الإعلام المرئي يدخل دائرة الشك: الفضائيات من شريك متضامن في الثورة إلى متهم بالتحريض

كمال القاضي:
أدى التصاعد في الأحداث والانقسام في الشارع السياسي المصري ما بين ثوار التحرير الرافضين للمجلس العسكري ومتظاهري العباسية المؤيدين لحكم المجلس الراغبين في الاستقرار، إلى تحول أنظار الملايين تجاه الفضائيات الخاصة واتهامها بصراحة مطلقة بإثارة الفتنة والوقيعة بين الطرفين.
بما يؤثر على العملية السياسية وينحرف بها الى الهاوية، حيث هناك من يعتبر برامج ‘التوك شو’ خطراً داهماً يهدد الوطن ويزيد من حالات الاحتقان لكونها تنصب يومياً وعلى مدار الـ24 ساعة سيرك الكلام وتفسح المجال أمام الساسة والمثقفين وأصحاب الرأي لتبادل الاتهامات والتراشق بالألفاظ فتؤجج المشاعر وتلهب القلوب وتضرم النيران في الميادين الثائرة كلما قاربت على الخمود.
ولعل أكثر المحطات الفضائية التي هوجمت من جانب نسبة كبيرة من الجمهور قناة ‘الفراعين’، لكونها توجه خطاباً مباشراً يحمل في مضمونه هجوماً شرساً على ثوار التحرير، خاصة ما يعنى بتقديمه صاحب القناة توفيق عكاشة الذي يعمم الاتهام بالعمالة والتحرك وفق أجندات خارجية، وفيما يستفز خطاب الفراعين ثوار التحرير يثلج في نفس الوقت صدور متظاهري العباسية الذين يجدون في هذا الكلام دعماً لموقفهم وذيوعاً لشعارهم، ‘الشعب والجيش إيد واحدة’، بيد أن بعض القنوات الرسمية بالتلفزيون المصري تمسك بالعصا من المنتصف، فتقف على الحياد في أوقات غير قليلة إعمالاً بمبدأ الديمقراطية الذي غاب عن ماسبيرو طوال ثلاثين عاماً الماضية، تعاقب خلالها نحو ثلاثة وزراء إعلام، كان أبرزهم صفوت الشريف الذي أسس المنظومة الفضائية بإطلاقة الأقمار الصناعية بالشراكة المصرية الفرنسية ووضع ثلاثة محظورات أساسية لم يلتزم بها أحد، الدين والجنس والسياسة، حيث كان الهدف تقنين حرية التعبير وتحويل الخدمة الفضائية إلى أدوات للتسلية بعيدا عن الشأن العام والمشاركة الفعلية في القرار السياسي، ولتحقيق ذلك شجع الشريف الأنشطة الفنية وجعل ‘الفيديو كليب’ والأغاني ركناً رئيسياً في كل فضائية إمعانا في إلهاء الجماهير عن كل جاد ومفيد، ولكن انقلب السحر على الساحر، إذ تحولت الفضائيات الخاصة الى قنابل موقوتة انفجرت أول ما انفجرت في وجهه، فقد أشعلت الثورة وأطاحت بحزبه ودولته وأودعته سجن طرة.
تلك القنوات هي نفسها المتهمة الآن بالإثارة والتحريض، بما فيها بعض القنوات الرسمية كالقناة الأولى التي كانت متهمة في أحداث ماسبيرو الماضية، قبل أن تخلق قناة النيل للأخبار وهي قناة مصر الرسمية أيضاً التوازن المطلوب وتنفي عن التلفزيون شبهة الطائفية وتنقل تهماً أخرى لقنوات مثل on tv، ودريم والمحور و25 يناير وغيرها لفاعليتها الشديدة وقدرة مراسليها على الاقتحام والحصول على الخبر وتغطية الأحداث فور وقوعها، المفارقة هنا أن الاتهامات التي باتت موجهة للإعلام صارت مزدوجة، فلم تعد فقط مقصورة على الأجهزة الحكومية كما كان في السابق باعتبارها تحض على العصيان وتتسبب في تكدير الأمن العام، وإنما وقعت فريسة للجماهير الغاضبة التي تستنكر بعض ممارساتها، خاصة الذين يطلق عليهم حزب الكنبة أو يجري تعريفهم بالأغلبية الصامتة وهؤلاء انضم عدد كبير منهم إلى مظاهرات العباسية ليثبتوا حضورهم في دفتر أحوال الوطن بطريقتهم الخاصة ويخرجون عن صمتهم بتأييد المجلس العسكري ويطالبونه بالبقاء في السلطة.
قطاع آخر من القنوات الفضائية يتمثل في الإعلام الخارجي كمحطة الـB.B.C وفرنسا 24 وروسيا اليوم وقناة الجزيرة، والأخيرة على وجه التحديد هي ما يدور حولها جدل واسع، فهناك من يؤيدها ويراها سبباً مباشراً في نجاح الثورات وحلول الربيع العربي، بينما يعتبرها البعض الآخر قناة مأجورة تعمل لحساب ميليشيات وأجهزة تسعى للتخريب، وفي تقديري أن هذا الرأي هو الأضعف لأنه يتسم بالغوغائية ولا يستند لأدلة أو براهين فغايته التشويش على المحطة العربية الأكثر نشاطاً، ولا تنجو بقية الفضائيات المشار إليها كذلك من الاتهامات، فروسيا اليوم تدعم التيار اليساري وتتحامل على تيار الإسلام السياسي والـB.B.C لا تلتزم بالموضوعية وتركز على التجاوزات فقط من جانب الثوار فهي تريد إفشال الثورة المصرية الأم لانها إن نجحت ستبدأ عجلة الديمقراطية في الدوران وتستقر البلاد وهذا غير مطلوب، أما قناة الحرة الأمريكية فبالطبع هي نافذة إعلامية مهمة لأمريكا، الراعي الرسمي لإسرائيل وجزء من دورها يعد تخابرياًَ ومن ثم لا يمكن الثقة بها كقناة محايدة معنية بنقل الأحداث فقط، وهذا الرأي وإن كانت له تبريراته المنطقية لكنه ينطوي على إساءة سياسية متعمدة للمحطة وليس نقداً إعلامياً وما يدل على هذه الحقيقة أن أغلب النخبة من المثقفين والسياسيين والناشطين الحقوقيين يرفضون استضافتهم بها ويمتنعون عن الظهور في أي من برامجها درءا للشبهات.
ما يمكننا استخلاصه من كل الأمثلة التي طرحناها هو دخول جميع الوسائل الإعلامية دائرة الشك منذ انقسام الشارع المصري على نفسه وتصنيفه بين ثوار تحرير يتشددون في موقفهم من المجلس العسكري وآخرين في ميادين أخرى يرغبون في الانتظار حتى إجراء الانتخابات الرئاسية وتسليم المجلس السلطة للشعب وفلول نظام سابق يلعبون في الخفاء ويحركون بأصابعهم الموالين لهم من البلطجية مثل عرائس الماريونيت.
ما يحدث من فوضى وانفلات لا يمكن أن تتحمل مسؤوليته الفضائيات المصرية أو العربية أو الأجنبية، ولا يصح أن نجعل من النوافذ الإعلامية التي حركت الماء الراكد في المجتمع بكل أطيافه وجوانبه ونشاطاته شماعة نعلق عليها أخطاء ثلاثين عاماً من الكبت والقمع والقهر ونستكثر على أنفسنا الفضفضة السياسية والاستمتاع بالاختراع الجديد المسمى ‘بالحرية’ الذي كان للفضائيات الفضل الأكبر في النزول به الى أرض الواقع بعدما كان مجرد خيال يداعب العقول ويخطر سريعاً كالبرق على بال الملايين ثم يختفي كالوميض.
أرجوكم إتركونا نتنفس حريتنا على الهواء مباشرة.
القدس العربي