مظاهره المختلفة.
يجب التأكيد على أن هذه الأزمة ذات طبيعة أخلاقية وفلسفية وروحية. إنها أزمة الحضارة المادية والتقنية التي فقدت كل الإحساس بالأولويات. النقطة المهمة هي الخروج من قبضة النموذج العقلاني والميكانيكي الذي غزا العالم، والذي يعتبر نفسه كأنه سيد ومالك الطبيعة.
ويواصل، القارة الأفريقية متنوعة. من الجزائر إلى رأس الرجاء الصالح، وتقدم نفسها باعتبارها بوتقة تنصهر فيها الثقافات والشعوب والتاريخ والجغرافيا والأشكال الاجتماعية والسياسية. ولكن على الرغم من هذا التنوع، الذي هو جزء من الثروة الأفريقية، فإن دول القارة تشترك في نفس المصير. إنهم يواجهون نفس التحديات التاريخية، ولهم نفس التاريخ الحديث، وقبل كل شيء، إنهم متحدون في مشروع إفريقيا. وكذلك يتعلق الأمر بمشكلة الاختلالات والمشكلات الاجتماعية والسياسية الأساسية التي تحتاج الى معالجة كافية. وتتطلب مقاربة جديدة للاقتصاد تتصف بالكرامة الإنسانية. ولذلك يجب، أن يصبح الاقتصاد مزيجًا من الموارد التي تخدم الأغراض الاجتماعية وتلبي الاحتياجات المادية والروحية، وإعادة تحديد العلاقات بين مختلف المستويات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وتأسيس سياقات ذات معنى ومقياس قيمة جديد، يعتمد على الثقافات والأساطير الخصبة لأفريقيا. إنه يتعلق ببناء مجتمعات لها معنى بالنسبة للأشخاص الذين يعيشون فيه. “الابحار ضد التيار“.
يبدأ فصل “المسألة الاقتصادية“، بمدخل: “إن الطريقة التي يتم فيها الحديث أو التفاوض حول مسألة الاقتصاد الأفريقي، هي ظاهرة للنموذج العام للخطابات حول القارة. لقد تم معالجة المسألة الاقتصادية بشكل أساسي في وضعها في أطار المقارنة، وخاصة من خلال إظهار الانحرافات. لطالما أدت مسألة محددات النمو الاقتصادي في البلدان الأفريقية إلى دراسة الأسباب وراء عدم حدوث هذا النمو والذي ما زال بعيداً عن مستوى ما يسمى بالبلدان المتقدمة. والخصوصية الثانية لهذه الخطابات هي ميلها إلى التحليل على المدى القصير أو إلى التفكير الذي يركز دائمًا فقط على قمة الموجة، وليس على الموجة بأكملها. لا يتم تتبع وعرض التاريخ الاقتصادي للقارة الأفريقية أبدًا إلى ما هو أبعد من فترة نضال الاستقلال في عام 1960، وفي بعض الأحيان إلى فترة الاستعمار، كحد أقصى للأفق الزمني، حيث يختفي كل شيء في الضباب، مثل تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي. لا بد من تجاوز تلك اللحظات التاريخية المحددة. أن رؤية أطول لتاريخ القارة الإفريقية سوف تظهر مساراً معقداً للتنمية وتسمح باستبدال ما يسمى بالحقائق المنمقة، بإطار زمني أكثر شمولاً“. ويتعرض في هذا الفصل الى الجغرافيا والزراعة والديموغرافيا.
فالجغرافيا هي أحد المحددات المهمة للاقتصاد، والتي تؤثر على نوع الزراعة التي يتم متابعتها، وما هي الموارد الطبيعية والموارد المعدنية المتاحة، ولكنها تحدد أيضًا مكانة البيئة، وأنماط تداول الأشخاص والسلع، والمتقدمة ذاتيًا أو من التقنيات الأخرى المكتسبة. ومع ذلك، فإن هذا ليس حتمية مطلقة، وقد تمكن الناس من تحقيق أقصى استفادة من الظروف الجغرافية غير المواتية.
تبلغ مساحة إفريقيا 30 مليون كيلومتر مربع وتضم 54 دولة. وستكون القارة أكثر قارات العالم اكتظاظا بالسكان في نصف قرن، حيث يبلغ عدد سكانها 2.2 مليار نسمة، وموطن ربع سكان العالم. تمتلك إفريقيا ربع مساحة الأرض العالمية، و 60 في المائة من الأراضي غير المستخدمة وثلث الثروة المعدنية في العالم. إنها مليئة بالمواد الخام. والذي يستخدم عُشره فقط. التحضر يتزايد حيث يعيش في الوقت الحالي، حوالي 45 في المائة من السكان في المدن، على عكس أوائل القرن العشرين، عندما كان 95 في المائة من السكان من سكان الريف. لقد تجاوز النمو الاقتصادي في أفريقيا خمسة في المائة منذ عام 2000. وتمثل أفريقيا تمثيلا جيدا في مجموعة البلدان التي شهدت أقوى نمو اقتصادي في العالم بين عامي 2008 و 2013 (سيراليون: 9.4 في المائة ، رواندا: 8.4 في المائة ؛ اثيوبيا: 8.4٪ ، غانا: 8.11٪ ، موزمبيق: 7.25٪).
ويكتب بإسهاب عن الاقتصاد الافريقي، بقوله “ يتحدد الأداء الاقتصادي للدول بتأثيرات مختلفة، بالإضافة إلى تكوين العوامل الاقتصادية، والظروف الجغرافية، وأداء الناس والتكنولوجيا، والتاريخ. ويتشكل الأداء الاقتصادي للدول الأفريقية على سبيل المثال، جزئيًا من خلال الظروف التي تركها الاستعمار بعد الاستقلال، أكثر مما يتعلق بالتاريخ الاقتصادي الحديث للقارة، فإن هذه الشروط تتركز أساساً في تحلل الهياكل الاقتصادية (على وجه الخصوص، أنماط الإنتاج السابقة)، والاعتماد على المدينة، وإدخال اقتصاد قائم على التجارة وخصم الموارد. إن ضعف هيكل الاقتصادات المعتمدة والأقل تنوعاً والقائم على السلع يجعلها عرضة للتقلبات في أسعار السلع الأساسية.
السبب الثاني لضعف الأداء الاقتصادي للبلدان الأفريقية يكمن في السياسات الاقتصادية السيئة التي يتبعها قادة الدول المستقلة حديثا. اتخذ هؤلاء الزعماء قرارات غير مواتية في الغالب في القطاع الاقتصادي. وبالإضافة إلى ذلك، فإن علاقات الهيمنة كانت ضارة بالدول المستقلة حديثا وما زالت كذلك حتى اليوم، سواء في المنافسة الدولية (قواعد التجارة الدولية) وفي السياسة الاقتصادية وخياراتها الاستراتيجية (الافتقار إلى القرار الذاتي، وبرامج التكيف الهيكلي … باختصار، خلقت علاقة من الديناميات الداخلية والخارجية أقل ملاءمة للناتج الاقتصادي وبأقل كثيراً من الإمكانات الاقتصادية للقارة). ويطالب في نفس الوقت على أن تتحمل افريقيا مسؤوليتها وإخفاقاتها التي تنجم عن سوء الاِدارة منذ الاستقلال، والتوقف عن استدعاء الماضي (تجارة الرقيق والاستعمار) وإلقاء اللوم على الأخرين لتبرير الفشل.
لقد فشل معظم القادة المسؤولين منذ الاستقلال عن إدارة الموارد والمؤسسات باتخاذهم قرارات اقتصادية وسياسية سيئة ونهب الثروات لصالح عشيرتهم. ويستمر نهب هذه الموارد اليوم ايضاً عن طريق عقود غير متوازنة لاستغلال المواد الخام والتبادل غير المتكافئ وتدفقات رأس المال غير القانونية.
ويضيف لهذه النقطة: “من الصعب تحقيق المرونة الاقتصادية. إنها تتطلب القطيعة مع نماذج الإنتاج والتراكم في الحقبة الاستعمارية. تقوم غالبية اقتصاديات القارة اليوم على تصدير النفط أو المعادن. ويعتمد النمو الاقتصادي في إفريقيا إلى حد كبير على الصناعات الاستخراجية (المواد الخام) والخدمات. والتي لا تجلب الا ارباحا ضئيلة من العملات الأجنبية، من المهم وضع حد لهذه الاقتصاديات المحصورة. فهي لا تحدث تطوراً شاملاً للبلاد، وتتسبب في عين الوقت بخلق مشاكل بيئية واجتماعية، وتغذي الفساد“.
كما يكتب عن الثقافة والتأثير المتبادل بينها وبين الاقتصاد، كقوتين محددتين للعمل الفردي والجماعي.
الاقتصاد كنظام موجه نحو التوزيع الأمثل للموارد. وكموضوع، أصبح أيضًا مجالًا يتم فيه النظر في نظرية العمل الإنساني وأسسه. وكما يُعرّف علماء الأنثروبولوجيا الثقافة، بأنها مجموعة من الممارسات والقيم، وكذلك تلك الخصائص المادية والروحية المحددة التي تميز مجموعة اجتماعية محددة. ويمكن بالتالي تحقيق مزيج مثمر من الاقتصاد والثقافة من خلال ترسيخ الاقتصادات الأفريقية بشكل أفضل في القيم الديناميكية لثقافاتها الاجتماعية.
كما يكتب في فصل” ستتحلى الثورة بالذكاء“، أن الدول الاِفريقية تعيش على المحك وتحتاج الى ثورة ثقافية واقتصادية وديموغرافية وسياسية، ثورة نموذجا وممارسة. وتعد قضية التعليم وتعزيز رأس المال البشري ذات أهمية مركزية. مع الطفرة الزراعية والثورة الصناعية، تأتي الثورة الثالثة وهي مجتمع المعلومات الرقمي القائم على المعرفة والابتكار، والذي تسارع نشره من خلال تقنيات المعلومات والاتصالات (الإنترنت وغيرها). لقد أصبحت مساهمة رأس المال غير المادي في ازدهار الأمم مهمة للغاية لدرجة أنه يمكن التحدث بالفعل عن اقتصاديات المعرفة. ويواصل مشيراً الى تحسن معدل الالتحاق بالمدارس والى واقع الجامعات الأفريقية. لقد تم إنشاء هذه الجامعات (في داكار، ماكيريري، نيروبي) من الإدارة الاستعمارية. إنها ليست نتيجة إرادة الدول الإفريقية المستقلة من أجل اكتساب الوسائل لحل مشاكلها الاجتماعية، التي عانت من تغييرات هيكلية عميقة، على الرغم من العدد المتزايد للأساتذة الأفارقة الذين يتولون تلك المناصب هناك. علاوة على ذلك، تقوم المناهج الدراسية على غرار منهج الجامعات الغربية، وعدم وضع الأسس لجامعة أفريقية جديدة وتكييف البحوث التي تلبي احتياجات المجتمعات الأفريقية.
في فقرة “المطالبة بالكرامة“، يتعرض سار للشباب الأفارقة الذين يستخدمون الشبكات الاجتماعية والمدونات والتويتر، والاغاني والموسيقى، كحلقات اتصال يعبرون من خلالها عن آرائهم ويصيغون فيها انتقادات لاذعة للأنظمة القائمة، ويدعون لإحداث ثورة في الممارسات والعقليات في القارة، ويتابعون مجرى الأحداث العالمية ويتمردون على رمزية القمة الفرنسية الافريقية وتلك المؤتمرات التي يدعى اليها القادة الأفارقة الحاليون، حيث يصطفون في قصر الاليزيه مثل تلاميذ الصف الأول، وهو تعبير عن انعدام السيادة الوطنية وعدم المطالبة بالاستقلال السياسي والأمني والاقتصادي وفقدان الكرامة، ويشعرون بانهم لا يمثلونهم، مقارنة بالقادة السابقين العظام: مثل مانديلا، لوممبا، سنكارا ونكروما، فهم في نظرهم ابطالا لما تمتعوا به من وطنية واحترام الذات واستقلالية القرار. ويشيرون الى رمزية مانديلا: وبخلاف انتصاره على الفصل العنصري، فقد تمكن من تنفيذ رؤية سياسية تغذيها الموارد الثقافية والفلسفية للتقاليد الأفريقية، ومتخذاً مبدأ فلسفة أوبونتوiii*: “أنا لأننا نحن” أو بتعبير أخر “أنا أكون لأننا نكون” ، الذي يأخذ الطبيعة الاجتماعية للفرد إلى نقطة البداية، مع إعطاء الأولوية للصالح العام واحترام إنسانية الآخر، مما أدى هذا، بعد التحرير إلى نبذ الانتقام من جانب السكان السود الذين تعرضوا للتمييز في نظام الفصل العنصري، وذهب مانديلا الى ابعد من ذلك، عندما طالب بعدم معاقبة الذين ارتكبوا جرائم ضد الاِنسانية، التي ارتكبت خلال الفصل العنصري، والتي لا تنطبق عليها قانون التقادم. تأتي هذه الرؤية السامية للسياسة، من الأفكار الفلسفية التي قدمها مانديلا أثناء سجنه، على الرغم من أنها تعود إلى مصادر متعددة ، إلا أن فلسفة أوبونتو تظل أهم جذورها.
في فصل “شعار الحداثة“ يتعرض فيلوين سار للمفهوم المتداول للحداثة كما ويتطرق الى أزمتها، ناقلاً اعلان مفكري الغرب عن أزمة الحداثة الغربية الناجمة عن العقل الفعال، الذي جعل الإنسان عبداً للقيود الاجتماعية الناتجة عن هذا العقل. فعلى الرغم من الحقوق الهامة التي تم اكتسابها في سياقها، لكن يبدو أن أهم إنجازاتها في مجالات العلوم والتكنولوجيا، وليس الأخلاق والسياسة. ويعرج على تجلياتها في أوروبا الغربية من تفكك أهم النقاط المرجعية الثقافية، وهو ما جعل بالتالي افتقار تصرفات الأفراد الآن إلى نظام مشترك يمكن أن يعطيهم معنى. والتحول الحالي لمرحلة الحداثة المفرطة، التي تتجلى في زيادة الاشكال الفائضة، وأولوية الحاضر والانطباعات المباشرة مما يساهم في خلق نوع من إنسان اللحظة، وهشاشة شديدة للفرد في الغرب (الاكتئاب والانتحار).
أما في القسم التالي، الذي عنونه “طريقة جديدة للتفكير في التقاليد“، انتقد رؤية العديد من المنظرين الغربيين الذين اعتبروا تعارض التقاليد مع الحداثة في السياق الأفريقي اي بمعنى تناقضها مع النظام المعرفي الأفريقي. وقد رأى ان “المكتبة الاستعمارية” وضعت التقاليد الأفريقية في أدراج وموضعيتها في زمن جامد خارج المسار التاريخي والتقدم وهو ما يجعل امكانية ابتكار أو اكتشاف أو تخصيص حداثة أفريقية، ليس إلا فصل مؤلم عن القديم ونفيه، إضافة الى إنكار قدرته على الاستمرار في إدارة العمل الاجتماعي المعاصر. بمعنى ستكون الحداثة هي لباس الحاضر، المصممة في مكان آخر. وقد ناهض هذه الرؤية، وفي سياق تبيانها وقام بتقديم رؤى مفكرين افارقة للتقاليد، باعتبارها مكانًا تتشكل فيه القيم الروحية الأساسية التي تعطي معنى للحياة. وفيها تجد ديناميات التجسد الأفريقي مرسى لها. في ذات الوقت اشار الى القيم التقليدية وقدرتها على أن توفر إمكانات لمشاهد الحياة الحالية، من أجل علاقات اجتماعية سياسية ملموسة، التي يتم فيها إعادة تطبيق الطاقات التي أطلقتها الثقافة، إذ للحداثة مهمة خلق انسان أفريقي جديد. لافتا الى انه في سياق العصر الحديث المضلل تقتصر نجاحات الحداثة على مجال العلوم والتكنولوجيا، وهي التي أدت في إفريقيا إلى عدم المساواة والحرمان والاهمال. ومطالبته بتحرير الأفريقي لنفسه من كل شيء، سواء كان حديثًا أو تقليديًا، مما يهين الإنسان، ويمحو قوته وإبداعه، ويسلم جلده و شعره إلى الهياكل الوحشية لنظام اقتصادي عالمي لا يرحم. وتوقف أمام مقولة تقول بان إفريقيا ليست معنية برفض الدروس المستفيدة من تجربة الآخرين في الحداثة الاقتصادية والتقنية والسياسية، مع أهمية أدراك المستويات المختلفة لنقاط الاتصال التي لا غنى عنها، وكذلك حدود تلك القيم التي ينبغي أن تقبلها أفريقيا كعوامل إيجابية لإثرائها. لكن فيلوين سار يعيب في كل هذه التحليلات، شيوع فكرة أنه لا يزال يتعين اختراع الحداثة، ويجب أن تُفهم على أنها عملية زرع لكل ما يمكن الحصول عليه من خلال دمج تأسيسي انتقائي للممارسات والمؤسسات الأجنبية الأصل.
ويعالج في فقرة أخرى، رؤية عدد من منظري الحداثة البديلة، التي تنطلق من ان مشروع الحداثة، الاجتماعية والتاريخية والثقافية، كانت بدايتها في الغرب، لكن وبسبب التجارة وتدفقات الهجرة وحقيقة الاستعمار، امتدت، ولذلك لم يعد الغرب الآن هو الناقل الوحيد لهذا المشروع. ومقترحهم تركز على إعادة صياغة الحداثة مع الإصرار على تنوع مظاهرها فضلا عن مواقعها بعيداً عن قلب الغرب. كما يشير الى الرأي الذي يفترض نظريًا وجود حداثة مختلفة، ولا يمنح الغرب وحده حق صياغة مفهوم الحداثة، وينزع عن الغرب حق المطالبة الحصرية بالعالمية، وبان الحضارات الإفريقية السوداء والإسلامية والهندوسية واليهودية ستجسد جميعها مشروع العالمية القائمة على العقل.
اما في الجزء المتعلق بإعادة التجديد الذاتي للذات يرى فيلوين سار أن المجتمعات الإفريقية الحالية تعاني من أزمة تتعلق بقدرة الممارسات التقليدية على تنظيم الحياة الاجتماعية. مع ثبوت ان الأشكال القديمة لم تعد عملية، والانتقال إلى الجديد بطيء. لهذا فهذه المجتمعات مدعوة لإعادة تجديد نفسها من أجل مواجهة التحديات الاقتصادية والثقافية والسياسية والاجتماعية التي تواجهها. فالإنسان الأفريقي اليوم ممزق بين تقليد لم يعد يعرفه وبين حداثة هاجمته من الخارج مثل قوة مدمرة لا إنسانية. بالإضافة إلى ذلك، فقد فتنت الحداثة الغربية الشعوب الافريقية وصدتها في نفس الوقت. ما جعل الانسان الأفريقي يتخبط بين ثقافتين، وشعوره بأنه قد تم إلقاؤه بكليته على نظام عالمي يهز مصيره. وهنا يرى فيلوين سار بأنه يتوجب على الانسان الافريقي إعادة ابتكار هذا المصير ورفعه إلى المستوى المناسب للمهمة التي اختارها هو لنفسه بنفسه. عليه أن يخلق عالماً حقيقياً له، لأن عليه ان يتوافق مع إعادة اكتشافه وإعادة تجديده لذاته.
اسهب