مقالات سياسية

من وحي الوقفة الإحتجاجية بمدينة سان فرانسيسكو

صلاح حامد هباش

في ذلك الصباح الأغر كان الشرفاء يسترجعون في الذاكرة المرارات التي كابدوها مع نظام الإنقاذ؛ وهم منهمكون في تهيئة أنفسهم للذهاب والمشاركة في الوقفة الإحتجاجية بمدينة سان فرانسيسكو. يسترجعون في الذاكرة صور الصلف والغرور لأولئك الطغاة وهم يوقعون أوراق فصلهم عن العمل ويوجهون إليهم أشكالاً من التهم مصحوبة بالسباب والشتائم البذيئة. ولم يكن هنالك بدٌ من التخلص من تلك القبضة الحديدية ومخرج من ذلك المناخ غير الآمن غير الهجرة. ولذلك تقاطرت الوفود, إلى المكان في الزمان المحدد؛ وفود يملؤها الحماس ويحدو خطاها الغضب وهم يحملون اللافتات الثائرة والتي تطالب برحيل الطغمة الباغية وتستعجل تنحيهم عن كراسي الحكم. كانوا يمثلون كل الفئات العمرية, شيباً وشباباً وأطفالاً. تجمهروا في إحدى الساحات الفسيحة في وسط مدينة سان فرانسسكو وقد رفعوا عاليا تلك الشعارات التي تنبئ عن المظالم والجرائم التي يرتكبها نظام الاسلاميين في حق شعبه ومواطنيه. وما أن إنتظم جمعهم حتى دوت الهتافات قويةً وغاضبة منددة بسياسات نظام الخرطوم الخرقاء ومطالبة له بالرحيل.

ولقد لفت هذا المنظر المارة من الجمهور الأمريكي, فتجاوب أصحاب السيارات مع الثوار بأبواق السيارات فضج المكان بالأصوات المختلفة وعلت الهتافات وازدادت أعداد المتجمهرين وانضم إليهم آخرون رغبة في معرفة الحدث وليتفحصوا عن قرب هذه الوجوه السمراء ذات السحنات والملامح المختلفة, والتي توحدت إرادتها في هذه اللحظات تحت ظل هذه الشعارات والتي تحكي التجارب المريرة لشعب السودان.

إنبرى بعض الناشطين من كبار السن ومن الشباب ليخاطب ذلك الجمع وليؤكد على ضرورة مواصلة النضال ضد نطام القهر والبطش والتجويع حتى ينجلي ليل الظلم ونصليك يا صبح الخلاص حاضر.

ومن أبرز وأهم ما كان في تلك التظاهرة الحاشدة هو حضور أجهزة الإعلام الأمريكية؛ المرئية والمقرؤة. وتفاعل الصحفيون مع المتظاهرين وقاموا بتصوير الحدث وتوثيقه لنقله إلى أجهزة الإعلام. أيضاً ومن الأشياء الهامة جداً ؛ فقد تم تسجيل عدد أربعة فيديوهات؛ كاملة الدسم, تحوي شرحاً وتنويراً عن الجرائم التي يرتكبها النظام في حق شعبه من تقتيل وسفك لدماء الشباب وكل الممارسات الوحشية التي ينتهجها النظام في قمع المتظاهرين؛ وتعضيد تلك المظاهرات بأخرى مماثلة في المنافي البعيدة من مدن العالم في قاراته المختلفة.

إنبرى للحديث في الفيديو الأول مع تلك الكوكبة من الإعلاميين الأستاذ حمدان جمعة ذلك السياسي المعتّق والناشط في حقوق الإنسان, فتحدث ناقداً لنظام الخرطوم وسياسات القهر والتجويع ومصادرة حرياته وحقوقه الأساسية.

ثم إعتلى المنصة الشاب محمد فيصل ليعزف على نفس الوتر وأن النظام قد فتح جبهات لحروب غير مبررة مما إنعكس سلباً على حياة الناس؛ ثم عرّج على الصفوف وندرة السلع الأساسية؛ وهو السبب المباشر في تفجير الثورة. تقدمت بعد ذلك نحو المنبر الأستاذة أعناب عبد الرحيم عبد الحليم بخطى ثابتة وواثقة فسلطت المزيد من الأضواء على سياسات التخبط التي ينتهجها النظام في علاقاته الخارجية الأمر الذي جعله فريسة لأطماع المحاور المختلفة.
واختتم الأستاذ سيف جبريل هذه التسجيلات بفضحه للنظام في تدميره للبنى التحتية والمشاريع الانتاجية مما زاد المواطن فقراً. وخلصت هذه الوقفة الإحتجاجية إلى صياغة مذكرة يتم تسليمها إلى ممثلي منطقة شمال كاليفورنيا في الكونقرس وتسليم صورة من تلك المذكرة إلى الجمعيات المختلفة المهتمة بالدفاع عن حقوق الإنسان.

تحية إكبار للثوار:

التحية والتعظيم للشعب السوداني الثائر المتمرد بكافة ألوانه السياسية وبكل سحناته وأعراقه ورطاناته؛ والتحية والتجلة بل والإنحناءة للثوار الشباب والكهول والتحية وكامل الإجلال للكنداكات. نحييكم إكباراً وإنتم تنجزون هذه الثورة الفتية الشامخة العملاقة.

هذه الثورة ذات المعاني الكبيرة؛ وحّدت أهل السودان وجعلتهم يهتفون بصوت واحد ضد سياسات الإسلاميين الرعناء؛ تلك السياسات التي مزّقت النسيج الإجتماعي لأهل السودان وفرقتهم شعباً وقبائل؛ فقرّبت واحتضنت أهل مودتها والموالين لها من عضوية التنظيم؛ وأبعدت ولاحقت من يناصبونها العداء من غير أهل القبلة والتي أصبحت حكراً للصوص تنظيمهم؛ ليعلو بذلك صوت البندقية وتحتل رائحة البارود البوادي والمساحات ويسكن الرعب في نفوس ومهج الأطفال.

جاء الرفض قوياً هذه المرة لكل المفاهيم التي غرستها الإنقاذ وتعهدتها رعايةً وإشرافاً حتى شبت عن الطوق. جاء الرفض جماعياً وكاسحاً ومدمراً لكل ما بناه الإنقاذيون في العقود التي خلت. جاءت هذه الثورة لتغرس الجديد من المفاهيم الحضارية والإنسانية الراقية التي توحِّد بين بني الجلدة الواحدة وتغرس فيهم قيم المساواة والعدالة الإجتماعية ثم لتسدد الضربة القاضية لمفهوم القبيلة والتمييز العنصري.

شباب هذه الثورة والذي يبني مستقبل هذه الأمة؛ هو ذات الشباب الذي وُلِد وترعرع في هذا العهد المظلم؛ هو ذات الشباب الذي تغذى بالشعارات الفارغة الجوفاء؛ هي لله هي لله. هذا الكذب وهذا النفاق قد دفع ثمنه الباهظ هؤلاء الشباب فكانت العطالة وكان ضعف التحصيل الأكاديمي في الجامعات غير المؤهلة والمدارس غير المؤسسة بل والمعلم الذي ينقصه التدريب الفني ليخرِّج أجيالاً قادرة على صدام الحياة وبناء مستقبل مشرق. هؤلاء الشباب عاشوا كل مناخات الخوف والرعب بل والتهديد من هذه الشرزمة الباغية, التي مارست وطبّقت فيهم أقذر الممارسات اللا إنسانية في المعسكرات وفي سوح دور التربية والتحصيل.

إنها ثورة على التمييز العنصري النتن والبغيض, الذي أعادته الإنقاذ إلى الحياة وبثت فيه روحها؛ بعد أن دفنته برلمانات العهود الديمقراطية حياً ووارته الثرى؛ أعادته الإنقاذ فتياً وقوياً لينخر في جسد هذه الأمة ويصيبها بحالة من الشلل أقعدها عن اللحاق بركب الأمم المتمدينة فسادت أجواء المحسوبية والمحاباة بل وظهرت على السطح مفردات جديدة أضيفت لقاموس اللغة (كلمات ضهر- مسنود- الولاء-التنظيم) لتختفي من أدبيات الخدمة المدنية مفردات الكفاءة والتأهيل.

تباً لكم تباً لكم؛ نسيتم الله وتناسيتموه عمداً؛ فأنساكم أنفسكم؛ إنغمستم في الشهوات والملذات بل وولغتم في الفساد وغرقتم في القناطير المقنطرة والقصور المشيدة وتماديتم في تطبيق أحكام القرآن الكريم وشرائع السماء في (ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع).

هؤلاء الشباب عاشوا ربيع أعمارهم وهم جلوس تحت أعمدة الكهرباء في الأحياء المهمشة يكسو وجوههم الإحباط وتحتل نفوسهم أحاسيس الفقر والفاقة. فالمستقبل أمامهم قد أوصده الإسلاميون؛ فكان لابد من ثورة ثأر وإنتقام تعيد للإنسان السوداني عزته وكرامته المستلبة في رابعة النهار. ثورة تعيد للإنسان السوداني ثقته في نفسه وخبراته وقدراته على النهوض فيقتلع هذه الوساخات والقذارات من جذورها ويقذف بها وبكل عنف في مزبلة التاريخ.

النصر لنا ولا نامت أعين السفاحين.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..